لا يكفي أن نقول اننا في عصر الرواية، حين نرى الكتابة الروائية تحتل جزءاً من نتاجات الباحثين والنقاد العرب، فهذا دافع من دوافع الخوض في المغامرة الروائية لكتاب حازوا الشهرة في ميدانهم، ولكنهم وجدوا أنفسهم مندفعين إلى استكمال جانب من عملهم في تخييل الواقع وتقريب الأفكار من القاريء، بل الاستمتاع باللعبة الروائية التي تسع كل الأجناس الكتابية. بيد أن من الصعوبة أن نجد في تلك الأعمال ما ينافس نتاجات الروائيين العرب منذ نجيب محفوظ الذي تقدمت أعماله على «الأيام» السيرة او الرواية الوحيدة لعميد الأدب العربي، و»سارة « للعقاد، رغم أهمية العملين لكونهما نتاج مرحلة لم ينتشر فيها أدب السيرة المتخيلة على النحو الذي نراه الآن. تلك مفارقة تحسب على الرواية العربية نفسها، وعلى تصور الكاتب الذي لم يبدأ نشاطه الكتابي بالرواية. فكثير من الروايات التي أنتجها باحثون، طواها النسيان على رغم ما يتمتع به أصحابها من شهرة وصيت وترويج لكل نتاجاتهم، في حين تنافس النتاجات الروائية والمسرحية التي انتجها مفكرون ومنظّرون مثل: سارتر، وسيمون دي بوفوار، وكامو، وامبرتو ايكو، وسواهم، تنافس رواياتهم أعمالهم الأخرى. ربما يحيلنا هذا الفشل إلى مشكلة فهم وظيفة الرواية عند الباحث او الناقد العربي، ما بين قدرتها على استكمال عدته، أو لكونها مجرد هواية ونزوة «يتسلى» بها بعد تعب من الكتابة الاخرى؟ رواية «انبئوني بالرؤيا» للباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو، تختلف على نحو ما، عن كثير من الروايات التي ظلت على هامش نتاجات كتّاب مثل العروي وعبدالكبير الخطيبي وعدد من القادمين من ميادين أخرى. فرواية كيليطو التي ترجمها عن الفرنسية مترجم كتبه عبدالكبير الشرقاوي، هي محاولة «تطبيقية» لجملة اختباراته البحثية، وفي مقدمتها «الأدب والغرابة» كتابه اللافت. ومع أن مدخل الرواية الذي يدور حول «ألف ليلة وليلة» يبدو باهتاً ومتورطاً في موضوع استهلكته الكتابات العربية، غير ان الأمر يستوي للنص بعد أن يقطع القارئ الشوط الأكبر من روايته، ليجد بين ثناياه شيفرات البحوث مجسدة روائيا، وهذا جديد هذه الرواية. يحاول الكاتب تخييل المصطلح النقدي عبر خلق فعل حكائي يوازيه، من فكرة المؤلف المجهول في الليالي العربية التي تعادل «موت المؤلف» عند رولان بارت، إلى قضية الانتساب، انتساب النص إلى مكتشفه الفرنسي، بعد ان طواه النسيان عند العرب. يتتبع كيليطو، معنى الغرابة والخوارق في فكرة البطل الممسوس، بما يعادل صورة الباحث الأكاديمي وهو يسائل النص عن أثر التوالد، وأثر المؤلف الأصيل والمنتحل، والقارئ والتأويل، وتأويل التأويل عند الناقد وسواها. كل تلك المواضيع تنبثق في اندفاعات عبر صوت السارد، الشخصية الممسوسة التي تساعد مرونة عبور خاطراتها وأفكارها بين الواقعي والخيالي، في تماهي المواقع. يوحي السارد لنا في مطارح من الرواية بتطابق روايته مع سيرته الأكاديمية، أو سيرة قرين البطل ونظيره، كما