لسنا هنا في"كان"ولا في"البندقية"... وطبعاً لسنا في"برلين". ومع هذا ها هي صالة قصر المؤتمرات مملوءة بأكثر السيدات اناقة وبأكثر السادة تحذلقاً. وها هم واقفون فوق خشبة المسرح في قاعة"الوزراء"الرئيسة، مخرجون وممثلون سينمائيون قد يحلم"كان"او"برلين"او غيرهما من المهرجانات السينمائية في جمعهم في مكان واحد وزمان واحد. وكأن هذا لا يكفي: اذ ها هما مارتن سكورسيسي، المعتبر اكبر مخرج سينمائي حي في عالم اليوم، وعباس كياروستامي، عميد السينما الإيرانية وأحد كبار سينمائيي"الدول النامية"... ها هما يتبادلان امام صالة تتأرجح بين الصمت العميق والتصفيق المدوي، عبارات تحية وإعجاب تكشف حقاً، خلف المجاملات الودية، كم ان كلاً منهما يعرف سينما الآخر حق المعرفة. بل ان في عبارات سكورسيسي على قصرها وتلعثمها المحبب ما يمكن اعتباره نظرة تقويمية تدخل في صلب الأسس الفنية لبعض اجمل افلام صاحب"عشرة"وپ"أين منزل صديقي". هذا المشهد كان واحداً من اجمل المكافآت التي حصل عليها المشاركون في الدورة الخامسة لمهرجان مراكش السينمائي الدولي في المغرب، الذي اختتم فاعلياته على ذلك النحو الممتع قبل ايام قليلة. كان ذلك في حفلة الاختتام، قبل اعلان اسماء الفائزين في المسابقة الرسمية. والآن اذا أضفنا الى سكورسيسي وكياروستامي، جان جاك آنو صاحب"اسم الوردة"وپ"ستالينغراد"وپ"الدب" في دور رئيس لجنة التحكيم، والى جانبه رهط من فنانات وفنانين عالميين وعرب كبار، من بينهم التونسية التي صارت منذ سنوات نجمة اولى في السينما المصرية، هند صبري.... يصبح من حقنا ان نتساءل مندهشين: كيف تمكن المدير الفني للمهرجان ولولب حركته الناقد نور الدين صايل، ان يؤمن هكذا خلطة لمهرجان لا يزال يحبو في سنواته الأولى، ووسط فوضى تنظيمية مخجلة تبدأ منذ الاستقبال في المطار، حتى مغادرة البلاد؟! لم نحاب احداً عندما وقف آنو ليعلن بدء منح الجوائز، قالها بكل وضوح:"لم نحاب احداً، ولم نتبع اية معايير سوى المعايير السينمائية الخالصة. لم نعاقب الناجحين اصحاب السينما المزدهرة، ولم ننظر بعين العطف الى البائسين... جعلنا الفن معيارنا الوحيد"... والحال ان اعلان النتائج جاء مؤكداً هذا الكلام. اذ حتى وإن كان ناقد من هنا، وفنان من هناك، اعلن انه كان يفضل ان تذهب هذه الجائزة الى هذا الفيلم بدلاً من ذاك... او ان تفوز الممثلة الفلانية بدل زميلتها الأخرى، فإن قدراً كبيراً من الإنصاف ومن حس المسؤولية طبع اختيارات المحكمين. اذ علينا ألا ننسى ? في نهاية الأمر - ان الأذواق هي التي تحكم اصحابها. وأن الإجماع في مجال الفن مستحيل... وخصوصاً حين تكون الاختيارات للمتبارين في المسابقة، أصلاً، محيّرة، اذ لمرة نادرة.. كان مستوى الافلام الخمسة عشر المتبارية مرتفعاً ومتقارباً، حتى وان اتجهت التكهنات منذ البداية وجهات محددة، حيث برزت نصف دزينة من افلام شغف بها الحضور، من دون ان يسهو بالهم عن تميز ما تبقى. والحقيقة اننا اذا استثنينا حسرة عامة