يعتبر جان فيغو الفرنسي حالاً خاصة في تاريخ السينما في بلاده، وربما في تاريخ السينما العالمية ايضاً. فهو صاحب فيلمين على الأقل يعتبران علامات في مسار الفن السابع خلال النصف الأول من ثلاثينات القرن الفائت. وهذان الفيلمان كان من شأنهما ان يجعلا من صاحبهما واحداً من كبار معلّمي هذا الفن... لكن ما حدث هو ان جان فيغو مات وهو بعد في التاسعة والعشرين من عمره ما قطع رحلته في الحياة وفي السينما قبل ان يكتمل وصوله الى ما يشبه الأسطورة، جاعلاً من افلامه القليلة جزءاً اساسياً من البناء التأسيسي للسينما الوثائقية من ناحية وللسينما الروائية من ناحية ثانية. وفي مجال هذا النوع الأخير يقف فيلمه الوحيد "لاتالانت" دليلاً على ان ذلك السينمائي الشاب والموهوب كان يمكنه ان يكمل الطريق ليكون بالنسبة الى السينما الفرنسية ما كانه، مثلاً، اريك فون شتروهايم بالنسبة الى السينما العالمية: مخرج القلق والقسوة والعواطف الملتهبة، حتى وإن كان فيغو قد عرف شخصياً بالطيبة والابتعاد عن الأحقاد وشتى ضروب الكراهية. ومهما كان من الأمر فإن تاريخ السينما تعامل مع حياة جان فيغو على قصرها، كما تعامل مع سينماه، بصفتهما شيئاً يخرج عن العادية. فجان فيغو هو اصلاً، ابن صحافي اشتراكي يدعى الميدا، تورط خلال عبور ابنه سن المراهقة في الكثير من القضايا، حيث انه سجن في نهاية الأمر ثم مات في السجن... وتأثر الابن كثيراً بما حدث لأبيه... تأثر الى درجة ان المرض الذي اصابه وهو في السادسة والعشرين وسيقضي عليه بعد ذلك بثلاث سنوات، اعتبر نتيجة لمأساة الأب. لكن الغريب في الأمر ان المرء لا يمكنه ان يعثر، في افلام جان فيغو، القصيرة او الطويلة، على آثار واضحة لتأثره بمأساة ابيه، حتى وإن كان في إمكانه ان يعثر على آثار تلك المرحلة الانتقالية الصاخبة والعنيفة التي كانتها في فرنسا وفي اوروبا عموماً، تلك الحقبة من الزمن. وإذا كان "صفر في السلوك" 1992 و"بصدد نيس" قبل ذلك يعتبران عادة الفيلمين اللذين صنعا مكانة جان فيغو وشهرته، فإنه فيلمه الروائي "لاتالانت" والذي اكتشف ورُمّم في وقت متأخر، يعتبر ملحمته السينمائية الحقيقية. ويقيناً ان هذا الفيلم كان هو ما فكر فيه فرانسوا تروفو، احد كبار مخرجي الموجة الفرنسية، حين قال عن جان فيغو ذات يوم: "إذا ما انكببنا على تحليل السينما الفرنسية كما بدت عند بداية السينما الناطقة، سنجد ان جان فيغو، كان بين العام 1930 والعام 1940، الوحيد الى جانب الإنساني جان رينوار، والرؤيوي آبيل غانس، الذي يمكن اعتباره سينمائياً كبيراً". إذ حتى ولو كان "بصدد نيس" الذي يلقي نظرة قاسية ومن دون تنازلات على مدينة الأثرياء الفرنسيين، فيلماً كبيراً، وحتى ولو كان "صفر في السلوك" متميزاً بسخريته الحادة، فإن "لاتالانت" ذا الموضوع الأبسط والأسلس، يظل العمل الذي يمكن النظر الى موهبة فيغو الحقيقية من خلاله. و"لاتالانت" في الفيلم هو اسم مركب نهري، يمخر به عروسان تزوجا حديثاً في قرية فرنسية صغيرة، عباب الماء في شهر عسلهما. وهذان العروسان هما جولييت ابنة المزارعين وجان البحار. وهما يصعدان الى المركب فور انتهاء حفلة الزفاف ليتجولا به، تبعاً لقواعد وضعتها شركة الملاحة التي تملكه مسبقاً. اما طاقم المركب فإنه يتألف من مساعد بحار، ومن بحار عجوز قاس، هو الاب جول الذي يعيش