لم يأت تقرير لجنة بيكر - هاملتون لجنة دراسة الوضع في العراق، الذي يحض إدارة بوش على تغيير سياساتها الخارجية، خصوصاً الشرق أوسطية، من فراغ، وانما جاء ضمن مخاضات وتفاعلات، داخلية وخارجية، حصلت على مدار السنوات الماضية، من عمر هذه الادارة وتجاربها. ويمكن إيجاز العوامل التي أسهمت في حصول هذه المخاضات والتفاعلات، في التالي: 1- اخفاق الولاياتالمتحدة في مشروعها في العراق، سواء بما يتعلق بالبعد الأمني تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أو بالبعد السياسي نشر الديموقراطية ومكافحة الارهاب. هكذا وبدلاً من أن يتحول العراق الى نموذج يحتذى به في مشروع"الشرق الأوسط الكبير"أو الجديد الأميركي، بات عبئاً كبيراً على الولاياتالمتحدة في المنطقة، خصوصاً مع الخسائر البشرية والمادية الفادحة التي باتت تتكبدها فيه، ومع حال التدهور الاقتصادي، والفوضى الأمنية والسياسية، والاقتتال الطائفي والمذهبي، والأنكى مع تزايد النفوذ الايراني فيه! ولا شك أن هذا الإخفاق أدى الى انكشاف السياسة الأميركية، داخلياً وخارجياً، وحرّض على وضع استراتيجية جديدة لخروج مسؤول أو مشرّف من هذا المأزق. 2- التداعيات الناجمة عن نجاح المقاومة اللبنانية في صد العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان تموز 2006، والتخوف تالياً من احتمال حدوث فوضى عارمة في لبنان، على خلفية الاستقطاب السياسي والطائفي الحاصلين فيه، بين الحكومة والمعارضة. والواقع فإن إخفاق العدوان الاسرائيلي على لبنان، أدى الى انكشاف واقع تآكل أسطورة الردع الاسرائيلي، وانتهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر، كما الى انكشاف الدعم الاميركي المطلق لاسرائيل، والذي بات يضر بالولاياتالمتحدة، وباسرائيل ذاتها، كما بأصدقاء الولاياتالمتحدة وحلفائها في المنطقة، من الدول"المعتدلة"، لصالح ازدياد النفوذ الايراني ومنظمات الاسلام السياسي المسلح في فلسطينولبنانوالعراق. 3- فشل محاولات اسرائيل في تطويع المقاومة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، واحتمال انهيار مشروع السلطة، أو مشروع التسوية، لصالح مشروع"حماس"، ما يفتح الأبواب أمام إعادة الصراع الى مربعه الأول. 4- تزايد المخاوف في أوروبا والولاياتالمتحدة من انتشار نفوذ الجماعات الاسلامية المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط، على حساب قوى الاعتدال والعلمانية، مع كل التداعيات الخطيرة الناجمة عن ذلك. 5- محاولة الغرب اعطاء أولوية لتحجيم دور ايران الاقليمي، واحتواء المخاطر الأمنية والسياسية، الناجمة عن سعيها لتملك السلاح النووي على حساب القوى الأخرى في المنطقة. 6- تصاعد شعبية منظمات المقاومة الاسلامية المسلحة، في العراقوفلسطينولبنان، خصوصاً"حزب الله"وحركة"حماس"، على حساب التيارات السياسية الأخرى. 7- فوز الديموقراطيين بغالبية المقاعد في انتخابات الكونغرس الاميركي مجلسي النواب والشيوخ، الأمر الذي عزز من العوامل الضاغطة على ادارة بوش لدفعها نحو ادخال تغييرات على سياساتها الخارجية الشرق أوسطية. 8- تشجّع القادة الأوروبيين، من التغير الأميركي، لتوجيه مزيد من الضغط على ادارة بوش، ودفعها نحو تغيير سياساتها الشرق أوسطية، بحيث تشمل إيلاء أولوية لتسوية الصراع العربي - الاسرائيلي، وصرف النظر عن محاولات تغيير الأنظمة بدعوى نشر الديموقراطية. ان قراءة متأنية لتقرير بيكر - هاملتون تبين أن ثمة افتراضات أساسية تحكمت بالاستنتاجات التي توصل اليها وإن تعمد التقرير حجبها أو التخفيف من وقعها أحياناً، ويمكن تمثل هذه الافتراضات في النقاط الآتية: 1- ضرورة الإقلاع عن استخدام القوة العسكرية، والتدخلات والابتزازات والتهديدات، لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط، أو تغيير سياساتها، كون هذه السياسة لم تجد نفعاً، في التعامل مع الواقع العربي الرسمي والشعبي، بل أدت الى تأزم الأوضاع في المنطقة، والإضرار بالسياسات الأميركية فيها، وربما في هذا الإطار تأتي دعوة التقرير لانفتاح سياسي على كل من طهران ودمشق. والحاصل ان سياسة التغيير بالقوة، التي جرى انتهاجها في افغانستانوالعراق، وقامت على تفكيك الدولة والمجتمع، من دون أفق سياسي واضح، أضرت بالمصالح الأميركية، وهي لم تنتج واقعاً أفضل، بدليل الفوضى الأمنية والسياسية والاجتماعية، الحاصلة في افغانستانوالعراق، وفي عموم الشرق الأوسط. 