لا يتشارك الإسلام والمسلمون بفرنسا في تاريخ واحد. فتاريخ المسلمين يدور على مسألة الهجرة، والقدوم الى"الحاضرة"المستعمرة، وعلى مسائل اخرى هي غير مسألة الهوية الدينية. والى ثمانينات القرن الماضي، كان"مسلمو فرنسا"، أي من سموا لاحقاً على هذا النحو، مهاجرين وعمالاً. وكانت مطاليبهم، ونظرة المجتمع المضيف اليهم، والإعلام، والسلطات، تتناولهم على هذه الصفة المزدوجة، الهجرة والعمل، وطرأ منذ 1965، عامل جديد أرهص بنتائج عميقة الأثر، هو جمع العائلات المهاجرة. فأدار بعض المهاجرين المسلمين الى فرنسا ظهرهم للعودة الى بلادهم، واستقدموا عوائلهم الى مهجرهم الفرنسي. وآذن هذا بانعطاف علامته الأولى طلب المصلى والمسجد أو"أماكن العبادة". ورفد رافد قانوني وحقوقي هذا الطلب. ففي 1981، أجاز قانون الروابط والجمعيات الجديد للأجانب إنشاء روابط تجمعهم، وتعلن مطاليبهم وحاجاتهم. فوسع الأسر والعوائل المجتمعة، القادمة من البلد الأم الى مهجر الأب أو الزوج العامل، التوسل بالروابط الجديدة الى طلب الترخيص بالمصليات والمساجد. والحق ان قانون 1981 هذا خرج عن التقليد الفرنسي القاضي بحياد الدولة في المسألة الدينية، وبإحالة الدين والاعتقاد الى الافراد وخاصهم. ولكن تقليداً آخر حمل الدولة على استعمال المنظمات الدينية والعصبية القومية أو الاثنية أو العرقية في دمج الأجانب في المجتمع المضيف. وفي 1990، غداة 1989 - وهو عام ظهور قضية الحجاب بفرنسا، وبروز جبهة الانقاذ الاسلامية بالجزائر، والفتوى في دم سلمان رشدي بإيران - جمع وزير الداخلية الفرنسي لجنة ندبها الى النظر في سبل تنظيم المسلمين او في النهج المفضي الى هذا التنظيم. وفي نهاية مطاف النظر هذا، أقر انشاء المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية، في 2003، وأوكل اليه جمع الاتحادات الوطنية، والتنسيق فيما بينها في اطار مشترك. وفي الاثناء، تقدم التفرنس، من طريق التجنس وتعلم اللغة والزواج المختلط، على الهوية الدينية. وكانت الاتحادات الكبيرة التي هيمنت، فيما بعد، على المجلس أقرب الى بلدان المنشأ منها الى المهجر ومجتمعة، وضعيفة الصلة بالمسلمين المولودين بفرنسا لأهل قدموا فرنسا قبل جيل أو جيلين. والى اليوم، يغلب مهاجرو الجيل الأول على روابط الأحياء. ويشكو منصب الإمامة إمامة الصلاة في المساجد من الاقبال الضعيف عليه. والقرينة على هذا هي ان عدد الأئمة يكاد يكون ثابتاً: فهو زاد مئتين في الأعوام العشرة الأخيرة من 800 في 1995 الى 1000 في 2005 لا غير. وعلى هذا، فالأسلمة الفعلية ضيقة. فهي لا تبلغ الا قلة من المسلمين الفرنسيين، ولا تبلغ من تبلغهم من طريق الائمة بل تقتصر على المصادفات الفردية في اطار ثقافة الشباب والفتيان. واقتصر الانخراط في العبادات والشعائر، من صلاة وجَمْع في المساجد والتزام النواهي عن الطعام، في غضون العقدين المنصرمين، على جمهور بطيء التوسع، ولا يشبه الموجة العاتية التي يصفها بعضهم. وعلى هذا، فليست التلبية الجهادية