معظم وقته في قمرته وسط قططه والموسيقى التي لا يتوقف عن سماعها في ظل فوضى شديدة تطبع حياته وشخصيته وقمرته ايضاً. اما جولييت فإنها كما تقدم لنا منذ البداية فتاة رومانطيقية لا تحلم الا بالعيش في باريس وبزينتها الخاصة. ومن هنا لم يكن غريباً عليها ان تبهر بشخصية الاب جول وطريقته في العيش. والحال ان الرحلة تمضي بهؤلاء جميعاً طوال ايام، حتى يصل المركب بهم الى مشارف باريس... وتبدو هنا جولييت كالمسحورة تماماً. ولاحقاً حين يصطحبها زوجها الى ملهى للترفيه عنها، تستسلم على الفور لنظرات شخص تجد فيها تجسيداً لحلمها الرومانطيقي. وحين يحاول زوجها، اذ يلاحظ ما يحدث ويغتاظ من جرأته، ان يختصر المشوار ويعود بعروسه الى المركب، ترفض العروس العودة كلياً... قائلة انها اذ وصلت الى العاصمة، باتت تفضل ان تعيش حياتها كما يحلو لها. ويسقط في يد جان حين تهرب زوجته ويشتم الساعة التي زار فيها المدينة. وتمضي الايام واذا بفصل الشتاء يزداد قسوة، وخصوصاً على جولييت التي ما ان تفيق من حلمها حتى تجد نفسها خاوية الوفاض، من دون عمل ومن دون حماية، ضائعة بين امثالها من الخائبين العاطلين عن العمل. بل ان الامور تزداد سوءاً حين يحاول لص ان يسرق لها محفظتها التي تحمل فيها كل ما تبقى لها. وفوق ظهر المركب ثمة قلق وحزن حلاّ محل شهر العسل... وها هو جان قلق عاجز عن النوم في الوقت الذي تهدده فيه شركة الملاحة بسحب المركب منه... وامام هذه الاوضاع البائسة يقرر الاب جول ان يذهب بنفسه الى حيث يمكنه العثور على جولييت واستعادتها. وهناك في مخزن لبيع الاسطوانات ينتهي الى العثور عليها، وهي غارقة في الاستماع الى اغاني البحارة. وعلى رغم تمنع الفتاة المبدئي، يحملها الاب جول فوق كتفيه عنوة تقريباً، عائداً بها الى جان الذي ينتظرها بحب. وهكذا اذ يجتمع العروسان من جديد ويتصافيان ويتصالحان، ينطلق المركب من جديد باحثاً عن آفاق اخرى... بعيداً من قسوة المدينة. لقد صور جان فيغو فيلمه هذا وسط فصل الخريف، من اجل الحصول على التأثيرات الدرامية التي كان اصلاً يسعى الى الحصول عليها. وهو - اي فيغو - كان المرض في ذلك الحين قد اشتد عليه ونعرف انه مات بداء السل ما ان انتهى من تصوير المشاهد الاخيرة للفيلم. وعن هذا الفيلم يقول الناقد الفرنسي كلود بيلي: "ان "لاتالانت" يبدأ على شكل مهزلة ريفية مضحكة، لكنه ينتهي على شكل قصيدة حب استثنائية، بعد جولة على بعض اجمل الاغاني الشعبية في الحقبة التي يصورها..."، اما من ناحية الاسلوب فإن الفيلم يتأرجح، ولا سيما خلال النصف الثاني منه بين اجواء الخيال السوريالي، وعوالم التوثيق الاجتماعي مثلاً، كما يقول بيلي، من خلال مشهد العاطلين عن العمل امام مصنع مقفل. جان فيغو 1905-1934 لم يعش على اي حال حتى يشهد الاستقبال الجيد الذي خص به كبار النقاد هذا الفيلم. وحسناً فعل ! لأنه لو عاش لكان من شأنه ايضاً ان يرى كيف ان الفيلم حقق في عروضه الاولى اخفاقاً كبيراً في اوساط الجمهور... ما ادى الى غيابه عن الشاشات طوال سنوات عدة، عاد بعدها ليعرض باسمه الجديد والنهائي "لاتالانت" بعد ان كان اسمه اول الامر "المركب العابر". اما اليوم فإن "لاتالانت" يعتبر من كلاسيكيات السينما الفرنسية. والدور الذي لعبه ميشال سيمون فيه دور الاب جول، يعتبر واحداً من اروع ادواره على الاطلاق.