في معظم كتبه التي تميل إلى التقتير، يستقطر عبد الفتاح كيليطو، في مقالات قصيرة بنكهة خاصة ومركزة، عطرَ الأدب، بخاصة ما يتصل منه بالكتب العربية الكلاسيكية، المنحدرة من سياق خاص للرؤية ومن تقاليد مميزة في التأليف. إنها تقاليد النسق الثقافي العربي القديم، الذي يحرص كيليطو على اختراقه والبحث المضني في رتق وشائج تأويلية محتملة بين نصوصه، سواء تلك المكرسة منها أو تلك التي تستلقي على هامشه، منتظرة اليدَ القارئة، الذكية، القادرة على إيقاظها من غفوتها القديمة. وعبر هذه وتلك، يبدو الأدب العربي القديم، مُتلفِّعاً بلباس الغرابة، الذي يضمن اختلافه الحيوي عن مفاهيمنا المعاصرة، في الوقت الذي يُؤَمِّن بقاءَ جذوة التأويل مشتعلة بداخله، منادية على المعاصرين المُهَيَّئين بمواصلة النفخ الكريم في جمرتها. يستأنف كيليطو في كتابه الجديد «من شرفة ابن رشد» (توبقال/2009) مثل هذا النفخ. وضمن دراسة «كيف نقرأ كليلة ودمنة؟» المُدشِّنة لمقالات الكتاب، يحاول كيليطو الإحاطة بأسئلة القراءة لفتح المؤلّف الكلاسيكي على محتملاته اللاوعية، من خلال فحص قيمة الحيلة والقوة والكلام والسرد والترجمة، بالنظر إلى فائدة هذه الأفعال على مستوى تحصيل السلطة أو مواجهتها. لا تكف حيوانات «كليلة ودمنة» عن «المناظرة والموازنة بين الحجة ونقيضها والاستدلال»، وما يثير الانتباه حقاً بينها هو الأسد، الذي يبدو قليل الكلام، فهو «يفوِّض القول إلى حاشيته: هكذا يبدو سيِّداً على الخطاب، لا لأنه يستعمله كثيراً، بل لأنه يستثيره، أو يأذن به، أو يطالب به» (ص5). من هنا يلاحظ كيليطو علاقة الأسد المتعالية بالسرد، فهو قد يستمع إليه، لكنه لا يقوم بروايته أبداً. فما حاجته إليه، أو إلى الإقناع، إذا كان بمقدوره إهلاك مخاطبه: «السرد سلاح الأعزل، كما تعلمنا إياه ألف ليلة وليلة حيث لا يروي خليفة أبداً بتاتاً حكاية، إلا أن يكون خليفة معزولاً» (ص6). للكلام أخطار كثيرة، ومع ذلك تجرأ الفيلسوف بيدبا على مخاطبة الملك دبشليم «ليلتمس منه التحول عن سلوكه الظالم تجاه رعيته»، طلباً للمجد الذي ميزَ أسلافه، لكن دبشليم رمى بالفيلسوف في السجن، وكاد يأمر بقتله، ثم عاد ل «يتلقاه بالقبول»، فأمره بتأليف كتاب «يخلد ملكه ويؤمن له على نحو ما النجاة بعد موته» (ص8). وبكتابته، شرع الفيلسوف من جديد في تقويم الملك وتهذيبه، لكن «بواسطة السرد، مخفياً تعليمه وراء الخرافة». بَيْد أنه، في النهاية، التمس من الملك تدوينه والأمر بالاحتياط عليه، حتى لا يغادر بلاد الهند، ويتلقفه أهل فارس، فحكمَ، بذلك، على كتابه بأن لا يُقرأ. إن بيدبا، في الواقع «يمنع ترجمته وتبليغه، معتبراً إياه الملكية الحصرية ل نحن»، مُعبِّراً تماماً عن رغبة في القطيعة مع الآخر. إن ما يخشاه بيدبا، برأي كيليطو، هو ما يوجد في مبدأ الترجمة من «ميل سجالي (من المساجلة في الحرب)، ومطمح إمبريالي» (ص9)، ينم عن رغبة في غزو أرض الآخر وامتلاك خيراته. وعلى رغم ذلك، تُرجم الكتاب إلى «الفهلوية»، بفضل الطبيب برزويه، الذي التمس من رجل هناك أن ينسخ له ليلاً، في السر، «نسخاً من خزانة الملك»، فجنى الرجل بذلك، فعل خيانة، غير بعيدة من روح الترجمة حقيقة. لكن إذا كان برزويه بترجمته للكتاب «قد