وصفت الصحافة الأميركيّة وبعض المحللين الأوروبين أعمال الشغب التي هزّت الضواحي الفرنسيّة بأنها ثورة المهاجرين المسلمين التي تمثل المؤشر على فشل نموذج الاندماج في المجتمع الفرنسي. ولكن لننظر إلى الامر عن قرب، بعيداً من مسألة ثورة المجتمع الإسلامي. إنه قبل كل شيء تحرّك قام به شباب يعيشون في الأحياء الفقيرة، معظمهم، وليس كلهم، من المهاجرين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجيل والبعد الاجتماعي هما أهم من العنصر الديني، بل أهم من العنصر العرقي أيضاً. أولاً هو عبارة عن تحرّك قام به شباب، وتحديداً الذكور منهم، ولا تتعدى أعمار نصف الذين أوقفوا الثامنة عشرة. وجمعت أعمال الشغب عصابات تراوح بين 30 و200 عنصر، بحسب المناطق، وفي كلا الحالين لم يكن سكان الأحياء هم الذين ينزلون إلى الطرقات. ثم استولى الشبان على سيارات الشارع أي تلك التي يملكها جيرانهم، ودمروا المدارس التي يعلم فيها السكان المهاجرون مثلهم أولادهم، أي أن عائلات الحي كانت أولى الضحايا. كما أن أعمال الشغب حصلت في ما يسمى"الأحياء الصعبة"، أي حيث يتمركز المهاجرون بكثافة وتكثر نسبة البطالة والفشل المدرسي. لا يتعلق الأمر إذاً بالضاحية الباريسيّة بمجملها ولا بمدينة باريس نفسها، بل يمتد على مئات الشوارع في كل أنحاء فرنسا. غير أنّ معظم هؤلاء الشبّان من الجيل الثاني هم مواطنون فرنسيون. ولا تتعدى نسبة الأجانب بين الذين اعتقلوا في المواجهات ستة أو سبعة في المئة فقط. ويبدو أيضاً وجود تعدد عرقي بين الموقوفين ما لا يفسح في المجال أمام التحليلات يضم الموقوفون إفريقيين غير مسلمين وشبّان يحملون أسماء فرنسية وايطالية وبرتغاليّة. هي ثورة المهمّشين وليست ثورة العرب أو المسلمين حتى وإن شكل هؤلاء أكثرية المهمّشين. أمّا خارج هذه الأحياء، فلم يحرّك أي مسلم ساكناً على رغم وجود عدد كبير من المسلمين الذين يعيشون خارجها، وهم على الأرجح ينمتون إلى الطبقة المتوسطة. وما يثير التعجّب هو عدم حصول أيّ حوادث في الجامعات التي تضم عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين الذين ينتمون غالباً إلى تيّارات سياسيّة. هؤلاء أيضاً لم يتحرّكوا. إذاً لم تحمل تحرّكات الضواحي أيّ طابع سياسي. وباستثناء بعض الشعارات التي طالبت باستقالة وزير الداخليّة نيكولا ساركوزي، لم تُرفع أيّ مطالب سياسيّة ولذلك السبب ربما حكم على التحرّك بالتقهقر. كما أنه ما من أثر لأي تعاون أو متحدث أو تنظيم. ولم نشهد أيضاً إنشاء أي هيئة تلعب دور صلة الوصل كما في حالات التحرّكات العفويّة التي قادها المزارعون والتلاميذ أخيراً في فرنسا. نستنتج من ذلك أن الثورة خالية من أي دافع عربيّ أو إسلامي، فلم نرَ على سبيل المثال أي علم فلسطيني أو جزائري. أمّا وضع"الكفيّة"على غرار الرئيس الراحل ياسر عرفات فكان رمزاً للمعارضة، غالباً ما اتخذه الشباب شعراً في تظاهرات الثمانينات. ولا نجد في أعمال الشغب التي تحدث حاليّاً أيّ رابط بالصراعات في الشرق الأوسط أو بالقوميّة العربيّة. فلم نشاهد شعارات معادية لليهود نفت الصحافة مراراً كلّ ما يبدو معادياً للساميّة عند شبّان الضواحي. ولم نرَ أيضاً شعارات دينيّة. أمّا الضجيج الذي رافق بعض ما ورد على مواقع الانترنت حول أنّ الشبّان كانوا يرمون القنابل قائلين"الله أكبر"فلا صلة له بالحقيقة مطلقاً. ولم تدلّ ملابس المتظاهرين على الدين الاسلامي بأي طريقة من الطرق لأنّهم كانوا يرتدون الملابس"الشعبيّة"التي تمثّل ثقافة المدن الغربيّة كالشبّان الأميركيين"السود"خصوصاً الثياب الرياضيّة الرماديّة والسترات من دون أكمام. وهم يستمعون الى موسيقى"الراب"و"الهيب