حان وقت الحساب والقرار، ففي مواقع عدة تجد حكومة الولاياتالمتحدة نفسها عند مفترق طرق. جربت على امتداد عقدين أن تقنع، أو تفرض على دول العالم النامي، السير في طريق من حارتين، حارة للديموقراطية وحارة لاقتصاد السوق. والحارتان متلازمتان ومتوازيتان واتجاههما واحد، والسير فيهما إجباري لكل الحكومات وإن بسرعات تتفاوت. ولم تكن منطقتنا العربية استثناء إلا في مسألة التزامن، إذ أنه لظروف خاصة، وقع الضغط الأميركي لتسريع مسائل السوق والتجارة وعدم انتظار اكتمال مسائل الحرية والديموقراطية. ثم وقع الضغط بالنسبة لهذه الأخيرة وظل يخضع لاعتبارات تتغير حسب الظروف المحلية والحرب ضد الإرهاب وظرف العراق. أما لماذا حان وقت الحساب والقرار؟ حان لأن تطورات في الشرق الأوسط وتطورات أهم في أميركا اللاتينية حدثت وفرضت إعادة النظر في الحكمة من ضرورة تلازم المسارين، حتى صارت مطروحة العودة إلى فصلهما، وبخاصة بعد أن تأكد في حالات غير قليلة أن السير في حارة الديموقراطية، على رغم بطئه الشديد وكثرة المطبات والإصلاحات الجارية فيه، سهّل وصول جماعات ونخب وأفكار ترفض السير في المسار الآخر، وبعضها وجد الجرأة ليعلن أنه ينوي فتحه للسير والسائرين في عكس الاتجاه، أي نحو العودة إلى دعم القطاع العام وحماية الفقراء وأرباب المعاشات والرقابة على الأسعار وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء. في حال الشرق الأوسط، تأكد أن المسار الديموقراطي لم يغير في موقف القوى التي لا تلتزم احترام قواعد السير في هذا المسار، فهي لم تلتزم حتى الآن بشكل موثوق به مبدأ تداول السلطة، وتتساوى في نظري قوى السلطة ومعظم المستقلين والمعارضين. من جهة أخرى، أثبتت الممارسات على المسار الثاني، مسار اقتصاد السوق والرأسمالية المتطرفة، أن دول الشرق الأوسط في غالبيتها ملتزمة شروط هذا المسار، فالقوى السياسية قد تستخدم ضد بعضها البعض عنفاً شديداً أو قليلاً، وقد تدوس حقوق الإنسان وتلجأ إلى الرشاوى والتزوير والكذب، ولكنها تحافظ على توافقها بالنسبة لحرية السوق وسياسات المؤسسات الاقتصادية الدولية ومبادئ حرية التجارة، وطالما ظل الوضع على هذه الحال فلن يصيب ضرر كبير أيًا من حكومات المنطقة أو القوى السياسية الأخرى. يختلف الوضع في حالة أميركا اللاتينية. نعرف أن دول القارة اللاتينية بدأت بالتزام المسارين معاً، أي الديموقراطية واقتصاد السوق، في منتصف الثمانينات. وعاشت الولاياتالمتحدة سعيدة بجوارها القريب السائر على الدربين بانضباط وطاعة. وأفرزت التجربة نسباً مرتفعة في نمو الدخل القومي أبرزتها وسائل الإعلام والدبلوماسية الأميركية وتفادت الحديث عن الجوانب السلبية التي رافقت هذا النمو ومنها تفاقم الديون الخارجية وغياب المساواة الاقتصادية والاجتماعية وارتفاع البطالة والتوتر الاجتماعي وانكماش الطبقة الوسطى. وتحت ضغط سلبيات العولمة وبسبب التدخل الفج أحياناً من الولاياتالمتحدة والمؤسسات الدولية، بدأت الديموقراطية تفرز نمطاً مختلفاً من النخب والجماعات. انحسرت الأحزاب ونفوذها في دول متعددة ونمت حركات جماهيرية. وفي منتصف التسعينات بدأت تطفو على ساحة العمل السياسي قيادات جديدة. ظهر هوغو تشافيز في فنزويلا رئيساً منتخباً في العام 1998، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف سيل الحركات والقادة الجدد في أميركا اللاتينية. لم يكن خافياً أن القارة عادت تميل نحو"يسارها"ذي النكهة الخاصة. وكاد يصبح في حكم المؤكد أن أي انتخابات ستجري في دولة من دول أميركا اللاتينية ستأتي بحكومة يسارية. هكذا وصل للحكم في الأرجنتين يساريون بقيادة إرنستو كيرتشنر وفي البرازيل برئاسة لويز إيناسيو لولا دي سيلفا وفي الأورغواي