مرآة غليان ديني عام، ولا ثمرته، بل تغلب عليها شراكة المصير والتهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وبينما يخشى كثيرون أن يجرّ الاسلام السياسي ويقصد به نشاط جماعات تسعى في تحقيق مشروع سياسي عملي يصدر عن نظرة واضحة الى السياسة، ويتوسل الى غايته بوسائل سياسية محض مثل التظاهر والعوائض والانتخابات... الى التطرف والغلو يبدو أفوله، الباب الى النزعة الجهادية، والى اضطرابات الضواحي. ولعل عنف الاضطرابات وأعمال الشغب هذه هو وليد الازمة الحادة التي أصابت أقنية التعبير السياسي والذاتي في اوساط المسلمين وبيئاتهم. وفي حين غلب المثال العلماني على بلورة الهوية الجماعية في اثناء الثمانينات، اصطبغت هذه البلورة، في العقد التالي، بصبغة الاسلمة. ولم يلبث الاسلام السياسي على المعنى المتقدم، واضطلاعه بتعبئة الاحتجاجات، أن أصيب هو كذلك، بأزمته. ولم تنجم الأزمة عن تطرق الضعف الى طاقة الجماعات السياسية على التعبئة. وإنما كان السبب فيها تخلي اتحاد المنظمات المسلمة بفرنسا، وهي كبرى الروابط والجمعيات الفرنسية وتنتهج نهجاً إخوانياً، عن مجابهة السلطات الفرنسية، وانعطافها الى استراتيجية طلب الاعتراف بها ورعاية شبكات الموالين والمحاسيب من الطبقات المتوسطة. وغذى الانعطاف هذا تذمر شطر من قاعدتها الاجتماعية معظمه من الشباب. وآية هذه الحال مؤتمر الاتحاد الأخير، في 2005، وتغليبه لغة ملساء وغير سجالية، ومماشاته نوازع استهلاكية غير متخفية. وأظهرت اضطرابات خريف العام نفسه بضواحي المدن، ان نفوذ الناشطين الاسلاميين فيها ضئيل. فهم كانت مصلحتهم تقتضي إظهار تمكنهم، وطاقتهم على ضبط الأحياء المعضلة، ومفاوضة السلطات الحكومية على الاعتراف بهم. وانحلت المواجهات عن إخفاقهم إخفاقاً ذريعاً. وظهر على الملأ ان الملتحين المندسين والمفترضين لم يكونوا وراء انفجار شغب الضواحي، ولم يكن وراء هؤلاء"اخوة مبجّلون"يتولون إطفاء الانفجار، ويعهد اليهم بإطفائه. ولا ريب، من وجه آخر، في ان الاسلاميين، السياسيين والدعاة المحرضين، كانوا حيث انفجر الشغب، جزءاً من مركب الضواحي الفرنسية الاجتماعي، من غير امتياز ولا دالة. والقرينة الثانية على موقع الإسلاميين الثانوي هو نشأة حركة"وطنيي الجمهورية البلديين"في كانون الثاني يناير 2005. فالمسلمون الشبان الذين أنشأوا هذه الحركة، نأوا بأنفسهم من الإيديولوجية الاسلامية. ومقالاتهم المعلمنة من جديد تندد بالوجه الكولونيالي الجديد الذي يلبسه تمييز الجماعات العصبية المتفرقة في المجتمع الفرنسي. ويثبت ظهور الحركة هذه نازع جزء من حركات المواطنين المتحدرين من المهاجرين الى علمنة هويتهم السياسية من طريق حملها على الثقافة العربية شأن حركة شبان المغاربة - الفرنسيين في الثمانينات، ثم على الهوية المسلمة في العقد التالي. وهم دخلوا دائرة العمل السياسي من باب"مواطنة الجمهورية"المقهورة أو المقموعة. عن باتريك هيني مراسل"انترناشينال كرايزيس غروب"بيروت "إسبري" الفرنسية، 10/2006