هوب"ويأكلون الوجبات السريعة ويستهلكون المشروب ويحلمون بسيّارات جميلة ويتعاطون المخدّرات في بعض الأحيان. إنّهم"غربيّون"بكلّ معنى الكلمة وقد نقول انّهم"شاملون". ولا تتعلّق مطالبهم في حال عبّروا عنها، بحقّ ارتداء الحجاب في المدارس ولا بأمور الجوامع ولا بالذبح الحلال. لكنّهم في المقابل يحتجّون كلّهم على التمييز العنصري القائم على الشكل الخارجي الملامح. فهم لا يشعرون بعنصريّة الشرطة فحسب بل أيضاً عند مداخل الملاهي الليليّة وهذا أيضاً لا علاقة له بالدين الاسلامي. في معظم الحالات هم شبّان يأتون من مناطق مسلمة لكنهم لا يدعون الاسلام، ولا يدافعون عن الهويّة العرقيّة أو الدينيّة أو المناطقيّة. ففي فرنسا يطلقون اسم"شبّان ال4000"على سكان مدينة كورنوف أو"شبّان فال فوري"على سكان"مانت لا جولي". هم شبّان تجمّعوا وشكّلوا عصابات محليّة تعارض الشرطة، وخصوصاً العصابات الأخرى التي تأتي من الأحياء المجاورة. ويبدو أن هذه العصابات هي أبرز محركي أعمال الشغب، فهي غالباً ما تكون متورّطة بعمليّات تهريب صغيرة كتهريب المخدّرات وارتكاب الجنح. أمّا"القادة"الحقيقيّون في الأحياء فهم مهرّبو المخدّرات. ومعظم هؤلاء الشبّان رسبوا في المدارس وأصبحوا عاطلين عن العمل. وإذا بنا أمام مزيج من المساعدات الاجتماعيّة و"الأعمال"الصغيرة. كما انهم يعتبرون أنفسهم منفيين مهمّشين وهم متعلّقون بشدّة بالشارع حيث يسكنون، فكلّ مجموعة تدافع عن"أرضها"ضدّ المتدخّلين الذين يتسرّبون سواء كانوا من الشرطة أو الصحافة أو من عصابات الشوارع الأخرى وحتّى رجال الإطفاء. لا يتضامنون على أساس العرق أو الدين على مستوى البلد بل يتضامنون على أساس الشارع الذي يحكمونه. في الواقع، يتحدّر المشاغبون من طبقات اجتماعيّة متدنيّة، أي انّهم أشخاص لم يعودوا مندمجين في نظام الانتاج. كان أهلهم من العمّال فقراء ولكنهم يأتون بفائدة اجتماعية واقتصاديّ. الآن لم تعد للشبّان القدرة على الاندماج في العمل، بل يعتبرون آباءهم العمّال"فاشلين"لأنّهم يعملون بكد في مقابل أجور منخفضة، فينما يعيل بعض هؤلاء الشبّان ذويهم بفضل المال الذي يجنونه من التهريب. ونظراً إلى ظواهر الشغب المدنيّة في الغرب من لوس انجليس إلى السين سان دوني مروراً ببرادفورد نلاحظ بأنها تحمل نقاطاً مشتركة، كالإقصاء بسبب الوضع الاجتماعي والعرقي المتعلّق بلون البشرة أسود، لاتينيّ، عربي. ويقوم هذان العنصران معاً بتوليد التهميش الحقيقيّ لأنّ الطبقات المتوسّطة العربيّة الأصل لا تعاني هذه المشاكل في أوروبا، فلا نستطيع إذاً الفصل بين الخصائص الاجتماعيّة والعرقيّة. وتطرّقت الصحافة إلى دور المسلمين المتطرّفين، غير أنّ المنظّمات المتطرّفة لم تشارك في أعمال الشغب. فالجماعات المتطرّفة كتنظيم"القاعدة"ليست مهتمّة ب"جهاد"الضواحي: لماذا يهدرون الوقت في إحراق السيّارات في شارع لا يهمّ أحداً فيما يستطيعون الذهاب ل"الجهاد"في الفلّوجة أو وضع المتفجّرات في القطارات؟ بل على العكس، يأملون باستمالة الشبّان المحبطين بسبب غياب آفاق أيّ حركة أو الشبّان المتطرّفين بسبب القمع نعرف أنّ السجون هي مساحات للتطرّف الديني والسياسي بالنسبة للكثيرين من شباب الجيل الثاني. أمّا المنظّمات المعتدلة فندّدت بشدّة باللجوء إلى العنف وتقوم بدور الوسيط. وتسعى هذه المنظّمات لاكتساب شرعيّة أمام السلطات والرأي العام الفرنسي من خلال لعب دور الوسيط العاقل والمدافع عن فكرة"المسلمين والمواطنين". فيما ترفض بعض المجموعات الاسلاميّة الأخرى تدخّل المقامات الدينيّة في الأزمة الحاليّة لأنّها ترفض أي علاقة بين الإسلام والضواحي. لكن خارج هذه المنظّمات، صُدم