غير واضح حتى الآن ما إذا كانت خطة شارون للانسحاب من قطاع غزة ستوضع موضع التنفيذ أم لا. وغير واضحة حدود الخطة أو مواعيدها. وغير واضح مصير حكومة شارون وتشكيلتها في ضوء المفاوضات لضم حزب العمل وأحد الأحزاب الدينية. وغير واضح مستقبل شارون في حزبه ليكود، في ظل التمرد عليه من الجناح اليميني فيه. الواضح الوحيد في الأمر هو ان السياسية الاسرائيلية تنزلق بسرعة الى أزمتها في اطار مأزق شمولي تعيشه منذ البداية، كامن في ازدواجية بنيوية تأسست عليها الدولة وسياساتها في كل مجال، ازدواجية قاعدتها هذه المحاولة المستحيلة للدمج بين"اليهودية"وبين"الديموقراطية"أو بين"التنوير"وبين"الاحتلال"، بين أفكار وقيم"الليبرالية"وحقوق المواطن والانسان وبين دوسها الوحشي كل لحظة وساعة. يتفق علماء السياسة والمجتمع في اسرائيل على فرضية انها دولة"الديموقراطية العرقية"وأنها مثابرة في تكريس غالبية يهودية فيها وان نخبتها اليهودية أخفقت في انتاج"دولة الأمة"، بل تدعي أوساط واسعة منهم ان النخب لم تقصد أصلاً بناء"دولة الأمة"بادعاء ان اسرائيل قامت على أنها"بيت قومي لليهود"وتصرّ النخب على ان تبقيها كذلك من خلال الوضع الدستوري والتشريع، ومن خلال اعتماد سياسات منهجية في عدد من المجالات كتشجيع الهجرة اليهودية - وغير اليهودية أيضاً كما حصل في العقد الأخير مع الوافدين من الدول السوفياتية سابقاً -، وتكريس علاقة الدولة بمؤسسات قومية يهودية فوق الدولة مثل الجاليات اليهودية حيث هي وهيئاتها، والوكالة اليهودية و"الكرين كييمت"المتخصصة بالاستحواذ على الأرض وامتلاكها كبنك يحتفظ بهذا المورد كاحتياط للأجيال المقبلة من الشعب اليهودي بالنيابة عن الدولة. ونعلم ان تبدلاً طرأ على النخب، فبعدما نزعت تلك المتحدرة من"الصهيونيين الأوائل"الممثلين ب"حركة العمل"وأحزابها الى تعديل سياستها آنفة الذكر الذهاب الى اتفاق اوسلو ومفاوضات كامب ديفيد الثانية باتجاه تعميق براغماتيتها السياسية تجاه المحيط الشرق أوسطي والصراع مع العالم العربي، عادت النخب الجديدة بالخطاب السياسي وبالوضع الى ما كانا عليه قبل الانتفاضة الأولى بل الى ما كان عليه الصراع في الاربعينات قبل النكبة. انفتحت ملفات الصراع على مصاريعها وعلى كل مواضيعها. وشرعت هذه النخب تتداولها بالعنف والاجتياح مفترضة ان فائض القوة عندها يمنحها أدوات وامكانات للمضي قدماً في الاستيطان وفرضه حقائق ناجزة على الأرض، وفي الواقع السياسي، باعتباره استراتيجية اساسية في تثبيت أقدام المشروع الصهيوني في فلسطين والانطلاق منه الى الاستحواذ المباشر أو غير المباشر على المجال الجيو - سياسي في الشرق الأوسط. ثغرات واسعة مفتوحة في مساحة الديموقراطية الاسرائيلية التي يرى فيها بعض العرب نموذجاً. انها ديموقراطية مثقوبة كالجبنة السويسرية، شكلانية غير قابلة للحياة الطويلة في رأينا، قابلة جداً للانكفاء الى ظاهرة"ابارتايد"جديدة. سنحاول هنا ان نثبت مشهد الثغرات لعله يتحول الى عتمات في الادعاء