الآن وقد هدأت التوترات التي نجمت عن عبارات الامبراطور البيزنطي التي استشهد بها البابا بنديكتوس السادس عشر، يجدر بنا أن نتدبر بعمق أهمية الدعوة التي وجهها بابا روما الى المسيحيين والمسلمين"للعمل سوياً"من أجل مستقبل أفضل. وقد جاءت الدعوة، كما هو معروف، ضمن خطاب موجه من بابا روما الى سفراء الدول الاسلامية الذين اجتمع بهم في مقر اقامته في كاستيل غاندولفو. وقد قرأ البعض وفهم تلك الدعوة على أنها أقوى دليل على الأسف الصادق الذي شعر به بنديكتوس السادس عشر نتيجة للبلبلة التي شعر بها المسلمون بسبب استشهاده بعبارات الامبراطور البيزنطي عن النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام. ولكن هناك من المسلمين والمسيحيين من يتساءل، وقد انزعج الفريق الأول من العبارات والفريق الثاني من العنف الكلامي الذي رافق بعض ردود الأفعال، ما إذا كان هناك التزام من جانبهم بالبحث عن قاعدة من القيم المشتركة الضرورية كي يواجهوا معاً تحديات العصر الحديث الذي يعمل أحياناً على تآكل الاخلاقيات والعدالة. وهو سؤال قد يجد مبرراً آخر في نظر البعض في أعقاب الخلافات المتكررة التي نلاحظها في التعايش بين المسلمين وغير المسلمين في البلاد الأوروبية. والتمهيد يمكن أن يفيد في وضع المشكلة في إطارها الصحيح بصورة أفضل. فمن الواضح أن خطاب البابا كان معداً لحضّ الغرب، وأوروبا بصفة خاصة، على استعادة البعد الروحي الحقيقي للحياة البشرية والوعي الكامل بقيمة الإيمان بالله، وهو إله لا يمكن أن ينفصل عن العقل ومنجزاته. ومن الحقائق المكتسبة عند أهل الكتاب أن العلم والدين لا يسيران في مسارين منفصلين. ففي العصور الوسطى، وصل توما الاكويني وأغوستينو إيبونا وابن رشد وابن ميمون الى النتيجة نفسها، وهو أنه لا يوجد تناقض في الديانات التوحيدية الثلاث بين العقيدة والعقل وأن الفلسفة والعلم على حد سواء يسهمان في إلقاء الضوء على الوحي الإلهي. وبالتالي فإن هناك أسساً قوية لمواصلة البحث بين الإسلام والغرب عن قيم مشتركة يمكن أن يقوم فيها المسلمون والمسيحيون بعمل مشترك. وهنا أيضاً لا يوجد ما نخترعه. ويكفي ان نلقي الضوء على آراء قيلت في الماضي بحكمة وذكاء. ويمكن أن نذكر هنا محمد عبده، مفتي مصر الكبير، الذي عاش بين القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ففي مجلة"العروة الوثقى"التي أعدها شيخ الأزهر بالتعاون مع مفكر آخر هو جمال الدين الافغاني، كان هناك مفهوم مصلحة المجتمع الاسلامي كهدف للاصلاح لتوسيع نطاق العقل الذي تغذيه وتدعمه القيم العربية - الاسلامية. وقد انفتحت كنيسة روما أيضاً مؤخراً، بعد المنشور البابوي"Populorum Progressio"تقدم الشعوب لبولس السادس في 26 آذار مارس 1967، على الانجازات العلمية للإنسان ويبدو أن كل هذا يسير نحو توافق يشجع على مواصلة العمل المشترك لإعداد مستقبل أفضل للإنسانية، مستقبل تقل فيه المظالم والفوارق ويختفي التمييز. ويكتسب هذا أهمية هائلة بالنسبة