لكلّ واحد منا الحقّ في اتّخاذ وجهة نظر خاصة به فيما يتعلق بتطوّرات الملفّ العراقي، لكن لا يجوز لنا أن ننكر الحقائق الدامغة على أرض الواقع، حتّى وإن علمنا أنّ هناك من يستغل تلك الحقائق لتحقيق مآربه الخاصّة. فالخطر الناجم عن تزييف الحقيقة اكبر من الخطر الناجم عن سوء استغلالها. والحقيقة قد تزحف إلينا شيئاً فشيئاً لكنها ستصلنا أو نصل إليها حتماً في النهاية، ولو بعد وقت طويل. شهد العراق تغييراً جذرياً قلب الأمور رأساً على عقب، فأصبح نظامه السابق في قفص الاتهام بينما اقتسم معارضوه الحكم بمساعدة تحالف دولي. ومن هنا لكلّ فرد منطلقاته المبدئية التي يعتمد عليها لتأويل مجريات الأحداث، فهناك من لا يرى سوى مساوئ الماضي ومحاسن الحاضر، وهناك من لا يرى سوى محاسن الماضي مع مساوئ الحاضر. و كل واحد يضع إحدى تلك الحقائق في مرتبة أولى بل ومقدّسة، فالذي يرى أنّ الاحتلال هو المشكلة الأولى والذي يرى أنّ الدكتاتورية هي المشكلة الأولى والذي يرى أنّ الإرهاب هو المشكلة الأولى والذي يرى أنّ الحكم الصالح هو الطلب الأول... الخ ولنحلل فيما يلي موقفين طالما حسبنا أنهما متناقضان في حين أنهما متكاملان: من جهة أولى، هناك العراقي الذي اضطهده وشرّده صدام فهو يرى فيه دكتاتوراً لا بدّ من التخلّص منه بأيّ طريقة، وهو يعلّق عليه جميع مآسي العراق السابقة واللاحقة، كما يعلّق عليه مآسيه الشّخصية من فقر أو هجرة وتشريد. وكأنّ البلاد العربية الأخرى لا تشكو هي الأخرى من أزمات وظلم وقمع إن كان بنسبة اقلّ إنه وضع التخلّص من الدكتاتورية في المرتبة الأولى بغض النظر عن كيف؟ وبمن؟ لم ينظر إلى البعد الجيوپ-پاستراتيجي الناجم عن التدخل الدولي في العراق. كان تعبير العراقيين عن فرحتهم بسبب سقوط الدكتاتورية لا بقدوم المحتلّ. فقد نال العراقيون الحرّية الضيقة في انتظار نيلهم الحرية الواسعة أي باستقلال القرار في بلدهم. ولا يعني هذا نكران الجميل لمن ساعدهم في التحرّر، لكن عدم تلقّي ضغوط خارجية قد تعيدهم إلى أتون الحروب والمآسي. والملاحظ هنا أنّ الحالة العراقية لم تتشابه مع الحالة الكويتية. فلم يفرش السجاد للپ"محرّرين"و لم تلق الزهور عليهم. ومن جهة أخرى نجد المواطن العربي العادي الذي كان يحلم بعودة العرب الى السّاحة الدولية بقوّة لعلّ ذلك ينعكس إيجاباً على واقعه التعيس، فهو يرى في صدام بطلاً قومياً حارب أعداء ولصوص العرب كأميركا وقبلها إسرائيل، وهناك من يضيف الفرس إلى القائمة. ولكنه لا يرى عيوب نظام صدام كفشله في حروبه وتهجيره عن قصد أو غير قصد ملايين الأدمغة العراقية، إضافة إلى الاستفراد بالحكم وعدم اشراك العراقيين فيه وهو الذي وصل إليه على ظهر دبابة. وعندما يدافع هذا الصنف من العرب عن صدام فانه يصبح متواطئا ضد الشعب العراقي المظلوم. وهذا ما يفسّر كون صدام محبوباً في الخارج أكثر من الداخل، وهو كذلك ما دفع بالعديد من الشباب العرب إلى التطوّع في المقاومة العراقية. ولكن يبدو أنّ هذه المقاومة انخرطت في صراع مذهبي بعد تغير الخارطة السياسية. يمكن مقارنة موقفي المواطن العراقي والمواطن العربي من خارج العراق سواء كان إسلامياً أو قومياً أو يسارياً، بالمثال التالي: إنسان فوق سطح القمر ينظر إلى الأرض فيرى جيداً أنّ الأرض مدورة ولكنه لا يرى تفاصيل التضاريس الموجودة على سطح الأرض، بينما إنسان ثان على الأرض لا يرى كروية الأرض لكنه يرى التضاريس الموجودة على سطحها. والحقيقة ثابتة وهي أن الأرض مكورة وفيها تضاريس متنوعة. لا شيء يدلّ الى أن حكام العراق الجدد سيكونون أداة لتمرير المخططات الأميركية في المنطقة. بل هم عراقيون وطنيون صبروا طويلاً على الظلم، ولم تكن لهم علاقات قديمة مع الولاياتالمتحدة، ومنهم من قاتل الأميركيين، كجماعة مقتدى الصدر. بالطبع لو كان تخليص العراقيين من ظلم صدّام تم على أيدي عرب أو مسلمين لكان ذلك أفضل، لكن هيهات. لقد بالغ البعض في توقعاته تجاه تأثير محاكمة صدام على الدول العربية الأخرى. فيبدو أنّ الولاياتالمتحدة اليوم تريد تبديد خوف الرؤساء العرب الآخرين و إعطاءهم جرعة أمان. فكلنا يعلم أنها هي التي تدير المحاكمة و ليس العراقيون، وهي تحاكمه على ما اقترفه ضدها وضدّ إسرائيل، لكن بسيناريو داخلي متفق عليه، فيكون السكوت عن التورط الغربي مع صدام ثمناً في مقابل الحرّية للعراقيين. المبروك بن عبد العزيز - تونس - بريد الكتروني