أكّدنا دائما أن الخطر المحدق بالنظام السياسي في إسرائيل الذي أراده مؤسسوها أن يبدو ديموقراطيا يكمن في يمين الخريطة السياسية وليس في يسارها، وهو يمين سياسي فكري متجذّر ومنتشر في كل الأحزاب الصهيونية على هذا النحو أو ذاك. حتى إننا نعتبر اليسار الصهيوني في غالبيته يمينا بالمعايير الأوروبية! فالمتتبع لتطوّر الفكر السياسي في اسرائيل لن يجد صعوبة في اكتشاف حقيقة أن قوى اليسار الصهيونية التقليدية على تحولاتها وتشكّلها الحزبي لم تستطع الإقلاع عكس الزمن أو خروجا عنه فلم تبتعد كثيراً عن مواقع البدايات وهي مواقع غارقة فكراً وممارسة في سلسلة من الخطايا وفي رأسها التطهير العرقي والترحيل والعزل. اما اليهود الذين اعتقدوا ولو بسذاجة بإمكانية العيش المشترك في فلسطين ومع أهلها تمت إزاحتهم عن الطريق وبشتى الطرق والذين أرادوا أن يظلّ الوجود اليهودي في فلسطين كيانا ثقافيا على غرار ما كانه في أوروبا لقرون كما في بولندا مثلا وليس سياسيا، فقد تم إقصاؤهم عن صفحات التاريخ تماما. أو لنقل كانت الغلبة لذاك التوجّه الصهيوني الصدامي الذي رأى في حلوله في المكان نفيا لأهله وانه لا يُمكنه أن يحقق ذاته إلا عبر إلغاء الفلسطينيين بكل ما في هذا المصطلح من دلالات. أما حركة العمل بقيادة ديفيد بن غوريون التي تعرض نفسها ويسوّقها مؤرخوها على أنها كانت صوت الاعتدال أو الخيار البراغماتي فانها كانت في واقع ما حصل ويحصل محركاً للمشروع الصهيوني إلى غايته، وهي إحلال الوطن القومي اليهودي في المكان الفلسطيني وبثمن تطهير المكان من أهله. نسوق هذه المقدّمة لقراءة السياسة الإسرائيلية الحزبية الآن التي تحمل في طياتها مدلولات أبعد من السياسة إذا ما استدللنا من"السياسي"على الوجودي، ومن الوقائع على الاحتمالات. فالأمر ليس بشأن توزير اليميني أفيغدور ليبرمان السياسي الإسرائيلي العريق في كشف أحلام الجماعة اليهودية بخصوص الجغرافيا السياسية وما عليها وفيها. فهو في الوقت نفسه يكشف أزمة المجتمع اليهودي في فلسطين وانغلاق الغيتو الذي أنتجه على المشروع الصهيوني وعلى احتمالاته. وهي أزمة تتجسّد في تحطّم نظرية"الحتمية التكنولوجية"أو"الأصولية العلمية"كما أسماها البعض والقائمة على فرضية أن التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي المطلق والرهان عليه من شأنه أن يضمن النصر الدائم لإسرائيل دولة ومجتمعا على كل خصم وييسّر لها أن تتغلّب على كل تحد! ومن هذه الفرضية خرج المجتمع اليهودي بواسطة قواه"الليبرالية"إلى تطوير ديموقراطيته تحت سقف الشوفينية اليهودية وثوابتها غير المتغيّرة تقريبا. بل إن هذه الديموقراطية وهذه الليبرالية ظلّتا أسيرتين تتعثران عند التقويم وحساب التاريخ، فلم تعترفا لا بغبن تاريخي أحدثتاه بحق الفلسطيني الذي هُجّر ولا بحق الذي بقي والذي أُخضع للاحتلال، ولا بحق اليهود الشرقيين الذين تم استقدامهم من الفضاء العربي لتتم"أشكنزتهم"أو تغريبهم لأنهم يعطلون النظرية القائلة بأن اليهودي الصهيوني نفي للشرق ومن فيه! بمعنى أن هذا المجتمع الذي يحسب الصراع بدءا من العام 1967 لم يستطع أن يُصالح نفسه مع ما اقترفته يداه ولم يستطع أن يقرأ تاريخه العنفي والكارثي