ماذا يعني في مهرجان من المهرجانات، أن يتطابق توزيع الجوائز في الحفلة الاختتامية، مع الاختيارات والتفضيلات نفسها التي كان نقاد كبار وصحافيون وفئات عريضة من الجمهور السينمائي الواعي قد أبدوها خلال العروض أي خلال الأيام السابقة لحفلة الاختتام ومنح الجوائز؟ يعني في بساطة تامة ان القوم هنا سواء كانوا محكّمين أو متفرجين، هواة أو نقاداً، شهدوا مهرجاناً سينمائياً حقيقياً همه السينما، موضوعه السينما وخلاصته حب هذا الفن. وتزداد هذه الصورة وضوحاً إذا ما اخذنا في اعتبارنا ان من حضر مهرجان مراكش في دورته السادسة التي اختتمت أعمالها قبل ايام قليلة، اكتشفوا في تظاهرات هذه الدورة المتنوعة، لا سيما في"المسابقة الرسمية"تحفاً سينمائية آتية من بلدان عدة، معظمها سيكون حديث محبي الفن السابع خلال الشهور المقبلة. وهذه صارت سمة، على أي حال، من سمات هذا المهرجان الطموح الذي يكاد يصبح أهم مهرجان سينمائي يعقد في بلد عربي، لولا قلة عدد الأفلام العربية التي تعرض فيه. وهذه حكاية أخرى بالطبع. إذاً، مساء السبت الفائت وزّعت لجنة تحكيم الدورة السادسة في المهرجان المراكشي، وهي برئاسة رومان بولانسكي، احد أعمدة الفن السابع في العالم منذ عقود، جوائزها قليلة العدد، على عدد أقل من الأفلام وقال بولانسكي لپ"الحياة"انه لو كان هناك جوائز على عدد الأفلام المتبارية لكان كل فيلم فاز بجائزة وأكثر، مشيراً بهذا، من موقع الخبير، الى المستوى الذي ميز معظم الأفلام المعروضة. والحال انه على رغم ارتفاع هذا المستوى كان واضحاً منذ البداية تميز فيلم"الببغاء الأحمر"، الألماني، الذي حصد جائزتين: جائزة افضل فيلم، وجائزة افضل ممثل، فيما فازت فاتو ندياي، الممثلة المالية الرائعة بجائزة افضل ممثلة عن دورها المركّب والاستثنائي في فيلم"ذات أحد في كيغالي"، وأعطت لجنة التحكيم الخاصة جائزتها الكبرى لفيلم"ستكون الورقة زرقاء"للمخرج الروماني رادو مونتيان. فهل علينا ان نذكر ان هذه الاختيارات نالت تصفيقاً حاداً، وإن أسف كثر لكون فيلم من هنا أو فيلم من هناك لم يحالفه الحظ؟ مصر الحاضرة مهما يكن من أمر، تلك هي قواعد اللعبة. وقد لعبت في مراكش بكل دقة ونزاهة. وهو أمر حتى إن لم يكن في حاجة الى تأكيد، أكده لنا مع هذا مخرجنا العربي المصري يسري نصر الله، العضو العربي الوحيد في لجنة التحكيم، والذي بدا في لحظات كثيرة محركاً أساسياً في عمل اللجنة، تماماً كما كان المخرج الكبير توفيق صالح دينامياً، على رغم ثقل السنين، هو الذي ان دعي الى مراكش ليكرّم، بأفضل تكريم كرس له حتى اليوم، ولتعرض له أربعة من أفلامه الأساسية، لم يفوت عرضاً ولا نقاشاً الى درجة انه قال لپ"الحياة":"المشكلة مع هذا المهرجان ان كل ما يعرض ويقال فيه مغر ومفيد"، لافتاً أنظارنا الى صعوبة ان تتاح للمرء فرصة مشاهدة أفلام كثيرة تعرض في مراكش، في أماكن اخرى، ولا سيما في الصالات العربية، فهي أفلام آتية من بلدان لا تصلنا أفلامها، ومن هذا علينا اقتناص الفرصة بشكل جيد... أليس كذلك؟". توفيق صالح ويسري نصر الله كانا نجمي مهرجان مراكش طوال ايامه العشرة، كما ان الفنانة الكبيرة يسرا، كانت نجمته لأيام قليلة إذ اتت تشارك في العرض الخاص الذي أقيم لفيلم"عمارة يعقوبيان"على هامش المهرجان. والحقيقة ان هذا العرض"على الهامش"كان واحداً من أنجح العروض، ما يعيدنا الى المكانة التي تحتلها مصر وسينماها في قلوب اهل السينما ولا سيما في مراكش. وما ينفي ما اتهم به بعض مسؤولي مهرجان القاهرة نور الدين صايل، رئيس مهرجان"مراكش"من"محاربة السينما المصرية والمهرجان القاهري". طبعاً هذا"الاتهام أثار ضحكاً كبيراً في جلساتنا العربية خلال الأيام المراكشية. كما أثار ضحكنا اتهام آخر جاء من دبي هذه المرة بأن مهرجان مراكش يحارب مهرجان دبي و... سينما الإمارات". فالواقع ان لا تنافس او محاربة هناك ولا