في العام 1958، أي قبل وفاته بعام، أنجز المعماري الاميركي الكبير فرانك لويد رايت تصميماً لواحد من اغلى مشاريعه على قلبه، وكان بالطبع مشروعاً لم يتحقق ابداً، حمل اسم"المدينة الحية". وبدا هذا المشروع يومها اشبه بوصية لواحد من ابرز معماريي القرن العشرين. غير ان الذين ادهشهم المشروع ببعده الخيالي، وفاجأهم لويد باهتمامه به، لم يكونوا يعرفون الكثير، في الحقيقة، عن لويد... ولو كانوا يعرفون لما فوجئوا، وذلك ببساطة لأن لويد كان اصدر في العام 1932 كتاباً عنوانه"المدينة المختفية"اعلن فيه نزعته المعادية للمدينة كعمران باطوني مركزي، مفسراً الحاجة الى لا مركزية متشددة تدفع الناس للخروج من المدن الملوثة المكتظة الخانقة، في عودة الى سكن الطبيعة واستعادة العلاقة مع الريف. الغريب ان هذا الكتاب، اذ صدر في وقت كانت اميركا تعيش واحدة من أسوأ لحظات انهيارها الاقتصادي، لم يلفت نظر الكثيرين بل اعتبر من قبل الفكر الخيالي... وتابع لويد عمله وكأن شيئاً لم يكن... فيما وجد الكتاب طريقه الى ارفف المكتبات والى ما يشبه النسيان. غير ان اللافت والمهم هنا، هو توقيت صدور ذلك الكتاب، بالعلاقة مع عمل لويد نفسه: فالصدور كان قبل ثلاثة اعوام فقط من بدء لويد تصميم ذلك المنزل وتنفيذه الذي سيصبح علامة اساسية على مساره المهني، ونقطة انعطافية في تاريخ العمران الاميركي والعالمي. ونعني بذلك ادغار كوفمان، المعروف باسم"شلال الماء"، في منطقة ميل ران بولاية بنسلفانيا في الشرق الاميركي. استغرق بناء هذا المنزل، يومها، اربع سنوات كاملة... ولكن من الواضح ان فرانك لويد، بدأ التفكير فيه ووضع التصميمات اللازمة له، منذ الوقت الذي كان يدبج فيه فصول"المدينة المختفية"، خصوصاً ان هذا المشروع انما يبدو كتطبيق عملي مثالي، على معظم ما نادى به لويد في كتابه. واذا كان قد أثر عن لويد انه قال عن هذا الانجاز، خلال سجال مسهب اجراه مع جماعة"تاليسين"التي كان زعيمها ومؤسسها ورئيس تحرير مجلتها، وهي جماعة كانت تعنى بالتجديد العمراني انطلاقاً من نزعات انسانية مناصرة للطبيعة:"ان شلال الماء هذا - ويعني البيت بالطبع - هو بركة من تلك البركات التي يمكننا ان نسر بتلقيها في هذه الحياة الدنيا. وأنا اعتقد بأن لا شيء في هذا المجال، وازى على الاطلاق ما في هذا العمل من تناسق، ومن تعبير صارخ عن مبدأ الحدث الذي يجلل الغابة والنهر والصخر وكل عناصر البناء تترابط وتتشكل لتكوّن شراكة هي من الهدوء بحيث انكم لا تسمعون وأنتم فيه أي ضجة على رغم هدير الماء العاصف المتساقط... فيه تصغون الى شلال الماء تماماً مثلما يصغي المرء الى اقصى درجات الهدوء في الريف". اذاً، لئن كان لويد قد قال هذا خلال ذلك السجال الشهير، فإنه في الحقيقة لم يكن مبالغاً على الاطلاق والمنزل قائم دائماً ليذكرنا بهذا الانجاز الحضاري الاستثنائي. غير ان السكون ليس، طبعاً، كل ما يميز هذا المبنى الذي يبدو دائماً، وفي الوقت نفسه، قديماً عريقاً كأنه كان في مكانه منذ الأزل، وأيضاً جديداً طازجاً وصياً كما لو ان آخر لمسة في بنائه وضعت في الامس فقط. في هذا المبنى الرائع والبسيط، طبق لويد بوضوح كل نظرياته المتعلقة بالمزج الفعال بين العمران والطبيعة لما فيه فائدة وجمال الاثنين معاً. وهو كان يقول دائماً ان ما يهمه انما كان ذلك التجاور بين ما انجزه الله الطبيعة وما انجزه الانسان العمران... وكانت النتيجة ان اعتبر البيت منجزاً لحلم العمرانيين واليوتوبيين القديم، والذي يقوم في وضع الانسان في علاقة عضوية