الاسرائيلي المتبجح عن ديموقراطية في محيط استبدادي. وآمل بألا يستثمر كلامي باتجاه آخر وهو ان يأخذه غير الديموقراطيين منّا للتدليل على ان حالتهم بخير ما دامت ديموقراطية اسرائيل كثيرة الثغرات. عرقية لا تعترف بالأقلية الديموقراطية في اسرائيل مفصلة على مقاسات الأكثرية اليهودية فيها من دون الأقلية العربية. ويبدو لنا الأمر طبيعياً أو كمحصلة للمشروع الصهيوني الذي لم يقتصر على اقامة وطن قومي لليهود، بل تعداه الى اقامته في فلسطين التاريخية وعلى حساب شعبها وأهلها. أي من خلال الرهان على المكان مع نفي الذين فيه وافتراض انهم لم يكونوا أصلاً هنا! وعليه، فُرض على الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم نظام الحكم العسكري حتى العام 1966 أي حوالى عقدين علماً أن مباني هذا النظام وأحكامه استمرت ردحاً غير قصير بعد هذا التاريخ لا سيما مع عدوان حزيران/ يونيو 1967. ثم اعتمدت الديموقراطية العرقية هذه بعض توجهات ليبرالية لتستطيع"هضم"حقيقة بقاء نحو 160 ألف فلسطيني في الداخل بعد النكبة. لكن لم تتطور هذه التوجهات الى عملية ديموقراطية تنصف الفلسطينيين أو تشركهم فيها على قدم المساواة. فظلت شكلانية قاصرة على ضمان حقوقهم السياسية خصوصاً حق المشاركة في صنع القرار ووضع السياسات. فكثير من محاولات الانتظام قمعت عسفاً أو بالتشريع أو بالإجراءات الادارية - حركة الأرض في الستينات، مؤتمر الجماهير العربية الأول المحظور - 1980 وجمعيات ومبادرات وأنشطة سياسية تمت ملاحقتها وتفكيكها - أنظر اعتقالات قيادة الحركة الاسلامية بجناحها الذي يقوده الشيخ رائد صلاح وكثيراً ما فرضت الاعتقالات الادارية على العشرات من الناشطين والفاعلين. ولعل أبرز ما في هذه الوضعية حقيقة ان المشاركة في اللعبة البرلمانية مشروطة بقبول فرضية ان الدولة يهودية وستبقى! أما الحضور العربي في البرلمان فصار غير ذي جدوى باعتراف اعضاء البرلمان الوطنيين. ومن هنا بداية التفكير في أفق العمل السياسي خارج البرلمان وتدويل المواجهة بين اسرائيل وبين العرب فيها. ديموقراطية معقولة لليهود فقط. فاللعبة السياسية مفتوحة بالكامل لهم ليتداولوا السلطة ويحققوا انفسهم كأفراد أو أحزاب أو مشارب فكرية وعقائدية ضمن ما توفره لهم الدولة من أفق وحيز وبوصفها التعبير السياسي عن هويتهم الجمعية. وديموقراطية شكلانية للعرب، كشعب اصلاني، ترك لهم هامش يضيق أو يتسع، يمارسون فيه نوعاً من الحراك الذي لا يرقى الى مستوى المواطنة الكاملة ليبقى وجودهم مشروطاً أو حتى اشعار آخر، معرضون للتهديد بالترانسفير من حين الى آخر، أو للقمع المباشر كما حصل في يوم الأرض الأول عام 1967 وفي تشرين الاول اكتوبر 2000، أو لتضييق الحيز السياسي للقيادات من خلال محاكمات سياسية أو التحريض المباشر عليها ومحاصرتها اعلامياً وسياسياً - انظر ما فعلوه لعزمي بشارة. ديموقراطية تقصي فئة كاملة عن حقوقها وتنظّر لمنظومات الإقصاء وتفلسفها ستظل شكلانية معطوبة. وهذه الفئة - الفلسطينيون