على عدم فوز الفيلم الدنماركي"رجل الصين"بأي جائزة وبخاصة بالجائزة الكبرى"النجم الذهبي" ستجدنا امام رابحين استحقوا حقاً جوائزهم، بما في ذلك فيلم الجائزة الكبرى"ساراتان"الآتي من بلد لا يعرف كثر شيئاً عن سينماه، هو قيرغيزستان احدى جمهوريات آسيا الوسطى المتفرعة عن الاتحاد السوفياتي... ومع هذا شكل فوز هذا الفيلم الظريف والعميق سياسياً مفاجأة لم تكن متوقعة تماماً، ما دفع البعض الى القول ان لجنة التحكيم - بعد كل شيء - سايرت الجنوب بعض الشيء. على عكس ما اكد رئيسها. ويمكن القول هنا ان هذا الكلام صحيح وغير صحيح في آن واحد: صحيح لأن"ساراتان"من منظور ما، لا يتفوق على افلام مثل"كريزي"الكندي وپ"باب المقام"السوري وپ"رجل الصين"الدنماركي... لكنه غير صحيح، من منظور آخر، لأن هذا الفيلم بفضل غرابته و"دقة"معالجته الفنية للمصير الاجتماعي لشعب ودولة، كما بفضل انتمائه الجغرافي، ما كان يمكن الا ان يلفت الانظار ويكرم، ليكرم من خلاله نوع سينمائي يبدو اليوم بعيداً من الانظار ومن الصالات ومن الجمهور العريض. واذا كان محمد ملص قد قال، حين منح من جانب لجنة التحكيم، جائزة النقاد الخاصة - مناصفة مع الرائعة الكندية"كريزي"-، ان جائزته هذه ستساعد فيلمه"باب المقام"كثيراً، فان قوله هذا ينطبق اكثر على"ساراتان"وجائزته. ويمكن لپ"رجل الصين"طبعاً ان يحظى بفرص اكبر، في مهرجانات مقبلة... كما في صالات العرض. العائلة الفائزة منذ البداية كان واضحاً ان"باب المقام"- وهو واحد من فيلمين عربيين عرضا في المسابقة الرسمية، والثاني هو"العيّل"للمغربي مؤمن سميحي - سوف لن يخرج من المولد بلا حمص... بل كانت بعض اوساط لجنة التحكيم قد سربت، انه مرشح جدي للجائزة الكبرى. فاذا اضفنا الى هذا التجاوب المدهش للجمهور العادي مع الفيلم حين عرض في صالة"كوليزيه"عرضاً مهرجانياً - جماهيرياً، هو غير عرضه الرسمي في"قصر المؤتمرات"، يمكننا ان ندرك سريعاً، المكانة التي احتلها هذا الفيلم في مهرجان مراكش، بخاصة وان الفيلم، الى ابعاده الفنية التي اتضحت وترسخت تدريجاً منذ ما قبل منتصف الفيلم بعد بداية فيها شيء من التكرار والتلعثم، يحمل موضوعاً هو اليوم في منتهى الراهنية والخطورة في العالمين العربي والاسلامي: مكانة المرأة ومكانة الفن واضطهادهما في مجتمعاتنا. مع هذا، لن يكون من الانصاف في حق سينما محمد ملص"احد كبار سينمائيي التجديد العربي منذ ربع قرن واكثر، ان تقول ان موضوع الفيلم يقف وراء نجاحه... فالفيلم يتميز - في نهاية الأمر - بلغة فنية عالية وبقدرة على متابعة موضوعه من دون مواربة، أو سيطرة على لعبة الممثلين معظمهم اتى لعبه استثنائياً... في هذا الفيلم أوصل محمد ملص، في معظم الأحيان، لغته البصرية الى ذروة تذكر بالتجديد الذي كان هو نفسه قد أدخله على السينما العربية في"أحلام المدينة"فيلمه الدمشقي... علماً أن"باب المقام"حلبي. ونحن نعرف ان ملص استعار حكاية"باب المقام"من حادث حقيقي عن امرأة قتلت على يد