ومتواصلة مع الطبيعة. وكما اشرنا، فإن هذه العلاقة المتوخاة بين الانسان والطبيعة شكلت دائماً واحداً من هموم لويد، هو الذي كان يعرف تماماً ان انجاز هذا المشروع، امر لن يعني فقط اصحاب البيت، او اهل المنطقة التي اقيم فيها، بل العالم كله ايضاً، حيث يتخذ المشروع كمثال. وبالفعل يعتبر منزل ادغار كوفمان، منذ انجز بناؤه، اشهر منزل عائلي خاص في العالم، وذلك بفضل ألوف الصور التي لا يتوقف التقاطها له، من كل جوانبه... ولكن خصوصاً من اسفل شلال الماء في منظر بات مألوفاً، يصور الماء المتساقط تعلوه الشرفات والسطيحات المركبة فوق بعضها البعض تشرف اهمها على مياه الشلال نفسه. حرص لويد في تصميمه لهذا البيت وتنفيذه في ذلك المكان الذي جرى اختياره بعناية، على ان يجعل سكان البيت في تلاحم تام مع عنق الجبل، من جهة، ومع الاشجار وأوراق الشجر والنباتات البرية من جهة ثانية، ومع الماء المتدفق، طبعاً، من الجهة الثالثة، وتصف الكتب المتحدثة عن عمل لويد والمتوقفة طويلاً عند اسلوب هندسة هذا البيت، ان فاعليته لا تقتصر على هندسته الخارجية، بل ان الهندسة الداخلية ايضاً تعطي مكاناً اولياً وأساسياً للبيئة الطبيعية التي شدد المصمم على دوام حضورها، في شكل جعلها جزءاً اساسياً من التصميم نفسه، وجزءاً اساسياً من الحياة اليومية لساكني البيت. والباحثون يصفون لنا بالتفصيل كيف ان الطابق الرئيسي في البيت يطل على ثلاثة مشاهد مختلفة، ومتكاملة في آن معاً". وكيف ان السطيحات اقيمت على مستويات عدة منفتحة في اتجاهين اولهما يطل على الجانب الجبلي العالي من المنطقة، فيما يطل الثاني على الصخور وشلال الماء. اما غرف الطوابق العليا فإن لكل منها شرفتها او سطحيتها الخاصة بها، كما ان غرفة العمل والرواق المقامين في الطابق الثالث يتمتعان ايضاً بشرفات وسطحيات خاصة بهما. من ناحية مواد البناء، حرص لويد منذ البداية ان يتم بناء كل العناصر العمودية من البيت بواسطة حجارة محلية يؤتى بها من المنطقة نفسها، لكي تظل على تلاحم تام، بيّن او خفي، مع طبيعة المنطقة وتضاريسها... في الوقت الذي اصر على ان تستخدم الحجارة نافرة بعض الشيء لكي يعطى المبنى كله من الخارج طابعاً نحتياً، يظهره وكأنه منحوتة عملاقة. اما العناصر الافقية في البناء فلقد اقيمت من الباطون السائل... اما ارضية المبنى في طوابقه جميعاً، فلقد غطيت بالحجارة... وحتى حين كانت الارضية الظاهرة خشبية فإن الحجارة انتشرت تحتها... والامر نفسه يمكن ان يقال ايضاً عن ابرز الجدران... فيما استخدم خشب الجوز الاصلي للمنجورات... ما اسهم اكثر وأكثر في اقلمة العمران مع جذور الطبيعة. نعرف ان فرانك لويد رايت حقق عشرات الابنية طوال حياته، داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، لكنه ظل حتى آخر ايامه يتحدث عن منزل كوفمان شلال الماء بصفته احب اعماله الى قلبه. ولويد رايت الذي ولد العام 1867 ورحل العام 1959، يعود اصله الى ولاية وسكوتسين. وهو منذ دراسته الثانوية اتخذ قراره بأن يصبح مهندساً معمارياً، وفي هذا الفرع انهى دراساته الجامعية ليبدأ ممارسة المهنة بالفعل في العام 1890، وهو بعد في الثالثة والعشرين من عمره... وهو في العام 1893، افتتح مكتبه الخاص الذي منه ستنطلق خلال ثلثي قرن كل تلك المشاريع الكبرى التي وضعته في مقدم معماريي القرن العشرين، ومن ابرزها"بيت ويليام ونسلو"1893-1894 ومبنى لاركن 1903-1905 وپ"بيت الألعاب في آفري كونلي"1912-1913 وپ"مبنى جونسون"1936-1939 وپ"متحف غوغنهايم"1943-1959.