يحزنون. كل ما في الأمر ان القسمة بدت واضحة: القاهرة والنيل وعراقة مصر والصخب لمهرجان القاهرة، السينما الحقيقية الخالصة وكبار نجومها الحقيقيون لمهرجان مراكش، وحديث الأرقام الصاخبة والمبالغ الخيالية لمهرجان دبي! وليس في هذا التقسيم مبالغة إذا ما صدقنا ما روي عن إغراءات مالية و"لوجستية"عرضها كثر تكلموا خلال الشهور الماضية باسم مهرجان دبي لاجتذاب النجوم والنقاد - ولكن ليس الأفلام! - بحيث قيل ان الهدايا التي أغدقت على صحافيين فضلوا حضور"دبي"على حضور"مراكش"كانت خيالية! وهو على أية حال أكده نجوم إعلاميون أتوا الى مراكش"مجاناً"وكانوا دعوا الى دبي. كما أكده ناقد عربي كبير روى لنا كيف ان صحافياً يعمل مع مهرجان"دبي"اخبره بأنه سينال ألوف الدولارات إن هو قبل الدعوة التي تحدثت سطورها الأولى عن سفر في الدرجة الأولى وفنادق خمسة نجوم وأكثر! جمهور لسينما المغرب طبعاً وسط العرض المميز للأفلام في"مراكش"بدا هذا كله بعيداً وخارج المنطق. فهنا في مراكش، الأهمية الأولى للسينما... والنجوم العالميون الذين يأتون، يتحولون بسرعة الى متفرجين هواة يتابعون الأفلام بشغف. غير ان الأمر لا يخلو مع هذا من تلك الصحافة الصفراء، التي انبرت، هذه المرة ايضاً، لمحاربة مهرجان"مراكش"كما تفعل دائماً وكما تفعل شبيهاتها في القاهرة ضد مهرجان القاهرة. ولعل خير مثال على هذا هو الخبر الذي تناقلته الصحف المغربية منذ اليوم الثاني للمهرجان من ان رئيس لجنة التحكيم رومان بولانسكي، اعتذر وسافر تاركاً اللجنة من دون رئيس. ولم يكن هذا صحيحاً بالطبع. كل ما في الأمر هو ان بولانسكي سافر لبضع ساعات، في طائرة وضعها أصدقاء له في تصرفه، حيث شهد حفلة تكريم رسمية له في عاصمة وطنه الأصلي، وعاد عند المساء ليتابع عمله في مراكش، عبر مشاهدة الأفلام. في مراكش كما في القاهرة هناك طبعاً من يحارب المهرجان ومن يحارب السينما... ومن يحارب كل ما هو متقدم وتنويري في المجتمع. وهذا بات قدرنا طبعاً. لكن الوطأة في مراكش تبدو أخف. يشهد على ذلك زحف الجمهور العريض لمشاهدة أفلام - تبدو أحياناً صعبة ونخبوية - والتمتع بها، بما في ذلك الفيلمان المغربيان الجديدان اللذان عرضا في المسابقة الرسمية ولم يحققا فوزاً أين الشوفينية المغربية التي تحدث البعض عنها!؟: فيلم"و. و. و. يا له من عالم جميل"لفوزي بن سعيدي، وپ"أفق أيها المغرب"لنرجس نجار. هنا، مرة أخرى، اجتمعا في مسابقة واحدة، هذان المخرجان الشابان، المختلفا الأسلوب والتوجه كلياً، بعدما كانا اجتمعا قبل سنوات في إحدى دورات مهرجان"كان"بفيلم روائي طويل أول لكل منهما "العيون الجافة"لنجار، وپ"ألف شهر"لبن سعيدي. على هذين الفيلمين كان التزاحم كبيراً. فالجمهور المغربي بات، في أيامنا هذه شديد الحرص على تشجيع سينماه الوطنية بعد أن صارت هذه السينما، نوعياً وكمياً، تضاهي السينما العربية الأم: السينما المصرية. قد يحب المرء هذين الفيلمين الجديدين وقد لا يحبهما، قد يستسيغ تجريبية بن سعيدي وقد لا يستسيغها غير ان هذا لا يلغي القفزة التي حققتها السينما المغربية خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ تسلم نور الدين صايل مقدراتها، ولا سيما منذ تنبهت السلطات نهائياً الى الإمكانات الكبيرة التي يتيحها تشجيع هذا الفن في بلد كان ولا يزال محط أنظار كبريات الشركات المنتجة في العالم التي باتت تصور فيه بعض أهم أفلامها "بابل"الذي عرض خلال المهرجان صور في المغرب، وكذلك"الأفارقة الفرنسيون"بين أفلام عدة أخرى. والحقيقة ان هذا الواقع المزدوج الجديد بدأ يجتذب الى المغرب كل أنواع أصحاب المشاريع، ولكن أيضاً كل أنواع المغامرين والنصابين. وفي هذا المجال يتندر أهل السينما المغربية اليوم، ليس من دون إبداء قلق مبرر، بحكاية"شركة"يرأسها مغترب لبناني أتت عارضة على الحكومة المغربية أن تمنحها تسهيلات وأراضي