أخيها بتأليب من العائلة لأنها تمضي وقتها وهي تستمع الى أغاني أم كلثوم. غير ان محمد ملص، وكسينمائي كبير وراصد يقظ للمجتمع، تمكن بسرعة من تجاوز موضوعه ورسالته السياسية والاجتماعية، ليقدم عملاً سينمائياً يشي لديه بتطور كبير في التعامل، خصوصاً، مع المكان... وهو أمر سنعود اليه لاحقاً بالتأكيد. "باب المقام"فيلم"عائلي"أي أنه واحد من تلك الأفلام التي تسلك دروباً جديدة في الحكي عن العائلة... وهي دروب كانت واضحة الحضور في معظم أفلام الدورة الأخيرة لمهرجان"مراكش". موضوع العائلة غلب على كل المواضيع الأخرى كماً ونوعاً. غير أنه في"كرايزي"للكندي كوبيك جان مارك فالي، كان كلي الحضور. فالفيلم - الذي تقاسم مع"باب المقام"جائزة لجنة التحكيم الخاصة،"ساغا"عائلية حقيقية. ولكنها صورت من خلال ولادة وتحرر واحد من أبناء العائلة هو الرابع من بين خمسة صبيان أنجبهما زوج وزوجته - التي كانت تتمنى أن ترزق فتاة فلم توفق - وكلمة"كريزي"التي أعطت الفيلم عنوانه، تتألف من الأحرف الخمسة الأولى من أسماء الصبيان تباعاً وتعني في الوقت نفسه: مجنون، في الانكليزية. والجنون في الحقيقة سمة أساسية في هذا الفيلم الذي يتابع حياة هذه العائلة المتوسطة، على مدى ثلث قرن تقريباً، متوقفاً عند الأعياد الدينية وأعياد الميلاد ومناسبات الخطبة والزواج وما شابه ذلك. ان المرء يحس منذ البداية بتعاطف مع هذه العائلة، متأرجحاً تجاه هذا الفيلم بين دور المتلصص على حياة الآخرين، والشاهد المتورط على مشاكلهم. ولئن بدا لوهلة ان موضوع الفيلم غير جديد، بما في ذلك تحولات الصبي الرابع"زاك"ورحلة خلاصه - المسيحية جداً - في الديار المقدسة، فإن اللافت في هذا الفيلم انما هو لغته السينمائية المتفجرة والنادرة والتي تستفيد من كل التجديدات التقنية، بما في ذلك فن"الكليب"، في توليف بين الموسيقى والصورة والتمثيل - الرائع لكل ممثلي الفيلم، وخصوصاً لدى الفنانة التي لعبت دور الأم - وضروب الحنين والتمرد ومرور الزمن، والعلاقات المواربة والمباشرة... كل هذا في بوتقة فيلم من المؤكد اننا سنسمع عنه كثيراً خلال المرحلة المقبلة، اذ انه شكل، حقاً، مفاجأة مهرجان"مراكش"الأساسية لهذا العام. لكنه، طبعاً، لم يكن المفاجأة الوحيدة... هناك أفلام - مفاجآت أخرى، أتت داخل الفوز بالجوائز وخارجه. إذ حتى، لو لم يفز فيلم"غرفة الجليد"آيسبرغ البلجيكي بأي جائزة، فإنه بدوره كان فيلماً كبيراً ولافتاً. هو فيلم كوميدي، لكنه انساني في أعماقه، عن سيدة تدير مطعماً للأكل السريع يحدث لها ذات ليلة ان تعلق في غرفة التبريد وتبقى فيها، على شفير الموت حتى الصباح من دون ان يتنبه اليها أحد. ثم حين تُنقذ وتعود الى بيتها صباحاً، تدرك ان زوجها وولديها لم يتنبهوا بدورهم الى غيابها. فتفقد كل مذاق العيش... وتتبع تلقائياً وفي ضياع تام رحلة بيكارية تقودها الى القطب المتجمد الشمالي، باحثة عن دفء انساني تفتقده في بلاد الصقيع. لحظات موت معلن هذا الفيلم لم يفز بأي