يحضر إدوارد سعيد بقوة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي افتتح قبل أيام، سواء في المشاركة الألمانية أو من خلال العناوين الأساسية التي اتخذها المعرض لندواته. ففي المشاركة الألمانية، حيث تحل ألمانيا ضيفاً على معرض القاهرة في تقليد جميل يرجع صدى معرض فرانكفورت للكتاب، يعقد الألمان، بمشاركة عربية، ندوات عن"استشراق"إدوارد سعيد الذي حرر علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، وعن التطور الذي انتهت إليه العلوم الإسلامية في ألمانيا بعد إدوارد سعيد. أما ندوات المعرض فهي تركز على التنوع والتعدد الثقافيين وحق الاختلاف والنقد الثقافي والهيمنة، والهوية والاختلاف، وكلها عناوين كان سعيد كتب وحاور وجادل حولها، بل إنه كان محرضاً فعلياً ومنظراً لبعض هذه الحقوق الثقافية، وملهماً لعدد من المثقفين والمنظّرين في الغرب والعالم لاحتضان مفاهيم تهجين الثقافات، والمشاركة السياسية، وقول الحقيقة للسلطة، وتأصيل مفهوم للمثقف ينأى به عن دور الخبير ويدشن علاقته العضوية بالفئات الاجتماعية التي يدافع عنها. وهو من ثمّ يصلح عنواناً لتدشين مرحلة مختلفة في معارض الكتاب العربية. ثمة في معرض القاهرة للكتاب، وعلى غير عاداته السابقة، احتفال بالراهن والأساس في ثقافات العالم، ورغبة في إثارة أسئلة يتردد صداها في ما يكتب في الصحافة والدراسات الأكاديمية والحوارات التي تدور في الصحافة المقروءة والمسموعة والمنظورة. نعم إن الصحف والمجلات العربية الرئيسة معنية، بصورة يومية، بمتابعة النقاشات والتأويلات والحوارات الجارية حول العولمة ومفاهيم الهوية والتنوع الثقافي وحوار الثقافات، لا صدامها، وإعادة النظر في علاقة الآداب والفنون بالوسط الذي تصدر عنه، وعودة النظرية الأدبية إلى بيتها الأول الذي يتيح لضروب من النقد الثقافي ترى في الممارسة اليومية أرضاً تنطلق منها النظرية وتعيد النظر في الراهن والأساس من تجارب الأفراد والجماعات. لكن المشكلة تتعلق بالمؤسسات الثقافية العربية، ومن ضمنها معارض الكتب التي تبدو في بعض الأحيان مجرد دكاكين لبيع الكتب والأسطوانات المدمجة، وغيرها مما يتصل بما يسمى الآن الوسائط المتعددة. ليس هناك تخطيط لجعل هذه المعارض محلاً لنقاش مشكلات الثقافة والمعرفة والعلاقات الثقافية بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وبلدان العالم الأول والعالم الثاني والثالث والرابع... إلخ. لو أننا تتبعنا تجربة معرض فرانكفورت للكتاب، الذي كنا ضيوف شرف عليه قبل عام تقريباً، لوجدنا أن المعرض ليس مكاناً لبيع الكتب للجمهور ، بل إنه مكان لبيع الحقوق أساساً يلتقي فيه الناشرون ووكلاء الكتاب والمؤلفون وموزعو الكتب. أما الجانب الأكثر أهمية في المعرض فيتمثل في كونه منتدى للنقاش والحوار وطرح الأسئلة والبحث عن مواضع الالتقاء والاختلاف بين الثقافات، والجدل حول حقوق المؤلف، وسبل إيصال الكتب والمصنفات الثقافية والفنية إلى قطاع أوسع من الجمهور. إنهم يتركون أمر بيع الكتب للمكتبات ومواقع الإنترنت المتخصصة وينشغلون بالبحث عن أجوبة تضيق بها الصحف والإذاعات والمحطات التلفزيونية، وربما الصحافة المكتوبة. لهذا يتحول المعرض إلى فضاء للحوار والنقاش الحر المفتوح. لقد لا حظت خلال معرض فرانكفورت عام 2004 الفارق الواضح بين الندوات العربية التي أقيمت في المعرض والندوات التي أشرف عليها الألمان أنفسهم. في الندوات العربية كان المحاضرون يحملون أوراقاً يلقون ما فيها على جمهور قليل العدد ثم يذهبون، فيما كانت الندوات الألمانية محتشدة يدور فيها نقاش حاد حول المسائل المطروحة. وقد لاحظ المشاركون العرب في الندوات الألمانية الفارق النوعي بين شكل الندوات وطبيعة إدارتها. ما أقصد قوله أن على معارض الكتب العربية أن تعيد النظر في شكل عرض الكتب، وطبيعة العلاقة مع الجمهور، وأن تطور صيغة العلاقة بين بائع الكتاب ومشتريه، وتتحول إلى مصانع حقيقية للثقافة والمعرفة من خلال الندوات التي يعد لها بصورة جيدة، والمحاور التي تتصل بالأسئلة الحارقة التي يطرحها علينا عصرنا. ولعل معرض القاهرة الدولي للكتاب قد بدأ رحلة الألف ميل بالاستفادة من تجربة معرض فرانكفورت المشهود لها عالمياً.