2- لا يمكن التعامل مع قضايا المنطقة كل على حدة، إذ ينبغي التعامل مع هذه القضايا كرزمة واحدة، مع إيلاء أولوية لنزع فتيل الصراع العربي - الاسرائيلي. وكان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أكد مراراً، بأنه لا يمكن تحقيق انجاز في العراق أو الشرق الأوسط، ما لم تتم معالجة الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، الذي يشكل جوهر أزمة الشرق الأوسط، وهو ما باتت تعترف به شخصيات نافذة في الادارة الأميركية، وضمنها كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية. وكانت الادارة الاميركية تصر على فك الارتباط بين قضايا المنطقة، بحيث تتعامل مع قضية العراق، مثلا، أو قضية"نشر الديموقراطية"، أو"مكافحة الارهاب"، أو قضية الصراع العربي - الاسرائيلي، كل على حدة، على رغم الترابط، وان غير المباشر بين هذه القضايا. الأنكى ان هذه الادارة ظلت تتعامل حتى مع قضايا الصراع العربي - الاسرائيلي، بشكل تجزيئي، فالتسوية مع الفلسطينيين ليست لها علاقة بالتسوية مع سورية، وهكذا! حتى على المسار الواحد، ثمة تعامل بقضايا جزئية، فعلى المسار الفلسطيني، مثلا، يتم التعامل مع قضايا مثل رفع الحصار، أو وقف الاعتداءات، أو الافراج عن الأسرى، أو فتح المعابر، أو الاعتراف بالحكومة، أو استئناف المفاوضات، كل على حدة! الأمر الذي قاد من فشل الى آخر، وبيّن ان السياسة الاميركية هي مجرد تغطية لسياسة الأمر الواقع الاسرائيلية. 3- الانتهاء من سياسة التغيير أو"نشر الديموقراطية"، من الخارج، على أساس ان هذه السياسة من شأنها جلب المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، لأنها تضعف استقرار الأنظمة القائمة، وتعزز نفوذ القوى الاسلامية المتطرفة. وقد أثبتت التجربة بأن هذه التدخلات التي افتقدت للصدقية، بحكم الشبهات التي تحيط بالسياسة الاميركية في الشرق الأوسط، كونها تدعم اسرائيل، وتغض النظر عن احتلالاتها واعتداءاتها واحتكارها التسلح النووي، وكونها تبتغي تعزيز الهيمنة الاميركية على المنطقة. وبسبب من هذه الشبهات فإن ادعاءات الادارة الاميركية بالاصلاح والتغيير ونشر الديموقراطية لم تنطل على أحد، فلا الأنظمة ولا الجماهير العربية، أخذتها على محمل الجد، فضلاً عن أن هذه الادعاءات والسياسات، أدت الى إضعاف الاستقرار في المنطقة، وإثارة النعرات الطائفية والإثنية فيها، وتجربة العراق شاهد على كل ذلك. وكانت السياسات الاميركية التي اعتمدتها ادارة بوش، بوحي من تيار"المحافظين الجدد"، على الغالب، والتي تأسست على السياسة الامبراطورية - الاحادية، واستخدام القوة، و"الحرب الوقائية"، بدعوى التغيير و"نشر الديموقراطية"، ومكافحة الارهاب، وإقامة"الشرق الأوسط الكبير"أو الجديد، لم تلق النجاح المطلوب، في أي مكان. والحاصل، فإن هذه السياسات أدت، فيما أدت اليه، الى توريط الولاياتالمتحدة في افغانستانوالعراق، وصرفها عن المساهمة الفعالة في ايجاد حل للصراع العربي - الاسرائيلي، وزعزعة علاقاتها مع الأنظمة العربية الراديكالية والمعتدلة على حد سواء، وازدياد الهوة بينها وبين السياسات الأوروبية. كذلك فإن هذه السياسات أدت، فيما أدت اليه، على الصعيد الداخلي، الى تراجع شعبية بوش في الولاياتالمتحدة، وفوز الديموقراطيين بغالبية مقاعد الكونغرس في الانتخابات الأخيرة. على ذلك يمكن اعتبار تقرير بيكر - هاملتون بمثابة مخرج مشرّف للولايات المتحدة الاميركية، من السياسات الخارجية التي انتهجتها، أو تورطت بها، ادارة بوش، خصوصاً في قضايا الشرق الأوسط، وقبل نفاد الوقت. فهل تستفيد ادارة بوش من هذه الفرصة السانحة، أم تمعن في سياساتها، وفي ورطاتها الصعبة، في العامين المتبقيين من عمر هذه الادارة في البيت الأبيض؟ * كاتب فلسطيني.