عبد الفتاح كيليطو، الكاتب المغربي الذي أحب دائماً الظل، تدفعه أعماله الأدبية، على عكس إرادته في اتجاه الضوء. أولاً لأن أعماله تنطوي على ضوء نادر، يتسرب من منطقة سرية ليواجه موضوعه النقدي بكيفية تجمع بين ذكاء المعرفة وسحر التحليل. وثانياً لأن شروط تداول الأدب في المغرب بدأت تهب عليها بعض رياح التغيير. ومن علامات ذلك أن بعض الكتاب المغاربة الذين كان حضورهم لا يتجاوز مدرجات الجامعة ومكتبات بعض الأكاديميين، نجدهم الآن يلجون فضاءات التداول الواسعة في مؤسسات التعليم الثانوي. وتعزز، هذه السنة، حضور تجربة عبدالله العروي في المدرسة المغربية، من خلال روايته"أوراق"، وفي برمجة وزارة التربية الوطنية لكتاب"الأدب والغرابة"لعبد الفتاح كيليطو في سلك التعليم الثانوي الشعبة الأدبية. وهكذا سيتاح لكيليطو الغريب سنوات من التداول، تسمح لاشكالياته بأن تسكن مخيلة الطالب المغربي، لتفتحها على آفاق رحبة في المقاربة والتحليل والتذوق. حفرت أعمال عبد الفتاح كيليطو ولا تزال، في نسكية وصمت جليلين، طريقاً بالغ الخصوصية في قراءة متون الشعرية العربية. ومنذ"المقامات"وپ"الأدب والغرابة"وپ"الغائب"1978 بدأت ملامح نبرة غريبة تتجلى في النقد الأدبي. نبرة تحولت مع تراكم أعمال مثل"الحكاية والتأويل"1988 وپ"لسان آدم"1995... نموذجاً خاصاً في المقاربة النصية التحليلية. مقاربة حظيت بتقدير الدرس الأكاديمي والنقد الحر على السواء، واندفعت بقوتها الداخلية لتوجه الخطاب النقدي نحو إشكاليات جديدة يتقاطع فيها الأدبي والثقافي مثلما تجمع بين الحس المنهجي ولذة التحليل النصي المنفتح على مناطق السحر والغواية. ولعلها المقاربة النصية والثقافية التي جعلت عبد الفتاح كيليطو في وضعية من يخترع الثرات ليجعل منه في اختلافه معاصراً لنا ومنخرطاً في صنع أشواقنا الحداثية. لهذا كثيراً ما تخرج بعض الشخصيات الثراتية من عباءة عبد الفتاح كيليطو عن محيطها، منفتحة، بفضل جدارة التأويل ونسقيته على لاوعيها الثقافي، ومخترقة، في آن، أفق الانتظار السائد. ولعل هذه الميزة هي التي جعلت أحد الفضوليين يسأل عبدالفتاح كيليطو، في نهاية محاضرة قدمها، عن وجود الجاحظ الذي يبدو في قراءته وكأنه قد اخترعه اختراعاً، كما جعلت أحد المستشرقين، مدفوعاً بالإحساس بالغرابة، يأخذ ورقة وقلماً ليسجل باهتمام، في نهاية المحاضرة، المعطيات البيوغرافية التي قدمها له الباحث كيليطو حول أبي العلاء المعري. أن عبد الفتاح كيليطو، يشبه في عمله النقدي إلى حد كبير ذلك الروائي الذي لا يستعير شخصياته من الواقع إلا ليزج بها في منطقة من العلاقات الغريبة التي تبدع لها مسارات ومصائر لم تكن أبداً في الحسبان. ولا يعتمد عبد الفتاح كيليطو، في ما يبني من تأويلات، على قوة الخيال والحدس فقط، وإنما يتسلح كذلك بمعرفة دقيقة بمتون الشعرية العربية القديمة في تقاطعاتها الثقافية، التي تجمع بين النصوص المركزية والهامشية، كما تصل بين النصوص السردية والفكرية واللغوية والدينية في نوع من المجاورة السعيدة، التي تسعف الباحث بقراءات نسقية مبدعة وخلاقة. ولا يتميز عبد الفتاح كيليطو فقط بهذه الرؤية الموسوعية الشديدة الولع بالتفاصيل، وإنما يتقدم نحو موضوعه متسلحاً بمتاع معرفي ومنهجي في غاية الأهمية. لهذا كثيراً ما نجد تحليلاته النسقية مخترقة بظلال اللسانيات والسيميئيات والتحليل النفسي والانثروبولوجيا وأبحاث المتخيل. قلنا ظلالاً لأن عبد الفتاح كيليطو يعرف كيف يخرج من سلطة مراجعه قوياً بما يختزنه في أعماقه من أضواء تقود تأويلاته نحو علاقات مدهشة بالنصوص التراثية. وهو الامتياز الذي يجعل عبد الفتاح كيليطو خالقاً لهذه النصوص، ليس في معنى بعثها وإحيائها، وإنما في معنى استكشاف ممكناتها وطاقاتها الخفية التي لا تتكشف إلا للقراء النموذجيين. إن عبد الفتاح كيليطو، وهو يحرر مخلوقاته الثراتية من سجنها القديم، سجن النص وسجن القراءة، إنما يفعل ذلك متسلحاً بمكر نادر، يجعل هذه المخلوقات تشرئب بأعناقها، لتطل على زمننا، فتساهم، بفضل غرابتها وطاقتها التأويلية الكامنة، في تجديد أو توسيع مفاهيمنا الأدبية وإخصاب أشواقنا الحداثية. وليس عبد الفتاح كيليطو فقط ناقداً هارباً من السرد، الذي كثيراً ما يضفي على أعماله التحليلية مظهراً روائياً، بل هو أيضاً سارد صاحب أعمال نقدية، وقد شكل أخيراً صدور أعماله السردية الكاملة بعنوان"حصان نيتشه"، في ترجمة بديعة لعبد الكبير الشرقاوي، عن دار توبقال 2003 لحظة تاريخية بالغة الأهمية في مساره الأدبي المتميز. وأزعم أن عبدالفتاح كيليطو، في كل أعماله النقدية والسردية يستطيب لعبة القناع، اذ في الوقت الذي يشهر بطاقة المحلل فهو يخدعنا بإنجاز عمل سردي، وفي الوقت الذي يشهر بطاقة السارد فان كل جهده يتجه نحو إنجاز عمل نقدي. ولعل هذه البرزخية التجنيسية والأدبية هي البصمة الخاصة التي حملها إلى الأدب العربي، وهي توقيعه الشخصي. لذلك فالغرابة التي أثارها دائماً عبدالفتاح كيليطو تبقى غرابة مزدوجة، فهي غرابة الناقد المتحقق سردياً والروائي المتحقق نقدياً، كما أنها غرابة تراثي حديث وحداثي قديم يكتب بالفرنسية غالباً عن الأدب العربي. وعبور الأزمنة والأجناس الأدبية واللغات والأوضاع الاعتبارية يجعل عبد الفتاح كيليطو أنموذجاً متفرداً في الثقافة العربية المعاصرة، وفي ذلك يكمن الدرس النقدي البالغ الذي يوجهه عبد الفتاح كيليطو لطلبة الجامعة ولكل القراء العرب في أي مكان.