يُنظر إلى خليفة الوقيان في الدوائر الأدبية والثقافية الكويتية بصفته شاعراً، لكن جزءاً أساسياً من اهتمام الشاعر وكتاباته انصرف إلى التاريخ، وتحديداً التأريخ من الزاوية الأدبية والثقافية وعلاقة ذلك بالوضعين الاجتماعي والسياسي، وفي هذا السياق يأتي إصداره الأخير"الثقافة في الكويت... بواكير واتجاهات". وإذا استثنينا كتاب الشاعر خالد سعود الزيد"أدباء الكويت في قرنين"الصادر عام 1967، بوصفه مرجعاً أرّخ لحركة الشعر في الكويت، فربما يعد كتاب محمد حسن عبدالله"الحركة الأدبية والفكرية في الكويت"الصادر بالتعاون مع رابطة الأدباء في الكويت، عام 1974، عن المطبعة الجديدة في دمشق، المرجع الثقافي والأدبي الأهم الذي أرّخ لظروف نشأة الثقافة في الكويت، مسلطاً الضوء على مختلف أجناسها الأدبية. لذا فإن صدور كتاب جديد يؤرخ لبواكير أو ظروف الحركة الثقافية في الكويت، ويربط ذلك بالحالة الثقافية والاجتماعية والسياسية وقتذاك من جهة، وظلال ذلك على الحالة الثقافية الراهنة من جهة أخرى، إنما يشكّل حدثاً مهماً على الساحة الثقافية الكويتية، وربما العربية بالنسبة للدارس والمهتم. اشتملت الدراسة على أربعة فصول هي: عوامل الاهتمام المبكر بالثقافة، وتناول الفصل طبيعة السكان والموقع والنظام السياسي والمؤثرات الخارجية، مظاهر الاهتمام المبكر بالثقافة، وتناول الفصل بدايات نسخ الكتب في الكويت، ثم تأليفها، وقدّم تعريفاً بالصحف التي صدرت منذ العام 1928 حتى مشارف الاستقلال، والمؤسسات الثقافية الأهلية، التيارات الفكرية السائدة في الكويت حتى العقد الثالث من القرن العشرين، وهي الاتجاه الإصلاحي، والاتجاه الديموقراطي، والاتجاه القومي، والاتجاه المحافظ، الريادات الإبداعية في مجالات الشعر والقصة والمسرح والموسيقى والغناء والفنون التشكيلية. إن قراءة الكتاب تظهر بوضوح أمرين حاول المؤلف ترسيخهما في أكثر من موقع، أولهما: أن الاهتمام بالثقافة في الكويت لم يكن في يوم من الأيام شأناً طارئاً على حياة الإنسان الكويتي، وثانيهما: أن الحالتين الاجتماعية والثقافية في الكويت، قامتا على الإصلاح والانفتاح والاستنارة، بعيداً من الانغلاق والغلو الديني، بالنظر إلى نشاط الكويتيين الأساسي، قبل اكتشاف البترول، في الغوص على اللؤلؤ والتجارة والسفر والتنقل بين موانئ الخليج وأفريقيا والهند، ومخالطتهم للآخر، وتأثرهم وتأثيرهم فيه."وبعد، فقد نتج عن اتصال الكويتيين بتجارب الآخرين، خلال ارتحالهم للتجارة وطلب العلم تنوع ثقافي تفاعلت عناصره وتلاحقت، فأفادت في إثراء النموذج الكويتي". إذا كانت المصادر التاريخية تذهب إلى أن مدينة الكويت أسست في العام 1022ه الموافق 1613م، فإن المؤكد هو أن مخطوطة"موطأ الإمام مالك"قام بنسخها مسيعيد بن أحمد بن مساعد، من سكان جزيرة فيلكا الكويتية في العام 1682، وأن هذه المخطوطة إضافة إلى مخطوطات أخرى كثيرة تشكّل اهتماماً ثقافياً مبكراً في الكويت، سبق قيام الكويتيين بتأليف الكثير من الكتب ومنها"نظم العشماوية أو الدرّة الثمينة"، وهي منظومة في الفقه المالكي للشيخ عثمان بن سند. نسخها راشد بن عبداللطيف بن عيسى، ويرجح أن يكون تاريخ تأليفها بين الأعوام 1802 و1805، خلال إقامة الشيخ عثمان بن سند في منطقة القرين في الكويت، قبل سفره إلى مدينة البصرة حين بلغ الأربعين من عمره، حيث إنه مولود سنة 1766. وتجدر الإشارة إلى أن كتاب"تاريخ الكويت"الذي طُبع في بغداد عام 1926، لمؤلفه الشيخ عبدالعزيز الرشيد يعدّ من الكتب المبكرة والمهمة التي يجب التنويه بها، لكونه قدم شرحاً وافياً للوضع: السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري في الكويت، بموضوعيه وجرأة وشفافية قلّ مثيلها، مما أثار حفيظة المتزمتين في الكويت وقتذاك، وهم قلة،"ودفعهم إلى الطلب من حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر أن ينزل بالشيخ عبدالعزيز الرشيد أقسى العقاب، ومن دون محاكمة". وعى رواد العمل الثقافي المستنيرون في الكويت أهمية ودور الصحافة، من خلال قدرتها على أن تكون لسان حال الحدث الراهن: السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري، وكذلك قدرتها على الوصول إلى الناس بمختلف شرائحهم، والتأثير في وعيهم. ولقد كان الكويتيون على صلة بالصحافة العربية منذ بداية القرن العشرين،"لكن الشروط اللازمة لصدورها