الكثيرون من المسلمين المعتدلين والذين لا يعيشون بالضرورة في الأحياء بواقع أنّ الحكومة لم تقدّم الأعذار بعد أن طالت قنبلة مسيّلة للدموع أحد الجوامع. وأكّدت الأزمة أنّ الإسلام لا يُعامل كباقي الديانات في فرنسا وهنا يكمن مفتاح المشكلة: بينما تقوم مشاكل الأحياء الصعبة على الأوضاع الاجتماعيّة، يتمّ الخلط بين المسلمين وسكّان الضواحي. يُعتبر النقاش حول الاسلام على أوجه في فرنسا وهو الذي أوصل إلى سنّ قانون يقضي بمنع الحجاب في المدارس عام 2004. غير أنّ كلّ الخطابات السياسيّة ومقالات الصحف شدّدت على"أسلمة"مشاكل الضواحي، أي انّها جعلت من الاسلام الشبكة التي ينطلق منها أي تحرّك. ويواجه تحرّك أُطلق عليه إسم"لا عاهرة ولا مومس"التصرّف"الذكوري"لشبّان الضاحية ولكنّه أيضاً يرجع سبب مضايقة الشبّان للفتيات اللواتي يخرجن بمفردهنّ ومن دون حجاب الى الديانة الاسلاميّة. لكننا ننسى أنّ الاحياء المغلقة تتشابه كلّها مهما كانت ديانة سكّانها: ففي الأحياء التي يقطنها السود واللاتينيون في الولاياتالمتحدة نجد ظاهرة العصابات ذاتها المؤلّفة من الصبية الذين يتحكّمون بالشارع ويعتاشون من أعمال التهريب وهم بالأخصّ من محبّي سيطرة الذكور. فالرجوليّة هي التي تنتشر أينما سيطر العنف وليس لهذا أيّ علاقة بالدين. في الواقع، لا تعبّر هذه الأحياء عن الثقافة الاسلاميّة التي تسعى للاعتراف بها. فاللغة العربيّة اختفت وحلّت مكانها الفرنسيّة كما تفسّخت العائلات وانهارت سلطة الأب. ونجد اليوم الكثير من العائلات المغربيّة الأصل أحاديّة الأبوين، وفي معظم الأحيان يعيل الشبّان العائلة غالباً مال التهريب المشكوك في شرّعيته. أمّا التراتبيّة فهي سلطة القوّة والمال وليس العمر والحكمة، ولا نجد في هذه الأحياء قادة من رجال الدين، حتّى أنّ الإمام لا يتمتّع بسلطة خارج حدود الجامع. ولا يشكّل تعدّد الثقافات أي رهان لأنّ هذه الأحياء لا تعبّر عن ثقافة عربيّة مسلمة بل ثقافة متدنيّة المستوى مستوحاة من المدن الغربيّة، وهي ما يُسمّى بثقافة الشبّان أو ثقافة الشارع. فنموذج هذه الثقافة مستوحى عن الشبّان السود في أميركا وليس من القاهرة أو مكّة. والجدير ذكره أنّه في دبلجة أفلام هوليوود إلى الفرنسيّة، يتكلّم السود الاميركيون بلكنة شبّان الضواحي الفرنسيين. غير أنّ الشبّان الثائرين لا يطلبون الاعتراف بهم على أنّهم أقليّة لها حقوقها وخصائصها، فهم آمنوا بالنموذج الفرنسي القائم على الاندماج وأرادوا ان يكونوا فرنسيين حقيقيين لكنّهم يشعرون بأنّهم أخطأوا لأنّهم ليسوا فرنسيين سوى على الاوراق فقط. وهم في العمق يحتجّون على فشل نموذج الاندماج في المجتمع الفرنسي ولكنّهم لا يملكون نموذجاً آخر، لهذا يحرقون أدوات الترقية الاجتماعيّة التي أفلتت من بين أيديهم من مدارس ومراكز اجتماعيّة. غير أنّ غضبهم يرتدّ عليهم وهذا بالتأكيد ليس إنتفاضة. تشكّل الضواحي مسألة على حدة ومسألة الاسلام في فرنسا مسألة أخرى. لكن الطبقات المتوسّطة قدّمت نموذج الاندماج الايجابي. ومهما كانت المصاعب التي تواجهها فهي عبارة عن مواطنين فرنسيين مندمجين في النسيج الاقتصادي والاجتماعي. فهؤلاء غادروا الأحياء التي ولدوا فيها واشتروا منازل صغيرة وأسسوا تجارات في المدن وشركات للمعلوماتيّة، وبعضهم أطباء يعملون في المستشفيات... ولطالما تعرّضوا للاهمال ليس فقط من وسائل الإعلام بل أيضاً من رجال السياسة لأنّ الاحزاب السياسيّة الفرنسيّة لا تفتح لهم أبوابها. غير أنّ هذه الطبقة المتوسّطة هي من تحرّك عجلة الأعمال الحياتيّة الفرنسيّة. أستاذ في معهد الدراسات العليا في باريس، متخصص في الشؤون العربية والاسلامية.