تستمر المعارضة اللبنانية في الإعلان أن هدفها من الاعتصام المفتوح في وسط بيروت، هو تشكيل حكومة وحدة وطنية، تشارك فيها بعد حصولها على الثلث الضامن، لتأتي قرارات مجلس الوزراء موسومة بموافقتها خصوصاً تلك المتعلقة بالمواضيع الوطنية الرئيسة. وتستند في إلحاحها على تأليف حكومة الوحدة الوطنية، الى الديموقراطية التوافقية كون لبنان يتألف من طوائف عدة. وتعطي الحق لقادة الطوائف بالتلاعب بأمن الوطن ومصير كيانه، بحسب مصالحهم الخاصة وارتباطاتهم الخارجية، من دون الأخذ في الاعتبار مواقف الطوائف الأخرى التي تشكّل غالبية الشعب، ما يجعل الوطن أسير أهوائهم وتصرفاتهم. وتتنافى الديموقراطية التوافقية مع النظام الديموقراطي البرلماني المعتمد في معظم دول العالم ومنها لبنان، الذي يعطي الأكثرية النيابية الحق في تولي السلطة، من خلال حكومة تنبثق عنها، تنفذ برنامجها الانتخابي في الإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية والمالية، وإدارة شؤون الدولة وتسيير أعمالها. وتقوم المعارضة التي تتكون من الأقلية النيابية، بمحاسبة الحكومة على أعمالها وكشف أخطائها وتصحيح مسارها، في انتظار إسقاطها بالطرق الدستورية في مجلس النواب، في حال ابتعاد بعض نواب الأكثرية عنها وانضمامهم الى المعارضة نتيجة ضعف أدائها، أو فشلها في تطبيق برنامجها السياسي والإصلاحي، أو الانتظار الى الانتخابات النيابية المقبلة، على أمل الحصول على غالبية نيابية، بحيث تنقلب المعادلة، لأن الأساس في النظام البرلماني وجود غالبية تحكم وأقلية تراقب وتحاسب. والمطالبة باسم الديموقراطية التوافقية بتأليف حكومة وحدة وطنية، تشارك فيها الأكثرية والأقلية، مع امتلاك الأخيرة حق النقض بحصولها على الثلث المعطل أو الضامن، بدعة غير ديموقراطية تؤدي الى اشتباك سياسي داخل الحكومة نتيجة ما قد يحصل بين اعضائها من تجاذبات وخلافات حول القضايا المهمة وتفاصيل المشاريع، وينتهي الأمر الى اعتماد حلول رضائية لها تُبقي النار تحت الرماد، ما يؤدي في نهاية المطاف الى الفشل في تحقيق طموحات اللبنانيين. وباسم الديموقراطية التوافقية، تسدد الطعنات الى المؤسسات الدستورية في لبنان، ومنها: رفض رئيس الجمهورية التعامل مع الحكومة الحالية التي تحظى بشرعية دستورية، والتوقيع على المراسيم الخاصة بالمحكمة ذات الطابع الدولي وإجراء الانتخابات الفرعية في المتن، بذريعة ان الحكومة فاقدة الشرعية باستقالة الوزراء الشيعة منها، سنداً لمقدمة الدستور، على رغم ان استقالاتهم كانت لأسباب سياسية لا طائفية. وتراجع رئيس المجلس النيابي نبيه بري بسبب الضغوط التي تعرّض لها، عن موقفه من الحكومة بأنها دستورية وقانونية، لتصبح بعد ساعات غير دستورية وغير ميثاقية، ورفضه تسلّم العريضة التي وقعتها الأكثرية النيابية بحجج غير مقنعة، واقتراح تأليف حكومة من 19-10-1 وزيراً بحيث يكون"الوزير الملك"فيها، مقيّداً في حريته السياسية ومشروع اغتيال ممن يتربصون شراً بلبنان. فهل بدأت المؤسسات الدستورية التي يتباهى البعض بفاعليتها في الاندثار. وهل أصبحت الممارسات الديموقراطية التي يتشدّقون بها عُرضة لشتى التأويلات والتفسيرات؟ يقول قادة المعارضة في تصريحاتهم إن مطالبتهم بالمشاركة الفعلية في حكومة الوحدة الوطنية، هي قضية داخلية لتحصين الأداء الحكومي وتحسينه وترسيخ الاستقلال وتثبيت السيادة وإعادة اللبننة الى القرار الوطني، ولا تحمل في طياتها مطالب خارجية. بينما تشير الحال الى ان الخلافات الحادة الحالية بين الفريقين السياسيين الرئيسين، لها جذور إقليمية ودولية. ولولا ذلك لما تكبّد الأمين العام للجامعة العربية الدكتور عمرو موسى، مشقة التنقل بين الدول المؤثرة في الأوضاع اللبنانية، والتباحث مع قادتها في سبيل إنجاح مبادرته التوفيقية للمحافظة على وحدة لبنان ومسيرة السلم الأهلي فيه ونزع فتيل التفجير. ولما نزل"حزب الله"الى الشارع واعتصم في ساحات الوسط التجاري وشل الحركة الاقتصادية في البلاد، بذريعة طلب المشاركة الفعلية في الحكومة، لأنه كان شريكاً رئيساً فيها بدليل صدور جميع قراراتها بالتوافق والإجماع، عدا القرارين المتعلقين بالمحكمة الدولية، والسبب الرئيس لتحرّكه إفشال تأليف المحكمة أو تعديل نظامها لتصبح عديمة الفاعلية في جلب المشتبه فيهم الى العدالة ومحاكمة المتهمين منهم ومعاقبتهم، حماية للنظام السوري الذي تدور حوله تكهنات بارتكابه جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري من المحاسبة. وتوكيد السيد حسن نصر الله هذا الأمر في المقابلة الصحافية مع مجلة"العربي"المصرية، دليل ساطع على ترابط القضية اللبنانية بالمحور الإقليمي. وفي المقابل تريد الولاياتالمتحدة إقامة المحكمة، على أمل ثبوت تورّط النظام السوري في الجريمة، للضغط عليه لتنفيذ طلباتها وتوجهاتها في المنطقة، وزعزعة استقراره في حال عدم استجابته رغباتها. ويتفرّع عن الصراع الحالي حول المحكمة وحكومة الوحدة الوطنية، قضايا اخرى منها: رئاسة الجمهورية، حيث يطالب البعض بالتغيير الرئاسي للتخلص من الرئيس اميل لحود الذي يُعتبر في نظرهم رافعة للوجود السياسي السوري في لبنان، وأنه فقد بعد انضمامه الى المعارضة موقعه كحكم بين اللبنانيين. والتمثيل النيابي حيث يعتبر البعض الآخر ان المجلس النيابي الحالي لا يمثّل الإرادة الشعبية الصحيحة، ويطالب بإجراء انتخابات مبكرة وفق قانون انتخاب جديد. وبما ان لبنان بلد متعدد الطوائف، وتعتمد ديمومته على التوافق في ما بينها، فالمطلوب من قادته العودة الى الحوار والاتفاق بصورة نهائية حول جميع القضايا الوطنية المصيرية ومنها: هوية لبنان والوسائل الكفيلة بحمايته، ودوره في الصراع العربي - الإسرائيلي، وعلاقاته مع الدول العربية والأجنبية بحيث تكون مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بعيداً من المحاور الإقليمية والتأثيرات الخارجية، إلغاء الطائفية السياسية واعتماد اللامركزية الإدارية، الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والمالية، قانون انتخاب يؤمّن التمثيل الشعبي السليم، وتصحيح الخلل في الممارسات والتفسيرات الدستورية بتوضيح المواد الدستورية المبهمة، خصوصاً تلك المتعلقة بدور المؤسسات الدستورية وصلاحياتها، حتى لا تبقى عُرضة للتأويل. وتنطلق عندها مسيرة الديموقراطية الحقيقية، وتُصبح الخلافات التي قد تنشأ بين التيارات المختلفة، خلافات سياسية بعيدة من الطائفية والمذهبية. * كاتب لبناني.