يمنع عنا، صيغة التماهي مع هذه الفكرة عبر نقلها إلى حيز الشخصية الملتبسة، البهلول الذي يفشل في علاقة التواصل مع الآخر، مثلما يفشل في الإمساك بموضوعه. رحلة البطل في البحث عن «الليالي العربية» في مكان غربي، هو الولاياتالمتحدة، تبدو وكأنها تستقصي الذات المغتربة عن موضوعها، بعد أن فقد الموضوع مكانه الأول. فالجزم بجدارة الحكاية العربي، تتطلب أدوات تقصي خارجها، وتتصل بنظم المعلومات التي تشح في بلد المنشأ وعلى الباحث أن يجد تحققها أو وجودها في فضاء آخر. ولكن هذا الأمر يحيلنا إلى تيه الحكاية نفسها بين الأقاليم، يقول السارد «هبطت ببضاعتي الشرقية، سندباد من دون جدارة، لان السندباد البحري، عندما يطأ بلادا غريبة بعد غرق مركبه، يكون عاريا ومعوزا تماما، رجل القطيعة، فلا بد له من أن يبدأ من الصفر، يعيد خلق نفسه وخلق العالم، وإذ يعود إلى بيته، فهو محمّل بثروات جديدة اكتسبها بجهده. كنت بالأحرى السندباد البري، حمّال بائس ينوء تحت ثقل تراث منفصم انفصاما واضحا عن العالم الحديث» هنا يصبح الموضوع مادة للصراع في امتلاك الحيز، حيز هذا العالم الذي تخلّف الشرقي او العربي عن إدراك موقعه فيه. فالبطل وهو يبحث في المكتبة الاميركية عن قصص «الليالي» الضائعة في مجلدات تركها غير باحث غربي، يكتشف عبث المحاولة، مثل القصة المفقودة التي ضاع فيها الأمير نور الدين في أرض الظلمات. فهو من خلال فحصة الحكاية التي يرجح انها منحولة شفاهيا، ومضافة الى النص الأصلي، يثير اسئلة في محاضرته عنها، حول الدلالة في اسم البطل «نور الدين» واسم المكان أرض الظلمات، «أرضا حالكة، أشبه بليل الجاهلية» وفي هذه الحكاية التي يمتنع فيها حصان الأمير عن الدخول في المتاهة، يصبح للحكاية بعد آخر يتعلق بشخصية الحصان الخارقة التي تفهم بالهواجس، ما لا يفهمة الانسان. تلك النهاية المفتوجة، التي يتابع فيها البطل طريقه رغم صهيل الحصان، تفضي إلى فكرة التداخل بين الوجود المفترض للحكايات واحتمال تكررها في الأدب الغربي، او احتمال اقتباسها منه او العكس، وهي تثير لدى البطل اسئلة حول النهايات المفتوحة في القص الناجح. من خلال صيغة البحث عن أصل الحكاية ودلالات، ينتقل البطل عبر شخصية أخرى، إلى بلده، وإلى مهنة التدريس، حيث يلتقي طالبا يصبح في نهاية المطاف قرينا له، ولكنه يمثل حالة التمرد في داخله، ضد المؤسسة الجامعية، ليكتشف ان الرابطة التي تربطه به تدخله في التباس الأدب بين الغريب والمتوقع، ودلالة حكايات الليالي. حتى المرأة المفقودة التي تزوه خلال نومه الطويل، وتمتنع عنه في النهار، يجدها في أوراق القرين. فكرة التكرار، التي تربط الحكايات العربية والمصائر بعضها، وتنقلها إلى فضاء آخر، تفتح التوقعات عن النفس والاخر، لا على مستوى العلاقة الطبيعية والاتصال والتواصل المكاني، بل عبر ارتحال النصوص في ممالك الأدب، فالبطل الذي يدخل مملكة الليالي، يصيبه المس، فيتحول بطلا من أبطالها، حتى وإن أضاع دربه في بحر ظلماتها.