إلا كحلول فيه على خانة الضحية فحسب. لم يقترب، إلا في مرحلة قصيرة وبخجل، من عملية المصارحة مع الذات عندما شرع مثقفو ما بعد الصهيونية والكولونيالية بالبوح ضمن أجواء اتفاقيات أوسلو بيني موريس وغيره. لكن سرعان ما انكفأ قسم منهم عائدا إلى السير في الثلم، يعدّ التاريخ كما عدّه سلفهم. في مثل هذه الأجواء يُمكن للمجتمع اليهودي أن يكرّر نجاحاته وأخطاءه. وفي توزير ليبرمان ما يرمز ليس إلى طبيعة التحولات السياسية في إسرائيل الآن وإنما إلى حقيقة أبعد وهي إن فكرة التطهير العرقي كانت ولا تزال ضمن احتمالات وخيارات هذا المجتمع! كأن النخب الإسرائيلية التي انكشف إخفاق نظريتها بشأن"الحتمية التكنولوجية"في حسم الصراع مع العرب والفلسطينيين وتأمين الوجود في فلسطين، تنكفئ إلى نقطة البداية عندما كان الحلّ عبثا بالديموغرافيا ورهانا عليها فشهدنا النكبة ومفاعيلها إلى يومنا هذا. أي أن هذه النخب تعتبرها ذروة النجاح وتحقيق الأهداف ولا بأس من العودة إليها. وعلينا أن نرى هنا ذاك الرابط بين توزير ليبرمان وبين الحرب الأخيرة على لبنان وهي حرب لجأت فيها إسرائيل مرة أخرى إلى قدرتها التدميرية وعلى نحو لا يتناسب أبدا مع ما حصل على الحدود مع لبنان. بمعنى أن المجتمع الإسرائيلي مستعد في لحظة ما للإتيان بالمروّع والكارثي من أفعال وسياسات. وهو ليس غريباً وإن كنا مغرمين كعرب بالاستغراب والاستهجان من حين الى حين علماً أن تاريخ الصراع لم يترك سيناريو إلا وأرانا إياه بالألوان وبأكثر من عدسة ولغة. ما لم يُحسم بالقوة سيُحسم بمزيد منها! ولا أرى ليبرمان في"فلسفته"التي لم يجدد فيها عن سلفه كلمة واحدة إلا تجسيدا لهذه المقولة التي تنطوي على احتمالات الجرائم الإسرائيلية الآتية. وليبرمان الرجل ليس مثار قلقنا وإنما ما يرمز إليه من خيار عنفي قائم في النخب الإسرائيلية اليهودية الجديدة التي نراها استنساخا لنخب المؤسسين الذين استفادوا من أجواء الحرب العالمية الثانية لينقضوا على فلسطين وأهلها بغير رحمة متذرّعين بعدل المسألة اليهودية وما لحق باليهود من تهلكة جراء المحرقة التي أضرمتها النازية. المقلق هو هذه الشرعية المتجددة لحلول عُنفية تتوخى الخروج من عنق الزجاجة الذي دخلته إسرائيل بعد حرب لبنان الأولى. إن إخضاع الفلسطينيين هو الخيار الاستراتيجي الوحيد حتى الآن للمجتمع اليهودي في فلسطين مذ قرر عدم الاعتراف بإنتاج المسألة الفلسطينية. وقد فشل هذا الخيار، فلا الفلسطينيون خضعوا ولا اختفوا من المكان. وهذا ما أثبت العجز عن تحقيق هذا الخيار الأمر الذي ولّد حالة من الاحتقان الشديد ومن الرغبة في تلقين الفلسطينيين درساً آخر عبر ضربة قاضية أو ما يشبهها، خصوصاً أن قدرة الردع الإسرائيلي قد تضعضعت منذ الإخفاق الأول في لبنان العام 1983 والانتفاضتين الأولى والثانية. أما هذا الاحتقان فيدفع بكل طاقات هذا المجتمع ويستنفرها في محاولة، لا بدّ آتية، للحسم. ومن هنا فليعذرنا المراقبون والمعلّقون الذين يملأون الفضائيات العربية وتعجّ بهم الإذاعات إذا لم نوافقهم الرأي أن الأمر لا يتعدى كونه محاولة من أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية لحماية كرسيه وائتلافه الحكومي