لم تكن متوافرة، ومنها عدم وجود المطبعة. فضلاً عن المنغصات المثبطة للهمم، المتمثلة في الشكوك التي أثارها بعض علماء الدين المتشددين، تجاه الصحافة"، ما دفع بالرعيل الأول من الصحافيين والأدباء الكويتيين إلى التوجه إلى البصرة. فقد أسس السيد عبدالوهاب الطبطبائي جريدة"الدستور"عام 1912، وأعقبها بجريدة"صدى الدستور". وأصدر السيد هاشم الرفاعي جريدة البصرة اليومية في شباط فبراير 1934. واستمرت بالصدور إلى تاريخ احتجابها في تموز يوليو 1937. كما ساهم جاسم حمد الصقر بتأسيس دار نشر وطباعة أصدرت جريدة" الناس"في شباط 1947". إن الدارس والمتتبع لتاريخ الحركة الثقافية والفكرية في الكويت، يرى بوضوح أن المبادرة الشعبية كانت على الدوام هي الباعث الأول على تأسيس المشاريع الثقافية، وبما يؤكد تولي المجاميع الشعبية المستنيرة والإصلاحية زمام الحراك الثقافي والفكري، إيماناً منها بدور العلم والأدب، وسعياً للنهوض بالوطن، والأمثلة على ذلك كثيرة، ففي سنة 1911، أنشئت أول مدرسة نظامية هي المدرسة المباركية بتبرعات شعبية، وفي العام 1913 افتتحت الجمعية الخيرية العربية، ويعود الفضل الأول في إنشائها للشاب فرحان بن فهد الخالد."وقد حققت الجمعية الخيرية الكثير من أهدافها، فأنشأت مستوصفاً صغيراً لعلاج المواطنين مجاناً، وأقامت مكتبة زودتها بالكتب والصحف، ودعت الشيخ محمد الشنقيطي للوعظ والإرشاد، فكان يلقي الأحاديث الدينية في المساجد والجوامع، ويحث الناس على العلم والأخذ بأسباب الحضارة". ويمكن النظر إلى مكتبة الجمعية بوصفها المكتبة العامة الأولى في الكويت. والجدير بالذكر أن المرأة الكويتية كانت إلى جانب الرجل مشاركة في المشاريع الثقافية، كالسيدة سبيكة الخالد التي تبرعت للمدرسة المباركية عام 1911، والسيدة شاهة الصقر التي تبرعت للمكتبة الأهلية عام 1922. ويرى الوقيان أن"النموذج الكويتي قام على أساس تنوع المنابع الثقافية، وتجذّر مبدأ الحرية والديموقراطية، والانفتاح على الآخر والتفاعل الإيجابي معه، ونبذ الغلو، ومقاومة ثقافة احتكار الحقيقة"، ويحاول الكتاب في أكثر من موضع تأكيد هذه المقولة، ويتناول بالشرح المسهب وقوف رجالات الفكر والأدب والاستنارة في الكويت في وجه المنادين بالدعوات السلفية، كون علماء الكويت وأهلها كانوا على الدوام أكثر ميلاً نحو المنهج الإصلاحي بعيداً من الغلو والتشدد. في الفصل الرابع"ريادات إبداعية"يقدم المؤلف معلومات في غاية الأهمية، ربما لا يتسع المجال لبيانها، وربما احتاجت لتناول آخر قائم بذاته، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى ربط الدراسة لبدايات الشعر والقصة والرواية والموسيقى والتشكيل، بسياقها الاجتماعي والسياسي وبالأسانيد التاريخية الواضحة. كالإشارة إلى تاريخ صدور أول رواية كويتية"آلام صديق"لمؤلفها فرحان راشد الفرحان في العام 1948، وليس رواية"مدرّسة من المرقاب"التي صدرت في العام 1962 كما سبق وأن أجمع أكثر من مصدر ودراسة. ويتطرق الفصل إلى عبدالله الفرج 1836 - 1901 بصفته أكبر وأشهر أعلام الغناء والموسيقى في الكويت، وكذلك باعتباره أول من اشتغل بالرسم. وأن المطرب عبداللطيف الكويتي سجل أول أسطوانة له في بغداد عام 1927م. وأن أول معرض تشكيلي أقامه الفنان معجب الدوسري كان في المدرسة المباركية بتاريخ 9/6/1943. إن كتاب"الثقافة في الكويت... بواكير واتجاهات"لمؤلفه الدكتور خليفة الوقيان، وبما حوى من معلومات وأسانيد وشروحات يعد إضافة مهمة للمكتبة الكويتية والعربية، ومرجعاً ثقافياً واجتماعياً لا يمكن الاستغناء عنه، آخذين في الاعتبار قامة المؤلف الإبداعية العالية، وصلاته الثقافية والأدبية، ومعرفته بمختلف أطياف الفكر والثقافة والاجتماع في الكويت. إن الدكتور خليفة الوقيان يقدم الفكر والإبداع والثقافة بوصفها عناصر مهمة من عناصر تكوّن أي أمة من الأمم، وكون هذه العناصر لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن حركة المجتمع الرسمية والشعبية. إضافة إلى كونها انعكاساً حياً لنبض وإرادة المجموعة الواعية والمستنيرة في المجتمع، وأخيراً فإن الكتاب في المحصلة يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك جذور الانفتاح الكويتي على الرأي الآخر، ونبذ المجتمع للغلو والتشدد، وربما شكّل ذلك المعادلة الأكثر تميزاً في تركيبة المجتمع الكويتي.