الى تعايش المسلمين والمسيحيين في أوروبا. ويبدو لي أن نجاح هذا التعايش يمكن أن يعد من بين أكبر الاهتمامات التي يشترك فيها الإسلام والمسيحية. ويبدو مفيداً أن نذكر في هذا الصدد التقدم الواعد الذي تم بالذات في الأسابيع الماضية في ايطاليا في إعداد"ميثاق القيم المشتركة"الذي تبحثه الآن الحكومة الايطالية والهيئة الاستشارية الاسلامية لتنفيذه. ويتعلق"الميثاق"بالأجانب الذين يعيشون أو ينوون العيش في ايطاليا ويحملون عقائد دينية مختلفة. وعلى رغم أن الوثيقة نوقشت مع اللجنة الاستشارية الاسلامية فإنها يمكن أن تطبق في المستقبل أيضاً على ديانات أخرى. ويبلغ عدد المسلمين اليوم في ايطاليا مليوناً ونصف مليون والجالية الاسلامية هي الجالية الدينية الثانية من حيث عدد أفرادها. ولهذا فإننا يمكن أن نفهم بسهولة أهمية الاسلام في ايطاليا. ولهذا السبب أيضاً أكدت الحكومة الايطالية على خطط التأهيل المهني للعاملين الذين سيستمرون في المجيء من الدول العربية والاسلامية. وبتصرفها على هذا النحو، لم ترغب الحكومة الايطالية في الإصغاء لذلك الجانب من المجتمع الايطالي الذي كان يطالب بمزيد من الحذر بسبب مواقف العداء التي أظهرتها الدوائر المتطرفة الاسلامية تجاه ايطاليا والفاتيكان. وبمعنى آخر، رفضت الحكومة الايطالية، وايدها في ذلك جانب كبير من الرأي العام، أن تترك نفسها تنساق وراء نوع من تصعيد التوتر وأعطت الثقة للقيم الحقيقية للإسلام وليس للقيم التي تعلن عنها أقليات متطرفة تسيء استخدامها. والتاريخ يعلمنا أن جميع حركات التطرف، أياً كانت عقيدتها التي تعلنها، تشترك في الكراهية والعنف. ومن المهم أن نلاحظ أن الكنيسة الكاثوليكية أعربت عن رأيها ليس فقط لصالح تبني ميثاق القيم ولكن أيضاً للاجراءات العملية التي سيتضمنها الميثاق وهي مذكورة جزئياً في جدول الأعمال ومن بينها تعليم الإسلام في المدارس والاعتراف بالخصوصية الثقافية. وجدير بالذكر في هذا الشأن أيضاً اننا نقوم بإعداد مشروع انشاء جامعة للهندسة في مقر معهد دون بوسكو في القاهرة، الذي يديره رجال دين كاثوليك. وسيتمكن الحاصلون على شهادة المعهد، من المسيحيين والمسلمين على حد سواء، من الحصول على الاعتراف بالشهادة الجامعية وممارسة مهنتهم في ايطاليا اذا رغبوا في ذلك. ويعد الوصول الى الدراسة ونوعية التعليم والاندماج في عالم العمل من الاهداف المهمة"كي نبني معاً مستقبلاً أفضل". ويتعين علينا جميعاً، في نطاق المسؤوليات الملقاة على عاتق كل منا، أن نغير اتجاه عدم الفهم وانعدام الثقة، بصبر وتسامح، مع العمل على تقدم الغايات الطيبة والسياسات الجيدة. والمسار الذي نشرع فيه للوصول الى الأهداف المحددة سلفاً لا يخلو دائماً من العقبات. ويجب أن لا نندهش اذا ما تعرض اصرارنا على مواصلة المسيرة لتجربة صعبة نتيجة لظروف الحياة والاحداث في العالم. ويجب أن نتعلم فقط ألا تغيب عن أنظارنا أهدافنا نحو كل ما هو ايجابي ويحقق الخير للجميع. * سفير ايطاليا في مصر