اختلسَ كنوز الهند، فقد أهدى ابن المقفع هذه الثروات نفسها، مضاعفة بالإسهام الفارسي، إلى الثقافة العربية» (ص11). وينبه كيليطو، في النهاية، انطلاقاً من تحذيرات ابن المقفع، إلى أن «كليلة ودمنة»، يتضمن كتابين أحدهما ظاهر والآخر خفي، لذلك فهو برأيه «كفيل بقراءتين، إحداهما للأذهان العامية، والأخرى للأذهان المبصرة». وبذلك يستنتج كيليطو أن بيدبا، لم يحجز كتابه داخل خزانة الملك فقط، بل قيَّد دلالته الحقيقية خلف سُمك رمزي، لا يخترقه إلا القراء المحظوظين. يستحضر كيليطو في مقالة «الكلام إلى السلطان» حكاية يرويها اليوسي في «المحاضرات»، حول ابن أبي محلّي الذي انتصر، مدعياً المهدوية، على السلطان السعدي زيدان، فجاءه الفقراء مهنئين، وما كان من رجل صامت إلا أن قال رأيه بصراحة، في السلطان الجديد، بعد أن أخذ عنه العهدَ، ضارباً له المثل بالكرة التي يركض الناس وراءها مولولين صارخين، لكنها لا تتكشف، في النهاية، إلا عن «شراويط أي خرقاً بالية ملفوفة». بكى ابن أبي محلي، وعلَّقَ مدركاً الرسالة المعلّقة: «رمنا أن نُحيي الدين فأتلفناه». ربما أدرك ابن أبي محلي بدموعه، هذه «الحقيقة المؤلمة (التي علمتها إيانا التراجيديا اليونانية والدراما الشكسبيرية)، أن امتلاك السلطة يعني حتماً أن تكون مذنباً. لقد ضلّ السبيل دون أن يدري» (ص15). في مقالة «عزيف الجن»، يقارن كيليطو بين بيداء المعلقات، وبيداء الشعراء الصعاليك. الأولى آمنة والثانية مخيفة. إنها «منفى أولئك الذين لم يحترموا قواعد الجماعة فتبرَّأ منهم قومهم» وقضي عليهم بالتسكع والمسخ. من هنا أخبر الشنفرى، في قصيدة مشهورة، بأنه يفارق أهله ليلحق بقوم جدد» هم الذئاب وبنات آوى» (ص27). في مقالة «تلك الجنة الخضراء»، يتوقف كيليطو عند منمنمات الواسطي، التي تزين المقامة التاسعة والثلاثين للحريري، ملاحظاً عدم تطابقها التام مع متن المقامة، التي تحكي نجاة أبي زيد السروجي والحارث بن همام من عاصفة ألجأتهُما إلى جزيرة. وعَلِما أن زوجة والي الجزيرة تعذَّر عليها الوضع، وأنها هي وجنينها في خطر. فادَّعى أبو زيد بأن له «عزيمة الطلق لتسهيل الولادة»، فكتب حجاباً وأمر بتعليقه على فخذ المرأة، سجل فيه: «قصيدة يحذِّر فيها الولد من الويلات التي ستنهال عليه إذا ما خرج للدنيا» (ص32). غير أن الطفل سيعجل بالخروج، آتياً بذلك عالَماً غير مستعد لاستقباله: «يوجد تنافر وتوتر بين الكائن البشري والعالَم: تلاقيهما لا يمكن أن ينتج منه إلا الاضطراب والفوضى» (ص32). يرى كيليطو في لوحة الواسطي إبداعاً أصيلاً، جعلته يرى في الحديقة المرسومة جنة عدن، ما يُلفتُ الانتباه فيها هو «غياب أي حضور آدمي. جنة عدن قبل الخطيئة، قبل خلق الانسان، تكتفي بذاتها وتستغني عن كل مخلوق بشري» (ص34/35). يواصل كيليطو، عبر ثماني مقالات منتقاة في كتابه الجديد، شغف التأويل وسحر القراءة، مواجهاً بحدب مؤلَّفات ونصوصاً من الشعرية العربية القديمة، من دون أن يعدم تلك الالتفاتة الحانية الى الزمن الحاضر وللحلم، الذي يجعل المؤلف (كيليطو) يمزج، في كتابة واحدة، بين إشراقات التخييل وحدوس التحليل، مُرَهِّناً بذلك حلماً راود بعض الكتاب الطلائعيين، الباحثين عن تركيب جنس أدبي ثالث،سردي ونقدي في آن واحد.