في اسرائيل - لن تستطيع الإفادة من جوهر الديموقراطية، وهي حق كل أقلية في ان تصبح اكثرية - مبدأ التداول على السلطة - لأن النخب الاسرائيلية مصرة عبر كل الوثائق والمستندات والأدبيات وفي كل المجالات على إبقاء الدولة ذات غالبية يهودية واضحة!! وينسى البعض او يتناسى أن المجتمع الفلسطيني داخل اسرائيل تحول بعد النكبة من مجتمع اكثرية الى مجتمع أقلية من شعب اصلاني وفق العرف الدولي وما يعنيه ذلك من حقوق وامتيازات الى غريب في وطنه. سرقوا منه الوطن كي يتقاسموا معه الدولة فهل كثيراً عليه ان يغضب ويعبّر عن غضبه التاريخي من مرة الى مرة؟ وهل يصبح هذا التعبير عن الرأي او الغضب او كلاهما امتيازاً تمنحه الديموقراطية الاسرائيلية؟ ديموقراطية أسيرة الشريعة اليهودية أدرك بن غوريون مؤسس اسرائيل اشكالية بناء الدولة الحديثة على اسس احكام الشريعة اليهودية وتحالف الحركة الصهيونية العلمانية مع الطوائف اليهودية المتدينة لا سيما الحريدية المتزمتة منها. وقد انتج هذا"الزواج"نوعاً من التوازن اصطلح على تسميته بنظام"الوضع القائم"فُرضت بموجبه قيود على الانشطة الاقتصادية وحركة السير في ايام السبت والاعياد العبرية وكذلك على مسائل الاحوال الشخصية التي لا تزال اسيرة احكام الشريعة اليهودية ومؤسساتها الدينية حوالي 300 الف شخص في اسرائيل ترفض المؤسسة الدينية تزويجهم لأنهم ملتبسو النسب اليهودي والزواج المدني غير ممكن. ومن ابرز تأثيراتها ما يتصل بتعريف اليهودي ومراسم التهويد وخلق توتر دائم في هذا الباب بالنسبة للمهاجرين الى اسرائيل لا سيما من اثيوبيا وربوع روسيا ومن الاوساط اليهودية العلمانية والتيارات الدينية الاصلاحية. ديموقراطية تحدها وترسم تخومها احكام الشريعة اليهودية. وهذه القيود تتحول في تشكيل الحكومات الى شروط تقضي بتحويلات مالية كبيرة نسبياً من الموازنة العامة الى المجموعات الدينية المتزمتة والى تقييد الانشطة الاقتصادية وحرية الحركة والتنقل. ديموقراطية بمشاركة الذين خارجها من ابرز سمات الديموقراطية في اسرائيل تأثرها باليهود خارج حدود اسرائيل، وهم فئتان: الاولى هي الجاليات اليهودية في اميركا الشمالية وبريطانيا واستراليا. والثانية، هي المستوطنون ومنظماتهم. ليس خافياً على احد ان الجاليات اليهودية في الخارج تحسم الانتخابات الاسرائيلية من حين لآخر من خلال التدخل المباشر فيها ب"التبرعات"الهائلة لمصلحة هذا المرشح او ذاك الحزب. ويقال ان فوز نتانياهو في انتخابات العام 1995 ومن بعده فوز ايهود باراك في انتخابات العام 1998 حصلا بفعل الاموال التي وظفتها الجاليات اليهودية حيث هي في المعركتين المذكورتين، مرة بهذا الاتجاه ومرة بذاك! ولا تزال هذه الجاليات قناة مشروعة بل مرغوب فيها ل"شراء"الانتخابات لمصلحة هذا المعسكر او ذاك. والمال هو تعبير واحد لهذا التدخل الوافد من الخارج. فمواقف هذه الجاليات ونشاطها حاضر في المعارك الانتخابية، ويتم تداوله مورداً وورقاً رابحاً او خاسراً فيها. فقيادات