منذ فترة نسمع عن طريق تم افتتاحه ما بين بيروت وكردستان العراق فالمثقفون اليساريون اللبنانيون وجدوا وسيلة يعبرون بها عن حسِّهم الديموقراطي وتضامنهم الاخوي مع الشعب الكردي، وهم لم يبالوا ابداً بالعوائق وذهبوا عبر سورية نحو الجبال الجرداء الدامية والمحمية من الولاياتالمتحدة وبريطانيا اللتين تشنان كل يوم الهجمات الجوية على العراقيين شمال وجنوببغداد، الغريب ان يكون هذا الأمر تم افتتاحه الآن بتوافق يثير الدهشة مع انفتاح السماء العراقية على الطيران المدني الدولي والعربي الذي لم يسجل المثقفون اللبنانيون اسماءهم في دفتر القادمين الاول في زحمته. لعل رجال الاعمال كانوا اكثر حساسية لمقتضيات الواجب في قضية هي الأولى بالمعنى الانساني والوطني. كل الطرق المؤدية الى العراق صعبة وبعضها مليء بالفخاخ، والمضللون ومتعهدو الانفار المخادعون يمكن ان يلعبوا لعبة تذكر بقول ليرمنتوف "لقد جعلتم من دعوى الحرية سلاحاً بيد الجلاد" فلماذا ينبغي علينا ان نكون مضطرين لسماع كل ذلك الكلام الذي كتبه كريم مروة في "الحياة" بتاريخ 26 و27 و28/9/2000 في مديح ظل سفرته الملتبسة، وماذا كان يريد، هل هو يثبت هنا قسوة النظام العراقي؟ اذاً فليذهب الى الجنوب والشمال، فالقسوة موزعة بالتساوي فوق كل الأرجاء، وهي اليوم مختلطة، ففوق قسوة السلطات هنالك الانتهاكات والعدوان وسياسة الابادة التي تمارسها الولاياتالمتحدة ضد العراق وشعبه من الشمال الى الجنوب، وغالب الظن ان الانتصار لقضية الحرية يستدعي الوضوح، فقضايا الحرية والعدالة يندر ابداً ان تكون غامضة وملتبسة ناهيك عن ذلك الاختلاط الناجم عن التداخل المصيري، فنحن عرب وهذه بلادنا نحن والاكراد، وليس من الضروري لكي نبدي تضامناً مع الاخوة الأكراد شركائنا في المصير والارض والتاريخ، ان نختار المرور تحت ظلال "الحماية" الاميركية التي تنتقص سيادة بلد عربي وتشن آلاف الغارات اليومية على العراق بينما الاسرائيليون يجدون موطئ قدم لهم هناك، والاكراد انفسهم لا يصيبهم من ذلك سوى المزيد من الضياع وسطوة المجهول. هل يستطيع مثقف عربي او لبناني ان يأكل هذه الثمرة ولا يحس بالسم يصيب نبض ضميره، لقد شكك المثقفون المصريون بمقاصد هذه الحملة التي لا يتجرعها سوى رهط تشهد عليه الخيبة التي حملها وظل يجرجرها على مدى ثلاثة أرباع القرن، والغريب انه ما زال قادراً على ان يخط باسمه فصولاً جديدة لا تثير الفخر، فلماذا لا يشكل اليوم وبعد ان تفجرت الانتفاضة الفلسطينية مسعى ينظم قوافل المشاركة مع الشعب الفلسطيني، فتلك ربما تكون فرصة رائعة للاستدراك ولدفن هذه الزلة قبل ان تكبر. وفي المقابل لا نريد طائرات تعلو في سماء بغداد المثقلة بالهم ورائحة الظلم بل مجرد حياد تتوقف بموجبه هذه النقيصة التي تكيل بمكيالين وتبرر عدواناً على السيادة الوطنية لبلد عربي اقتطع منه جزء من ترابة الوطني بقرار كيفي وبغطرسة اميركية منفردة لا علاقة لها حتى بالقرارات والعقوبات الهائلة المفروضة على العراق. لن نخادع انفسنا ونقول مع هؤلاء ان ذلك هو مجرد عمل ثقافي، فالسياسة في اسوأ ما تكون موجودة هنا وساطعة عبر اسماء المنظمين، اذاً فسوف لن نكون محرضين اذا ما اردنا ان نتساءل عن المبررات التي تجعل بقايا السياسات التي تتيح مثل هذا النوع من تشويه دور المثقفين سارية، خصوصاً في سورية الحالية، التي توحي كل يوم بأنها ليست المعبر الطبيعي لمواقف لا يمكن