جائزة... وكان يمكن ان تذهب جائزة افضل ممثلة اليه، لكنها ذهبت الى فنانة أخرى، تستحقها بدورها، وربما أكثر. هذه الفنانة هي شيرلي أندرسون، الانكليزية الصغيرة التي حملت وحدها فيلم"متجمد"عن مراهقة تفقد اختها في ظروف غامضة لتبقى عامين وهي تبحث عنها، غير واثقة من غيابها، غير واثقة من حضورها. هي بالأحرى تبحث عن نفسها في عالم سوداوي كافكاوي متخبط. وسلاحها شريط فيديو صور آني - الشقيقة الميتة - في آخر لحظات حياتها، وإذ شاهدته كيث - بطلة الفيلم - آمنت بأن اختها كانت تريد ان تتوجه اليها بالحديث في اللحظات الأخيرة. في طول هذا الفيلم وعرضه، في أزقة المدينة المرفئية الضيقة، عند الميناء، في الشقق المظلمة، قرب أناس غامضين في أماكن غامضة، نحن لا نرى سوى كيث... أو بالأحرى، لا نرى سوى كيث وقد تلبست آني، أو آني وهي تهرب في كل لحظة من مطاردة كيث لها."متجمد"هو الفيلم الأول للمخرجة جوليت ماكون. ويعد، طبعاً، بمستقبل كبير للمخرجة ولممثلتها التي حين اعتلت الخشبة لتنال جائزتها، بدت مندهشة غير مصدقة ان تمثيلها لفت الأنظار. وفي تواضع مماثل اعتلى الخشبة نفسها، ولينال الجائزة نفسها، ولكن على التمثيل الرجالي، واحد من أكبر ممثلي السينما في العالم حالياً، وهو الانكليزي - الايرلندي الأصل دانيال داي لويس، الذي نال اعجاباً عاماً في دور بيلي الجزار في تحفة مارتن سكورسيسي"عصابات نيويورك"قبل ثلاث سنوات. دانيال فاز، هذه المرة، عن دوره في فيلمه الجديد"انشودة جاك وروز"من اخراج زوجته المخرجة الأميركية ريبيكا ميلر. الفيلم في حد ذاته عمل ثالث كبير لمخرجته، لكن الأهم فيه كان تألق داي لويس في دور رجل يقترب من الخمسين من عمره، ومن حافة الموت أيضاً... وها هو يستعيد العلاقة مع ابنته المراهقة، ليعيشا معاً أيامه الاخيرة في بيت منعزل في جزيرة منعزلة. هو ينتظر موته المعلن مناضلاً ضد ملوثي البيئة والبانين عشوائياً، وهي تنتظر برعب موته المحتم... وتقاوم كل من يحاول الدنو منه، بما في ذلك امرأة تعشقه وانتقلت مع ولديها الشابين لتعيش معهم. في النهاية يموت جاك على سريره في عزلة مستعادة مع ابنته. وتتابع هي حياتها بعد ان تحرق البيت والجثة معاً. فيلم غريب وحميم هذا العمل عن علاقة بين ابنة وأبيها... لكنه، بالتأكيد، فيلم صيغ ليدور من حول بطله... وهو امر أدركه دانيال داي لويس، فقدم فيه اداء استثنائياً حميماً وواقعياً، حنوناً وطريفاً، قوياً وهشاً... كما يمكن للفن الحقيقي ان يكون. والطريف الطريف ان دانيال داي لويس حين نال جائزته من بين يدي الفاتنة مونيكا بيلوتشي في حفلة الاختتام، قال بكل تواضع انه لم يكن يتوقع الفوز، مهدياً الجائزة الى مخرجة هذا العمل"الذي احببته كثيراً. لذلك مثلت فيه وأنا أعلم انه يضيف كثيراً الى رصيدي!". وبهذا الفوز المستحق وأكثر، اختتم مهرجان مراكش دورته الخامسة وسط تصفيق وحضور سينمائي حقيقي انسيا الضيوف عيوب التنظيم، وأظهرا كم ان فن السينما فن كبير... وفن تسامح ايضاً.