هذه الجاليات مشاركة من وراء الكواليس وعلناً في الجولات الانتخابية، في دعم مسؤولين اسرائيليين او في اسقاطهم. اما المستوطنون فهم اكثر عنفاً في التأثير على الديموقراطية الاسرائيلية. وأراهم وقد اختطفوها رهينة لهم ولمصالحهم. فهم يأتون من مستوطناتهم القائمة على اراض محتلة ليكرسوا الاحتلال غير القانوني اصلاً. ملتزمون بالقانون الاسرائيلي وقرارات الحكومات طالما انها تتماشى مع مصالح الاستيطان وتتطابق معه. اما عندما تنحو منحى مختلفاً فإنهم يلوّحون بكل الخيارات بما فيها الحرب الاهلية. فتصير الديموقراطية الاسرائيلية اسيرة حقيقية لابتزاز حقيقي. المستوطنون اليهود خارج حدود الديموقراطية ويشكلون نسبة 3 في المئة من اليهود بين البحر والنهر قابضون على عنق الديموقراطية العرقية يعيشون بها وعليها بينما مستعدون لوأدها على مذبح خطابهم. ولدور المستوطنين بعد آخر يتصل بالشريعة اليهودية بمعناها السياسي المباشر. فهم يطوّرون على الدوام مقولات الحق التاريخي والموروث الديني ليقنعوا بعدوانيتهم. ويعوّلون على التوراة واحكامها في تثبيت اقدام الاستيطان ومنع اي انسحاب وان كان محدوداً جداً من المناطق المحتلة. "الروح اليهودية"في خطاب المستوطنين وفلسفتهم قابلة لإلحاق هزيمة ساحقة بالديموقراطية العرقية. وهذه"الروح"وقابليتها للانقضاض غير ممكنتين من دون حضور المعاني العرقية ذاتها للديموقراطية الاسرائيلية. فالاستيطان فلسفة ومشروعاً سياسياً استراتيجياً ولد من الفكرة الام للدولة اليهودية العرقية واعادة انتاج لها بوصفها مشروعاً استيطانياً في الاساس. ويسار اليوم في اسرائيل هو يمين الامس يشترك معه في الفرضيات الاساسية حول"الحق التاريخي"لليهود واخلاقية قيام اسرائيل والمشروع الصهيوني لكنه يختلف معه حول"عمق"هذا الحق وطرق ممارسته. فليس غريباً ان يبدي هذا اليسار كثيراً من التفهم لحال المستوطنين وان يحوّل قضيتهم الى انسانية بحيث من الصعب تفكيك المستوطنات وترحيلهم من بيوتهم! لكن اليمين الاسرائيلي على طريق اليمين حيثما كان، كلما تقهقر امامه"اليسار"خطوة تقدم هو خطوتين نحو تحقيق مشاريعه. وهو في سيره مستعد للدوس على كل المساحات واعتماد سياسة الارض المحروقة. ويكتسب اليمين الاسرائيلي برأس حربته المستوطنون معاني اضافية تجعله مرشحاً للانزلاق بالدولة نحو"ابارتايد"معلن او فاشية مكشوفة يضطر رئيس المحكمة العليا في اسرائيل في ظلها الى الانتقال الى العمل السري. اما شارون فقد يطلب حق اللجوء السياسي لدى الرئيس الفلسطيني عرفات! اما المشهد السياسي المتشكل امام انظارنا والعالم في المنطقة هو ان اسرائيل الديموقراطية هي التي ترفض السلام الذي تطرحه الدول العربية"غير الديموقراطية". وتبدو اسرائيل على أبهتها العسكرية وصورتها الليبرالية أسيرة لا تستطيع ان تتقدم خطوة واحدة نحو حل وتسوية وسلام لان المستوطنين كتعبير متطرف ليمينية الدولة وعرقية الديموقراطية قابضون على مفاتيح اللعبة. * كاتب واكاديمي، دالية الكرمل.