الا ان تذكر بسجل طويل انتهى زمنه. ان محترفين وعريقين في المهنة من العراقيين ما زالوا يسيّرون مسألة الموقف من العراق باسم محاربة الديكتاتورية والمعارضة المريضة، لكن التناقض بين هذه السياسات العقيمة والديماغوجية التي لا يهمها ان يضيع الفرق بين مقتضيات الموقف الوطني والمقتضيات الديموقراطية القومية، وبين السياسة التي تنبئنا عنها سورية كل يوم، يجعلنا غير بعيدين عن التفكير بقرب اشتغال آليات التطابق، اذ لن يكون من المعقول لو ان سورية استمرت مأخوذة بهذا النوع من المواقف مع ما يعنيه ذلك من اصرار على ترك انطباع سيئ للغاية عن مفهومها الحالي للعمل القومي. لقد تأسست اخيراً هيئة شعبية بقرار من الرئيس بشار الاسد هدفها العمل على رفع الحصار عن العراق باعتباره سياسة ابادة معممة، وهذا إضافة للكثير من المواقف والمبادرات المتلاحقة ازاء العراق كاف لتزويدنا بالقناعة عن التبدل العميق الذي طرأ على توجهات سورية، فهل علينا ان نصدق ان تلك التوجهات لن تؤثر على الجوهر، وانها وكما يروج متعهدو الانفار يثقة يصعب ان لا تصدق، تنطوي على "بنود سرية" مطمئنة. في لحظات بعينها قد تتحول الصداقات والتحالفات الى عبء على واحد من الطرفين، خصوصاً اذا كان الأمر يتعلق اصلاً بعلاقة غير متكافئة كالعلاقات التي قامت في العقود الاربعة الاخيرة بين الدول العربية والمعارضات العربية، وكلنا يعلم ان تلك العلاقات وأساس نشأتها قد تولد عن أزمة كانت قد بدأت تتفاقم في العالم العربي واتخذت في واحد من وجوهها شكل احتدام الصراعات العربية - العربية التي هيأت اسباباً قوية لاستقبال كل بلد لمعارضة البلد الآخر، لكن التدقيق في هذه الظاهرة، وبقدر ما يتعلق الأمر بالعراق، كان يكشف بقوة عن ازمة شاملة. ليس من الصحيح - اذا ما تحرينا خلفياتها - ان نلقي باللائمة فيها على النظام القائم الذي هو بلا شك وجهها الابرز وما يزال وهو قطعاً من اقسى النظم واكثرها دموية وانغلاقاً، فمثل هذه الطريقة في النظر تجعل القضية غير مكتملة وأحادية وهي لا تساعد من ثم على الاقتراب من الحقيقة التي تنبئ بقوة عن ازمة تتعدى وجود النظام الى المعارضة، فالمشكلة العراقية الاعمق والتي ظل العراق يتخبط فيها منذ اكثر من اربعة عقود، هي ازمة موجودة في القمة والقاعدة، ازمة في المنظور الوطني وفي عموم العملية الوطنية العراقية المعاصرة. قبل سنوات سمعت من صديق عربي كان مخرطاً في النضال القومي في اواخر الاربعينات والخمسينات شكوى من غياب الحضور العراقي غير الرسمي في الحياة السياسية العربية، الحضور الفاعل الذي كما قال الرجل وقتها يوازي مكانة العراق ودوره العربي المفترض. ان جوابي على تلك الشكوى لم يكن ولن يكون سوى شكوى مقابلة وعاجزة، لان العراق على هذا الصعيد قدم في العقود الماضية صنوفاً من المساوئ لا توحي بالامل. وعلى رغم ان العراقيين الموجودين في الخارج يقاربون الآن الاربعة ملايين، منهم اكثر من خمسة آلاف من المثقفين والكتّاب والصحافيين والفنانين المسجلين في النقابات والجمعيات، الا ان ما يقدمونه ككتلة هائلة وكنوع، هو اقل من ان يذكر مقارنة بمأساتهم وتأثيرها على المنطقة، ولا ننسى المساوئ والامثلة المشينة التي يسمع بها الناس في كل مكان عن تلك الجماعات "المعارضة" التي توافق بل تدعم بقاء الحصار على شعبها وترشد الغزاة وتحرضهم على المزيد من التدمير وعلى انتهاك السيادة وغلق دائرة الابادة