الهشّ. إن ضمّ ليبرمان إلى الحكومة في الحيز السياسي أشبه من ناحيتنا بإقامة جدار الفصل العنصري في الحيز المكاني. فكلاهما مؤشر الى ذهنية سياسية وأنساق تفكير بشأن الفلسطيني ومكانه. وهما فعلان يمزجان بين القوة والخوف والأزمة أو المشكلة. هناك قوة عسكرية وسياسية مدعومة دوليا وخوف يهودي من خسارة الرهان مقابل التاريخ والمكان ومشكلة يجسّدها الفلسطيني، فجاء الجدار للعزل المكاني يخفف من وطأة الديموغرافيا وكذلك الانسحاب الأحادي الجانب من غزة. وها هي السياسة ذاتها تنفّذ في الحيّز السياسي الذي يجيء بليبرمان كما جيء بالجدار في حينه. ولنذكر أن فكرة الجدار كما هي مجسّدة على الأرض أتى بها اليسار الإسرائيلي في فلسفته أولا، وفي سياساته ثانيا. فمنذ البداية كانت الفكرة التي تحبّذها القوى المتنفّذة في الحركة الصهيونية هي الفصل بين اليهود والفلسطينيين في مساحة المكان. وقد ذهبوا في هذا الخيار الى حد التطهير العرقي. وها هي الفكرة تتكرر بواسطة الجدار أو بمنح الشرعية التامة لليبرمان كوزير لشؤون القضايا الاستراتيجية كشخصية تمثّل خيار التطهير العرقي من جديد! ما يحدث في إسرائيل الآن عودة إلى نقطة في البداية وهي تجديد خيار التطهير العرقي الذي تريد النُخب الإسرائيلية أن تلوح لنا به لعلنا نعتبر! ولا شكّ في إن الصوت وإن بدا لليبرمان وحزبه لكنه يمثّل صوتا جماعيا يهوديا يُعبر عنه من حين لحين ومن أعلى المنابر ومن أكبر المسؤولين في الدولة. ولكن يحصل هنا ما يحصل في احتساب الصراع وما ألحقه من غبن. فإذا ذكروا ليبرمان فإننا نستعيذ ونبدأ بالتحسّر على أيام"ليكود"وشارون والعمل وبيريز وبقية الشركاء في صنع المأساة الملهاة. يذكرونه على مسامعنا فنلعنه ونشرعنهم أو نتوسّل منهم ألا يشركوه في حكومتهم! تماما، كما علقنا منذ سنين طويلة عند منعطف الاحتلال، يُخضعونه للنقاش أو يعتبرونه اليهود بداية انزلاقهم فننسى النكبة والتشريد والتهجير والتطهير العرقي ونُغفلها لنتمحور في احتساب الصراع بدءاً من حزيران عام 1967 ! إن انضمام ليبرمان إلى الحكومة في إسرائيل، في حقيقة الأمر، لا يطهّر أيا من السياسيين الإسرائيليين في اليسار أو في اليمين ولا يمكنه أن يحوّلهم أبطال سلام واعتدال وديموقراطية، لأن المسألة لا تكمن في التسميات ولا في الأشخاص وإنما في الفلسفة السياسية التي أنتجتها النخب اليهودية في فلسطين منذ بدايات عهدها بالمكان بل من قبل. إن ليبرمان دلالة أخرى من دلالات تجذّر فلسفة عنصرية منتصرة عسكريا ومتسلّحة بنظرية التفوق التكنولوجي وبأصولية علمية تنتج في اليوم الواحد ألف ظاهرة مشابهة. وهو ما يقلق سيما أن اجتماع الخوف والقوة فوق هذه الفلسفة ينذر بوقوع الأهوال وهو أمر غير محصور في التجربة اليهودية فحسب بل في كل شعوب الأرض قاطبة، وقد نستثني شعب التيبت حتى يظل لنا أمل بدحض النظرية! كأن أولمرت وبيرتس يستدعيان ليبرمان للقيام بما يفكران به لكنهما يخجلان من تنفيذه! وفي البدء كان التطهير العرقي وقد يلجأون إليه الآن تحت غطاء حرب استباقية وما قد ينشأ عنها من تبريرات. وقد يجدون في الخوف اليهودي الجماعي ما يكفي من شحنات لتدمير البشر والحجر! * كاتب فلسطيني - دالية الكرمل