"نيس هي، أولاً وخصوصاً، مدينة تعيش بفضل القمار. ثم ان كل شيء في نيس صنع من أجل الأجنبي ... صنع لكي يجتذب الأجنبي كل شيء الفنادق الكبرى وغيرها من الأماكن؟ الأجانب الذين يصلون الى المدينة، طاولات الروليت، وكل أولئك الذين يعيشون بفضل طاولات الروليت، أما سكان المدينة الأصليون فإنهم في أعمالهم ليسوا أكثر إثارة للاهتمام من الأجانب الموجودين في المدينة، وفي النهاية كل هذا مآله الموت ولا شيء غير الموت". هذه هي باختصار الرسالة التي أراد مخرج شاب، لم يتجاوز في ذلك الحين الرابعة والعشرين من عمره، أن يوصلها الى متفرجيه، عبر أول فيلم له حققه، ولن يحقق من بعده سوى فيلمين طويلين آخرين، ناهيك من فيلمين قصيرين، ومع هذا لا يزال يعتبر الى اليوم بعد سبعين عاماً من رحيله واحداً من الآباء المؤسسين، للسينما"السوريالية"من ناحية ولسينما الاحتجاج الاجتماعي من ناحية أخرى. اسمه جان فيغو، أما الفيلم الذي نتحدث عنه هنا فعنوانه"في صدد نيس". ونيس هذه هي، بالطبع، المدينة الفاتنة الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي من فرنسا، والتي تعيش منذ زمن طويل على اقتصاد الخدمات والسياحة وكازينوات القمار، ما أفقدها - كما يقول لنا الفيلم على الأقل - كل روح وهوية. ولئن كان جان فيغو قد أطل على الاستخدام"السوريالي"للسينما باكراً، وعلى خطى زميله الاسباني لوي بونويل، فإن ما لا بد من قوله هو أن فيغو قد أطل، في هذا الفيلم كذلك، على أهمية أن يتصدى الفن للخواء الاجتماعي، أن يعرّي الفساد واقتصاديات الخدمات والاستهلاك. ومن هنا اذا كان أشهر مشهد في"في صدد نيس"هو ذاك الذي تحل فيه خيالياً صورة سيدة جالسة على شاطئ نيس عارية، بدلاً من صورتها الحقيقية وهي في كامل ثيابها، فإن هذا الاستخدام للصورة، انما عكس رغبة المخرج في تعرية المدينة وتفاهتها، من خلال ذلك الترميز. جان فيغو الذي حقق"في صدد نيس"في العام 1930، لم يخف، على أية حال هدفه، اذ انه بالتوازي مع عرض الفيلم، الذي أثار حين عرض ضجة كبيرة، فنية وسياسية، نشر نصاً حول الفيلم وعمله عليه، موضحاً ان"التوجه نحو السينما الاجتماعية انما يعني أن يغرف السينمائي من منجم مليء بالمواضيع التي تأتي الأحداث الراهنة لتجددها باستمرار"كما ان ولوج السينما الاجتماعي معناه"الموافقة على قول شيء ما... بحيث ان الهدف يتحقق حين يصل السينمائي الى الكشف عن السبب الكامن خلف كل حركة وتصرف، وجعل كل انسان، عبر الصورة وكل صدفة، يكشفان عن جمال داخلي، أو عن سمات كاريكاتورية لدى جماعة ما، بعد أن تكون قد قامت بفعل جسماني صرف... وفي هذا الفيلم، ها نحن نشهد محاكمة عالم معين، من خلال مدينة تتخذ كل الأفعال والمظاهر فيها دلالات معينة". فهل علينا أن نذكر ان هذا"البيان"السينمائي، أحدث في عالم السينما يومها، مفعولاً يمكن مضاهاته بمفعول"البيان السوريالي"لأندريه بريتون؟ مهما يكن ان المقاربة بين فيغو وبريتون هنا ليست عشوائية، ذلك ان السورياليين سرعان ما تبنوا الفيلم منذ عرضه الأول يوم 28 أيار مايو 1930 في"الفيوكولومبييه". كما تبناه اليساريون الذين رأوا ان مميزات الفيلم أن يكون جان فيغو تعاون فيه مع المصور الروسي بورسي كوفمان، وهو الأخ الأصغر لرائد"سينما الصين"وپ"السينما الوثائقية"السوفياتية دزيغافيرتوف. ولنذكر هنا ان فيغو نفسه كان يتحدث عن"سينما الصين"في معرض حديثه عن"في صدد نيس". ولكن يبقى أن نسأل: كيف تحدث هذا الفيلم عن موضوعه؟ كيف حوّل هذا الذي سيلقب بپ"رامبو السينما"نسبة الى الشاعر آرثر رامبو بالطبع، لا نسبة الى الاميركي ذي العضلات؟ انطلاقاً من فكرة تقول ان هذا الفيلم ليس روائياً ولا وثائقياً، بل هو"وجهة نظر موثقة"تختلط فيها"المشاهد المصورة في الحياة نفسها، بالمشاهد المتخيلة"أراد فيغو أن يثبت هنا ان الكاميرا، آلة التصوير ليست جهازاً محايداً، بل أداة كاشفة تربط السينما بالعين بالمجتمع. وما تقدمه الينا هذه الكاميرا هنا هو على النحو التالي: هناك طابة تقفز في الهواء. يد ترمي قطعة نقد. الطابة تبطئ في حركتها. يد تمرر قطعة نقد ببطء. الطابة تبطئ أكثر. حارس يشير بيده اشارات عدة. هناك مسافرون يخرجون من محطة القطار. مسافرون جالسون فوق حقائب سفرهم. السماسرة يملأون المكان. ننتقل الى موظفي الفنادق. ثم سيارات الأجرة والعربات التي تجرها الجياد. ترجمان يظهر بشكل مفاجئ. باب فندق يفتح على مصراعيه. زحام أناس لا يلوون على شيء. حارس فندق يركض في لقطات متلاحقة دون أن يتضح هدف ركضه. شجرة معوجة تتحول تلقائياً الى نخلة. ثم لقطة لنخلة أخرى. مكنسة الكناس العمومي الذي يكنس الشارع. موجة تأتي بالأقذار الى الشاطئ. نعود هنا الى الكناس وهو يمارس عمله بهدوء. ومنه ننتقل الى الكازينو. ثم من الكازينو الى أكوام من النفايات تحيط بالرقعة التي يكنسها الكناس. لقطة عامة للبحر، ثم من البحر الى المكنسة مرة أخرى. ومن المكنسة ننتقل الى الكناس وهو يترك المكان دافعاً عربته. هنا تتوقف عند مشهد عام للكورنيش خالياً، بل كذلك عارياً من دون أية شجرة. غير ان المقاعد كلها نظيفة مرتبة مستعدة لاستقبال المتنزهين... ومنها ننتقل الى مشهد عام للبحر، ثم طيور النورس تسرح في الجو على مزاجها. ومنها ننتقل الى البحر، ثم من جديد الى أشجار الكورنيش مصورة في خط واحد... فإلى لقطة للسماء صافية تماماً... على هذا النحو تسير مشاهد هذا الفيلم، رابطة بين ما هو بصري وما هو كتابة من طريق التوليف، ووسط ذلك كله، يظهر موضوع الفيلم: انه البحر والشاطئ والكورنيش المسمى"نزهة الانكليز"والفنادق والبنايات الضخمة والكازينو. وكل هذه الأماكن تتقاطع مع حشود من الناس وسيدات أنيقات سمينات محملات بالجواهر حول أعناقهن ومعاصمهن. وتتقاطع صور هامة النساء مع صور لاعبي القمار الذين تعود صورهم وتتقاطع مع صور فقراء وبائسين من أهل المدينة وعماله وخدمها. ثم يختلط هذا كله بمشهد غير متوقع لكرنافال يعبر الشوارع، حيث تعلو الكاميرا لتلتقط مشاهد فضائية ثم الأمواج والفراغ وسط الكرنافال، كما لو أن هذا كله يوحي بالمصير الذي ينتظر كل شيء هنا: الموت. وهنا لا بد أن نشير الى أن موضوعة القمار، على رغم أهميتها المعلنة، لا تلعب دوراً أساسياً في الفيلم. بل ان الدور الأساس وعلى الأقل بحسب رؤية يسارية للفيلم عبر عنها، جزئياً، جورج سادول في مقال عنه هو لذلك التناوب بين مشاهد الحياة الاجتماعية الفارغة من أي معنى والتي يعيشها أثرياء يمضون وقتهم في القمار واللهو، ومشاهد الحياة الأخرى، البائسة التي يعيشها أهل المدينة في أحياء وشوارع من الصعب القول أن السياح الأجانب يعرفون عنها شيئاً. ومن هذا المنطق التبادلي أعطى جان فيغو كما هو واضح، معنى ودلالة سياسيين اجتماعين لعمل كان يراد له أصلاً أن يكون سوريالياً وحسب. وسوف يقول نقاد لاحقاً أن فيغو، فقط بعدما جمع كل المشاهد التي صورها، أحس بإمكانية تلك الفكرة التبادلية التقابلية بين نمطين من الحياة. فهو في الأصل، كان يريد الاكتفاء بإبراز صورة اللهو والخواء في مدينة القمار والسياحة لا أكثر. من الطبيعي القول هنا إن كل ما سردناه أعلاه قد يبدو اليوم عادياً، ولا سيما مسألة البعد البصري الذي يقابل، ايديولوجياً، بين أنماط من العيش. وكذلك يبدو اليوم عادياً كل ذلك التلاحق للصور الذي يبدو أول الأمر عابثاً ثم يتخذ دلالته لاحقاً... غير ان هذا كان جديداً في ذلك الحين. وكان جان فيغو قد تعلمه من مشاهدة أفلام المعلمين الروس الذين كانوا من أوائل الذين حققوا ذلك الاستخدام الايديولوجي للسينما. وجان فيغو 1905 - 1934، على أية حال كالشهاب في فضاء السينما الفرنسية خلال العقود الأولى من القرن العشرين. وكان لا يزال يافعاً حين أمسك الكاميرا وراح يصور، لكن مساره المهني لم يستمر طويلاً، اذ انه رحل وفي جعبته مشاريع كثيرة، مخلفاً وراءه، الى"في صدد نيس"أعمالاً قليلة هي"صفر في السلوك"وپ"تاريس ملك الماء"وپ"الآتالانت"الذي أنجزه قبل رحيله بأسابيع قليلة. ونذكر هنا أخيراً أن"صفر في السلوك"قد ظل ممنوعاً من العرض حتى العام 1945.