والموت على العراقيين فقط لان البلاد مصابة بمرض الديكتاتورية. وهذا اعتراف بان الذنب لا يقع على المثقفين اللبنانيين ولا على سورية، عندما يأتي اليوم من يقول لهم باسم المواطنة والمعارضة "الديموقراطية" انه يريد تضامناً من الديموقراطيين العرب تأكيداً للاخوة ووحدة المصير والمبادئ، ثم يأخذهم الى حيث لا يفعلون شيئاً سوى انهم يدوسون كل هذه القيم، وحتى لكي يلوثوا ذكرى شاعر عظيم مثل محمد مهدي الجواهري الذي يستخدم اسمه واحياء ذكراه في هذه المناسبة اخس استخدام بينما يتم استعماله بخبث كطعم. ها نحن نعلن ان ما يحدث على هذا الصعيد هو من آثار ذنوبنا وازمتنا، وبالاساس عجزنا عن ابتكار سياسة ديموقراطية تحارب الديكتاتورية والحصار والعدوان من الموقع الوطني، ولكن لا يظنن احد ان هذه هي صورة العراق او حاله وحسب، فلقد وجدت ايضاً وبقدر ما كان ممكناً، جهود عراقية عمرها يزيد على عقد من الزمن، وهذه تفعل ما كان يقوله اراغون، فهي تريد اعادة تسمية الابيض مؤكدة انه ابيض، والاحمر انه احمر، والاخضر باعتباره اخضر، وعلى هذا الاساس تريد تلك الجهود ان توضح ان الديموقراطية يمكن ان تكون مساراً نحو الخيانة اذا هي لم تنبع من موقع وطني يرفض كل عدوان وكل انتقاص من السيادة الوطنية. ونحن نعلم ان هذا العصر قد يجعل من هذه القيم من قبيل الماضي، ولكن يخطئ من يعتقد ان ذلك يمكن ان يكون مبرراً حتى تقرر الامم والشعوب على امتداد المعمورة اعلان الاستسلام للقهر، على العكس يقتضي مسار التطور العالمي الراهن - اذا كان سيحدث بالفعل - اقصى ما يمكن من الحرية ومن انطلاق الارادة الوطنية المستقلة والواعية، لكي تقرر هذه ما تريد، خصوصاً لكي تتبنى خياراً تاريخياً مثل ذلك الذي يقال اليوم ان التطور العالمي يقتضية لاجل مزيد من التقدم في العلاقات الدولية والعلاقات بين الامم، فالعولمة لم تغير شيئاً بهذا الخصوص وطريقها الاول ما يزال مشروطاً بالمزيد من الحرية والاستقلال الوطني والقومي. وعلى رغم ان هذا الصوت لم يكن مسموعاً لاسباب كثيرة منها سطوة الماضي، والظروف كما بسبب الاقتراحات التي يراها بخصوص العمل المشترك واشكاله واسسه التي تذهب دائماً ابعد من الحلول الجاهزة، وترى ان المشكلة المتعلقة باعادة بناء المنظور الوطني والقومي على اساس ديموقراطي هي مشكلة ابعد من الكلام الجاهز وانها قضية انتقال تاريخي وميدان جهود ونضالات طويلة، يكفي لكي نقدر خطورتها ان نكون واثقين من ان المساعدة التي يحتاجها العراق من اللبنانيين والسوريين ويحتاجها لبنان من العراق وسورية وتحتاجها سورية من الاثنين هي كبيرة جداً، وهذا المسلسل يمكن توسيعه ليمتد في طول العالم العربي وعرضه، ولكن، في حين يبدو هذا الصوت وقد اخذ يدخل ميدان التحسس لدى القوى الحية، وبينما تتصاعد الآن من جنوبلبنان ومن فلسطين رياح اخرى تحيي الامل وتقدم للجميع مساعدة لا تقدر بثمن، فان خطوات ملتبسة كهذه التي تأخذ المثقفين اليوم الى حيث يدوسون على مثل الحرية والتضامن الاخوي باسم الحرية يجب ان تنبذ او تعامل على الاقل باعتبارها تصرفات زائدة وخارج الصدد. في المنعطفات التي تنبئ عن تحولات كبرى بعد ازمات طويلة وطاحنة يحكم الماضي على نفسه بالخزي، والموت كلما اصطخب معانداً وأصر على البقاء، وكل خطوة له، لن تلبث ان تتحول الى عثرة، وسبب لانبعاث ضوء يزيل عن الافق شيئاً من العتمة التي تحجب الغد. * كاتب عراقي مقيم في باريس.