مجانية لإقامة استوديوات عالمية مستحدثة عن مشروع ببليون ونصف البليون من الدولارات، لتعلن أخيراً تأسيس شركة رأسمالها مليونا دولار فقط! لن نتوقف هنا طويلاً عند هذه الحكاية المعقدة، لكننا ذكرناها للإشارة الى المستوى الذي بلغه تجدد الاهتمام بالسينما في المغرب اليوم. أحوال العالم أما الاهتمام الآخر، الاهتمام بالفن السينمائي الكبير والحقيقي فقديم جداً. ومن هنا، إذا كان القيمون على مهرجان مراكش قد جالوا شهوراً طويلة في خريطة السينما العالمية لاختيار ما عرضوه هذا العام ولاختيار من يكرمون فإنهم لم يفعلوا هذا إلا لإيمانهم بأن جمهوراً عريضاً من الهواة يستحق أن تعرض له أهم الأفلام. ومن هنا كان طبيعياً أن يكون فيلم الافتتاح"المرحلون"تحفة سكورسيزي الجديدة الذي بعث رسالة مصورة يعتذر فيها عن الحضور لانشغاله في مشروع ملح، مبلغاً تحياته الى الشعب المغربي الذي كان خصّه بأفضل استقبال في دورة العام الفائت... وكان طبيعياً أن يكون فيلم ساد الصخب من حوله في مهرجان دبي وعومل كشيء استثنائي بوصفه فيلم الافتتاح، وهو فيلم"بوبي"عن اغتيال بوب كينيدي، قدم في عرض عادي في مراكش قبل أيام عدة من"الاحتفال الصاخب به في دبي". المهم ان السينما التي شاهدناها في مراكش هي سينما اليوم: سينما الأطلال على عالم اليوم. فهي، سواء أتت من الصين أو الهند، من كندا أو فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا أو استونيا، سينما تلقي نظرة ذكية على العالم وأحواله... لكنها ليست مثل النظرة القديمة، أي أيديولوجية، بل نظرة إنسانية تتفرس في ما يحدث من موقع الفضول ومحاولة الفهم. ينطبق هذا على مجمل ما عرض، لكنه ينطبق خصوصاً على الأفلام الفائزة. ف"الببغاء الحمراء"يعود الى برلين ودرسدن أوائل الستينات ليطل على الحياة وبدايات السجن الكبير من خلال ملهى ليلي كان يضج بموسيقى حديثة تكشف توق الشبيبة الى الحرية. وپ"كانت الورقة زرقاء"يطل على ذلك اليوم التاريخي في بوخارست، يوم قامت الثورة على تشاوشيسكو، واختلط كل شيء بكل شيء: الثوار ورجال الأمن وأجهزة الاستخبارات في ساعات عجيبة يصفها الفيلم بدقة من حول حكاية ثائر شاب وجد لزاماً على كل إنسان في رومانيا، ذات لحظة، أن يثور. أما الفيلم الذي أعطيت بطلته جائزة افضل ممثلة، فهو رابع فيلم عن الأحداث المأسوية التي عصفت برواندا قبل دزينة من السنوات وأدت الى مذابح سجلت كأردأ ما حدث في القرن العشرين. لكن هذا التاريخ الدامي روي لنا هنا من خلال حكاية حب رائعة بين صحافي كان أتى الى كيغالي ليحقق فيلماً عن انتشار السيدا، فإذا بالمذابح بين الهوتو والتوتسي تفاجئه، كما فاجأت كل السكان والأجانب هناك، وتدمر له حياة عاطفية كان بناها مع نادلة في الفندق، هي الرائعة جنتيل فاتو ندياي، التي قتلت الحرب روحها وجسدها بعدما كانت مقبلة على الحياة في شكل استثنائي. الكلفة زهيدة على هذا النسق نفسه مرت، كنسمة صيف حقيقية وإن بدت مثقلة بمآسي أزماتنا هذه، كل تلك الأفلام الرائعة التي شاهدناها طوال عشرة أيام في مراكش، وفيها أزواج يبحثون عن زوجات يختفين فجأة ثلاثة أفلام تتحدث عن هذا الموضوع على الأقل منها تحفة من إيران"تدريجياً"وأخرى من الصين وأطفال يقومون بالبطولة في شكل استثنائي "زهور حمراء"من الصين، وفيلم عن الأشباح والصداقة معاً، من ماليزيا... واستعادة الإيمان بالحياة والعمل في فيلم"دكان الأحلام"الاستوني... في اختصار، في"مراكش"ذلك المهرجان الصغير الذي يكبر ويكبر يوماً بعد يوم، شاهد جمهور متواطئ مع الفن السابع عاشق له، أفلاماً تقول قدرة السينما المتجددة على ان تندمج بالحياة. وقدرة الفن على ان تكون له، بعد، الكلمة الفصل في نظرتنا الى أحوال العالم. وتقول أيضاً وخصوصاً، قدرة مدينة عربية على أن تنظم احتفالاً سينمائياً حقيقياً، بكلفة مالية زهيدة... ولكن بحب كبير للفن، للسينما وللإنسان.