على يد تاباريه فاسكيز. ثم وقعت المفاجأة حين فاز إيفو موراليس رئيساً لبوليفيا، وبفوزه أصبح أكثر من ثلاثة أرباع سكان أميركا اللاتينية، أي حوالي 300 مليون نسمة من بين 365 مليوناً يعيشون في ظل حكومات يسارية. ومع بداية العام الجديد تبدأ حلقات جديدة في مسلسل الانتخابات، أهمها قد تكون انتخابات الإعادة في شيلي حيث يحتمل أن تفوز السيدة ميشيل باشيليت. عندئذ ستكون أول سيدة تتولى رئاسة الجمهورية في الأميركتين، ولكن الأهم أنها ستصل مستندة إلى حلف يقوده الاشتراكيون، ومستندة هي نفسها إلى سجلها اليساري وماضيها كابنة لضابط في القوات الجوية الشيلانية قتله رجال الديكتاتور بينوشيه. بمعنى آخر يصل إلى حكم شيلي شخص مناهض لوصفات صندوق النقد الدولي وللاستبداد اليميني والعسكري ولنفوذ الكنيسة. وفي الوقت نفسه، عدو لأجهزة الاستخبارات الأميركية شريكة بينوشيه والمتهمة بدور كبير في اعتقال خصوم الديكتاتور وتعذيبهم، شخص يعيد إلى الذاكرة الشيلانية قصة الانقلاب على الرئيس سلفادور الليندي عام 1970، والمظاهرات التي أسقطت بينوشيه في العام 1988. وبعد شيلي نتوقع انتخابات في نيكاراغوا قد تأتي إلى الحكم بمانويل أورتيغا وجماعته الساندينستيه التي سقطت في 1990 بانتخابات مزيفة وبحرب سنتها ضدها عصابات الكونترا التي مولتها الولاياتالمتحدة ودربت أفرادها. ثم تتوالى انتخابات في المكسيك يترشح فيها لمنصب الرئاسة وبشعبية كبيرة أندريس مانويل أوبرادور عمدة مدينة المكسيك اليساري التوجه والمناهض لاتفاق التجارة الحرة والرافض لسياسات الصندوق الدولي والضغوط الأميركية، وبخاصة اتجاهاتها بالنسبة للهجرة المكسيكية. وعلى نفس المنوال تستعد بيرو والإكوادور لانتخابات يتقدم الصفوف فيها قادة لحركات يسارية. لماذا اهتمامي وآخرين بفوز المزارع إيفو موراليس بمنصب رئاسة جمهورية بوليفيا، ولماذا يعتبر بعض المحللين أن فوزه خط فاصل في التطور السياسي في أميركا اللاتينية؟ أتصور أن هناك أسباباً أربعة على الأقل تجعل لفوز موراليس أهمية فائقة، أولها مجموعة الرموز المتضمنة في هذا الفوز. فهو نجح في البلد الذي سقط فيه قتيلاً على أيدي عملاء الاستخبارات الأميركية تشي غيفارا الثائر الأرجنتيني الذي تحول إلى أسطورة في أميركا اللاتينية وخارجها، فجاء فوز موراليس الملتزم أفكاره ومسيرته في شكل رد اعتبار وانتقام في آن. من جانب آخر أحاطت بفوز موراليس مجموعة روايات عن نشأته وخلفيته الاجتماعية والعرقية خلقت جواً من الإثارة. فالرجل من عائلة هندية تسكن أعالي الجبال وتعمل في رعي اللاما المعروفة بإبل الأنديز. ثم انتقل إلى مرتفعات أقل ارتفاعاً ليعمل مزارعاً للكوكا، وهي الشجرة"الرمز"للمزارعين الهنود في الإكوادور وبيرووبوليفياوكولومبيا، وأنشأ اتحاداً لمزارعي الكوكا للدفاع عنها في مواجهة الحملة الأميركية ضدها. وهو ما لم يفعله بعد المزارعون الفلسطينيون دفاعاً عن شجرة الزيتون، كرمز يتعرض للتدمير على أيدي الإسرائيليين وبرضاء وربما تشجيع الأميركيين. يحكي موراليس عن أيام فقره وكيف كان يركض مع غيره من شباب الهنود وراء الحافلات ليلتقط قشر الموز والبرتقال ليملأ به معدة فارغة. الرمز في هذه القصة يدرك أهميته العارفون بوقع قصص الفقر والبؤس في مدن الصفيح المنتشرة في كل أنحاء أميركا اللاتينية، فمن قصة فقر وبؤس مماثلة صعدت إيفا دوارتي إلى أعلى سلم الحكم والثروة في الأرجنتين في عهد العسكر قبل أن تتزوج بخوان بيرون وتحمله إلى منصب الرئاسة. ثانيها، أي ثاني الأسباب التي تجعل لفوز موراليس أهمية فائقة، هو أنه حقق الفوز على أساس برنامج يتصدى للولايات المتحدة ونفوذها وهيمنتها ويرفض وجودها في صورة حملة عسكرية تهدف إلى القضاء على نبات الكوكا أو