يقال عادة ان المشاريع الابداعية الكبرى التي يموت أصحابها من دون أن يحققوها، تكون أكثر تعبيراً عن فنهم، خصوصاً إذا كانت هذه المشاريع تنتمي الى الفنون التركيبية كالسينما والهندسة المعمارية وغيرها من الانجازات التي إذ تصاغ، في البداية، في شكل فردي، تعود وتحتاج لكي تنفذ الى تضافر جهود كثيرة، والى نفقات تعدّل لاحقاً من الشكل والمضمون الأولين، الفرديين للعمل، تحت وطأة الظروف وتدخل الآخرين والموازنات وضغط الوقت وما شابه. طبعاً حين تكتب سيرة مبدع في علاقته مع فنه يؤتى عادة على ذكر هذه الانجازات غير المنجزة.. وربما يحكى عنها بالتفصيل، غير ان من الصعب بناء تحليل شامل لعمل المبدع انطلاقاً منها. وفي أفضل الاحوال تشكل جزءاً من سيرته الخاصة، من دون أن تدخل في السياق العام لتاريخ الفن الذي تنتمي اليه. ونحن نعرف ان ثمة في حياة ومسار كل المبدعين الكبار مشاريع عدة من هذا النوع. بل يروى عن السينمائي أورسون ويلز ان عدد المشاريع التي صممها ورغب في تنفيذها يفوق كثيراً عدد المشاريع التي حققها. ويقال، تفكهاً، انه كان يضع يده بسرعة على كل رواية كبيرة تصدر معلناً عزمه على اقتباسها، لمنع الآخرين من الاقتراب منها. ما يقال عن الفنانين المبدعين ولا سيما السينمائيين هنا، يمكن ان يقال أيضاً عن كبار المهندسين المعماريين، بل ان هؤلاء - وهذه ميزة اخرى لفنهم - قد يتركون وراءهم مشاريع يصوغونها في زمنهم وهم عارفون سلفاً بعدم إمكان تحقيقها، لأن التقنيات المتوافرة، أو الظروف الكثيرة لا تكون مهيئة ومهيأة لذلك بعد، لكنهم يعرفون حقاً ان الازمان المقبلة ستذلل الصعوبات ولو بعد رحيلهم. ومن هنا، إذا كانت مشاريع السينمائيين غير المتحققة مشاريع ميتة، أو تموت بموتهم، فإن مشاريع العمرانيين مشاريع قابلة للتنفيذ، إما بالشكل نفسه الذي صممه العمراني، أو بأشكال معدلة، إنما تحمل دائماً طابعه وترتبط بعمله. ولا يشذ المعماري الأميركي الكبير فرانك لويد رايت عن هذه القاعدة، هو الذي حين، حل العام 1959، ترك وراءه مشاريع كثيرة وكبيرة نفذها تلامذته ومساعدوه من بعده، ولعل أهمها مبنى متحف غوغنهايم في نيويورك. غير ان لويد رايت ترك ايضاً مشاريع لم يكن يتوقع لها أن تنفذ أبداً، ليس لاستحالة ذلك، بل لعدم جدواه. ومن هذه المشاريع مشروع ناطحة سحاب تعرف باسم"مايل هاي"، كان من المفروض نظرياً أن تشاد في مدينة شيكاغو بولاية ايلينوي الأميركية. والحقيقة ان هذا المبنى النظري، الذي يرى كثر انه كان ممكن التنفيذ لو أن فرانك لويد استمر على قيد الحياة، كان العمراني نفسه ينظر اليه على شكل مزحة أو خرافة... ولعل في النص الذي قدمه فيه، في شكل تفصيلي ما يشي بتلك النظرة كما سنرى. منذ البداية حين طلب من فرانك لويد رايت ان يصمم برجاً للتلفزة لا يقل ارتفاعه عن ميل بكامله أي عن 1609 أمتار يكون كله برجاً لا أكثر، لم ينظر بعين الجدية أبداً الى مبنى برج لا يكون له مبنى عريض عند قاعدته... كان يرى ان هذا عمل عبثي لا جدوى منه، حتى وإن كان ممكناً من الناحية التقنية. مهما يكن فإن لويد رايت حين عرضت عليه الفكرة، سارع الى وضع أسس نظرية للمشروع بدءاً من شهر آب أغسطس 1956، حيث رسم مخططاً تصورياً لمبنى رفيع ومرتفع ينطلق مثل سهم صلب من الأسفل الى الأعلى، مع مقاطع صاعدة تتخذ شكل معين أو نصف معين. ولقد فسر لويد رايت"سر"الشكل الذي أعطاه للبرج بقوله: هل يتأرجح جرس الكنيسة عادة تحت تأثير هبوب الريح؟ أبداً... لأن الريح لا يمكنها ان تضغط على أعلى الجرس. ولهذا أعطيت هذا البرج هذا الشكل الذي يجعل من المستحيل على الريح التأثير على قمته المدببة. أما في الأسفل فإن المبنى يقاوم ضغط الرياح، لأن له شكلاً ثلاثي - الاقدام، كما تلاحظون. المبنى كله ذو شكل ثلاثي الاقدام... علماً بأن ثلاثي الأقدام هو الشكل الأكثر قدرة على مقاومة كل ضغط يصب عليه من الخارج، بحيث ان كل ضغط يمارس على جانب من الثلاثي يتوزع فوراً على الجانبين الآخرين، ما يجعل الجوانب الثلاثة قادرة على أعلى درجات المقاومة". حتى هنا يبدو كلام لويد رايت مدرسياً ممهداً لمشروع حقيقي هو قيد التنفيذ. ولكن بعد ذلك نجد نصوصاً مرفقة للتصميم، سيبدو عليها ان قرأناها حتى اليوم بعد نحو نصف قرن انها تنتمي الى عالم الخيال العلمي أكثر من انتمائها الى الواقع... وكلها بقلم لويد رايت. إذ ها هو يكتب:"أولاً هناك عشرون طابقاً، ارتفاع كل منها 18 قدماً، تليها بقية الطوابق التي يرتفع كل واحد منها عشرة أقدام. أما المساحة الاجمالية القابلة للإيجار للمشروع فتبلغ ستة ملايين قدم مربع، ينقص منها مليونان، تشكل مساحة الصالات العالية والاستوديوات وما الى ذلك أما الكلفة الاجمالية للعمل ككل فمن المتوقع ان تصل الى 60 مليون دولار. والنتيجة 4 ملايين قدم مربع بسعر 10 دولارات للقدم الواحد هنا اذا حسبنا 100 قدم مربع لكل فرد، يصبح في مقدورنا ان نقول ان عدد المقيمين يمكن ان يصل الى 45 ألف شخص، نضيف اليهم قدرة الصالات والاستوديوات والمسارح على استقبال أشخاص عابرين وتساوي أكثر من 60 ألف شخص، ما يجعل البناء يتسع في ساعات الذروة لمئة الف شخص. أما مرائب السيارات فيمكن ان تتسع الى 15 ألف سيارة، ناهيك في إمكان هبوط وإقلاع مئة طائرة هيلوكوبتر في وقت واحد". ترى حين أورد هذه الأرقام، هل كان لويد رايت جاداً؟ هل كان يتصور انه سيحقق المشروع فعلاً على هذا النمط؟ ان قراءة هذه الأرقام بالأسلوب الذي كتبت به، يقول ان الرجل كان يبالغ عن قصد، ولكي يقول ان من المستحيل اعتبار المشروع جدياً، غير انه يكتب بعد ذلك، وفي كل جدية تفاصيل بنيوية اضافية، ليس سراً ان معماريين كثراً أتوا من بعده ليطبقوها، وغالباً من دون أن يشيروا الى مصدرها. فمثلاً هناك مسألة أساسات القاعدة التي تحدث المعماري الكبير عن امتزاجها المطلق بالأرض الصخرية من حولها، كما حال السيف حين يغرق في غمده. أما مساحة الجدران الخارجية فإنها يجب ان تكون محمية من تأثير الأمطار والشمس بفضل مظلات واقية. ويتحدث المهندس عن المصاعد، التي يتألف كل منها من خمس كبائن ما يجعل كل مصعد أشبه بقطار عمودي يسير على الطاقة الذرية. والطريف ان في الوقت الذي يضيق المبنى كلما رحنا صعوداً، لا تساير المصاعد ذلك الاتجاه، بل تواصل صعودها وسط أنابيب شفافة خاصة تخرج من الجدران صعوداً. كما ان ثمة ممرات تصل المصاعد بمختلف الطوابق العليا. كما أشرنا، لم يحقق مشروع"مايل هاي"هذا أبداً، لكنه اعتبر أثراً أساسياً من الآثار التي تركها فرانك لويد رايت 1867 - 1959 ذلك المعماري الأميركي الكبير، الذي بدّل من طرائق العمران ومواده، ووظيفته وعلاقته بالطبيعة خلال النصف الأول من القرن العشرين، واعتبر دائماً واحداً من المعماريين الأكثر ديموقراطياً وحنوّاً على البيئة. ولويد رايت، الذي كتب نصاً رائعاً حول"مدينة الحياة"لا يزال انصار البيئة يبجلونه حتى اليوم في وسكونسين ودرس في شيكاغو، وعمّت شهرته كعمراني انساني العالم اجمع ولا سيما منذ اشتهر تصميمه وتنفيذه لواحد من أجمل البيوت الخاصة في أميركا: منزل ادغار كوفمان، الذي زاوج في شكل نادر وخلاق بين الصخور والمياه والمسكن.