مناهضة الإرهاب. وحجتهم هناك كحجتهم هنا، مطاردة المتمردين المسلحين في كولومبيا وغيرها. يتصدى البرنامج كذلك لكل الشركات المتعددة الجنسية العاملة في قطاع الغاز والنفط. السبب الثالث : إن الفوز يأتي ليتوج نضال السكان الأصليين في المكسيك ودول أميركا الوسطى ودول الأنديز جميعاً للحصول على حقوقهم. يقول موراليس إن زمن المهانة انتهى. فالسكان الأصليون، أي الهنود الحمر، عاشوا خمسة قرون محرومين من أي حق إنساني، وحانت لهم الآن فرصة تغيير علم بوليفيا ليحل محله علم ممالك ما قبل الغزو الأسباني. هؤلاء الكوياس COLLAS أشعلوا ثورات ضد المصالح الأجنبية وبخاصة رموز العولمة فأغلقوا ماكدونالدز ومكاتب شركة بكتل التي كانت تعمل لتنفيذ مشروع وضعه صندوق النقد الدولي لخصخصة المياه وطردوا رئيس الدولة غونزالو سانشيز دي لوزادا الذي كان يتفاوض على مد أنبوب للنفط من بوليفيا إلى كاليفورنيا ماراً بشيلي، بينما الشعب البوليفي يتجمد في الصقيع من دون طاقة للتدفئة. أما السبب الرابع فيتعلق بالعلاقة المتدهورة بين دول أميركا اللاتينية والولاياتالمتحدة. فالعام 2005 كان سيئاً بالنسبة الى مكانة الولاياتالمتحدة في أميركا اللاتينية، ليس فقط لأن دولاً عدة مالت نحو اليسار، أو لأن شعبية هوغو شافيز تجاوزت حدود فنزويلا وصارت مؤثرة في غالبية أنحاء القارة متحدية نفوذ واشنطن، أو لأن كاسترو عدو أميركا اللدود سيرحل مطمئناً إلى أن عمله لن يذهب سدى، ولكن أيضاً لأن هيبة الولاياتالمتحدة، وفي وجود الرئيس جورج بوش شخصياً، أصيبت بضرر جسيم خلال انعقاد مؤتمر قمة الأميركتين في منتجع مار ديل بلاتا الأرجنتيني قبل بضعة أسابيع، حين رفض معظم الرؤساء التوقيع على اتفاق التجارة الحرة حتى تفي الولاياتالمتحدة بالتزاماتها تجاه القارة. جاء فوز موراليس ليعمق الانهيار في شعبية السياسة الأميركية ويزيد من نفوذ فنزويلا وكوبا والبرازيل ومن قوة الحركات اليسارية والمناهضة لأميركا في الإقليم. تصادف هذا الفوز مع قرار من الكونغرس الأميركي خاص بإنشاء جدار، كالجدار الإسرائيلي، ولكن بمسافة 2000 ميل من ميناء سان دييغو في غرب الولاياتالمتحدة على المحيط الهادي إلى مدينة براونز فيل على خليج المكسيك، وهو القرار الذي أثار غضب شعوب أميركا الوسطى، خصوصا المكسيكيين. وتصادف الفوز أيضاً مع قرار يعتبر الأول في منطقة الكاريبي اتخذته حكومة ترينيداد يجعل الأسبانية اللغة الرسمية للبلاد والتخلي عن الإنكليزية. وجاء الفوز بعد التهديد الذي وجهه مسؤول أميركي إلى البرازيل بأنها"إذا لم توافق على اتفاق التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة فلن تجد من تتاجر معه في العالم إلا قارة انتاركتيكا"، وبعد تهديد آخر من واشنطن لموراليس نفسه بأنه لو فاز في الانتخابات فستفرض الولاياتالمتحدة الحصار على بوليفيا. يعرف موراليس، كما يعرف زملاؤه من رؤساء القارة، أن للخصومة مع الولاياتالمتحدة ثمناً باهظاً، وأنه قد يكون من المناسب تفادي المواجهة الحادة المباشرة، خصوصاً أن الانقسام دب بالفعل في جماعة اليمين الجديد مهدداً هيمنتها على السياسة الخارجية الأميركية، وقد تأتي نهايتهم وكذلك نهاية حركة أصولية السوق أو"الأصولية السوقية"مع نهاية عهد الرئيس بوش. ومع ذلك أتصور أن المواجهة قادمة، وفي أقرب وقت ممكن، وقد تكون أولى علاماتها تخلي الولاياتالمتحدة عن دعم الديموقراطية من أجل التركيز على حماية السوق. وقد تثبت التجارب الراهنة في الشرق الأوسط وخارجه أنه ربما كان أسهل كثيراً على الولاياتالمتحدة أن تجد قوى ومبررات داخلية وخارجية جاهزة لاستخدام العنف لحماية السوق ودروبها من أن تجد قوى مماثلة ومبررات جاهزة لحماية الديموقراطية ودروبها. * كاتب مصري.