وسط ما تزخر به السينما التونسية من تنوع مواضيع محوره الواقعية والشارع التونسي، برز مخرجون شباب لم يترددوا في التجذيف نحو هذه الضفة بصدق يكاد يحاكي الواقع من دون السقوط في شرك التوثيق أو التنميق الحمالي المجاني. وذلك لترسيخ سينما المؤلف ذات الحمولة الفكرية من العيار الثقيل. من بين هؤلاء المنصف دويب صاحب"سلطان المدينة"، ومحمد زرن موقع الفيلم الروائي الشيق"السيدة"سنة 1977. فيلم زرن الثاني المنجز سنة 2004 ويحمل عنوان"الأمير"عرض في مهرجانات عدة: القاهرة، قرطاج، تطوان... كما حظي باستحسان نقدي وجماهيري لا يستهان بهما، ما كرس مسار"سينما المؤلف"وعمقه انطلاقاً من أشهر شارع في العاصمة التونسية:"شارع الحبيب بورقيبة"حيث تتفاعل الأحداث في ديكور جمالي قوامه الاضاءة الطبيعية في النهار الموشاة بظلال الأشجار، وليلاً الاضاءة الكهربائية المنثورة أصلاً على جنباته مع التحكم طبعاً في نظيرتها التقنية المخصصة للفيلم، ثم محلات بيع الورود المستنبتة في فضائه حيث كل مرئي يرفل في العشق ويعبق بالحب. يسير الفيلم انطلاقاً من قصة شاب من الطبقة التونسية المتوسطة، لا يملك شهادات عليا... ولا مالاً وفيراً أو نسباً مرموقاً... إنما هو مثل ملايين شباب المغرب العربي الذي يفعل أي شيء لكسب العيش: بيع السجائر بالتقسيط - الساعات والنظارات - الزهور في سلة متنقلة أو بكشك خاص بهما كما هو شأن عادل الذي ساق اليه قدره سيدة جميلة تمر من أمامه الى بنك مجاور تشغل فيه منصباً مهماً. اسمها"دنيا"وهو يحبها من دون مقدمات... من دون تردد أو تراجع على رغم علمه بشساعة الفوارق الاجتماعية، الثقافية والمهنية بينهما... ليغدو بهذا الحب"أميراً". من خلال العلاقة المتوترة خارجياً، والناعمة داخلياً، يهل خطاب محمد زرن واضحاً جسوراً ليقول ان الحب قيمة انسانية راسخة تتحدى الزواج والقيود المهنية والايتيكيت الاجتماعي... قيمة وقودها الأمل والتشبث به مهما كانت الحواجز... لذا من الصعب التنازل عنها لأننا بهذا التنازل نخسر أنفسنا... وإذا خسرناها، نقرأ عليها الفاتحة ونواريها تراب الذبول... تماماً كتلك الورود التي تقطف وترص بعناية في محلات بيعها، ولا يقتنيها أحد فتذبل وتموت على وهن. في حوار بليغ يقول صاحب محل بيع الزهور لمستخدمه عادل وهو يقدم له وردة حمراء:"ان البائع يمنح الورود فرصة لكي تدخل حياة الناس، بدلاً من أن تذبل وحيدة بين جدران المحل وأمام نظرات اخواتها اللواتي قد يصادفن حظاً أوفر". فپ"الأمير"عادل راهن بكل شيء في سبيل حبه الذي قد يبدو للغير مجازفة وأمراً مستحيلاً... وأصبحت تلك المرأة هي"دنياه"وپ"نجاته"من عالم الابتذال ولم تثنه لا تنبيهات مشغله ولا حتى طرده له... ولا رميه أرضاً صحبة ورده من طرف بواب البنك... ولا الضرب المبرح الذي ناله من أحد زبائن هذه المؤسسة حين علم بسر أكاليل الورد المغرقة لمكتب الموظفة السامية! ولا تحذير والدته... الوحيد الذي آزره هو صديقه المثقف الذي يسري الحب والعشق في دمه مثلما يسري الشعر... وبذلك أبى الزرن إلا أن يطعن الأفكار القائلة بأفول عصر الحب الرومانسي بحلول العلاقات البراغماتية التي تفل أطرافها بمجرد انتفاء المنفعة المتبادلة. مغادرة طوعية بكتابة سينمائية رائقة مضمخة بشذى الزهور، ومطرزة بألوانها الزاهية، كسا زرن أميره بهندام متناسق بسيط وسحنة هادئة معبرة... فهو ليس شاباً وسيماً ذا عضلات مفتولة أو شارب مقصوص، بل انسان عادي كأي شاب فقير، لكنه نظيف معتز بشخصه. نظراته دافئة تشع حباً. وأخلاقه كريمة تدفعه الى أن يخصم بنفسه من راتبه الشهري، ثمن باقات الورد التي كان يهديها لدنياه لرده الى صاحب المحل... وحتى حين قبلت دعوته للقاء في أحد المطاعم، وانتقى له صديقه بذلة ارستقراطية، تخلى عنها في آخر لحظة ليرتدي لباسه العادي، وليتمنطق فقط بالحب، ثم يمتشق عشقه ويغشى مخدع الغرام. الى جانب هذه العلاقة المتأججة، عني الأمير بعلاقات وحالات أخرى أذكت الجو العام الذي أينع فيه حبه على رأسها علاقته بالشاعر المثقف المحبط مع نفسه ومجتمعه، والذي بدد أمواله لإصدار مجلة ثقافية تنشر أبحاثاً قيمة عن شعر رامبو وبودلير، ليجد نفسه مقيماً على سطح منزل. ولينتهي به الأمر الى قبول مهنة مدرس في كندا مضحياً بالوطن الجائر، وبالحبيبة التي قدمت جسدها قرباناً لحبه وإعجاباً به كمثقف. قبل أن يأفل دوره في واحد من أقوى المشاهد وأشدها مأسوية: يبدأ بتلاوة قرار إشهار إفلاس المجلة من طرف قزم يرتكب الكثير من الأخطاء اللغوية الفادحة، وينتهي بموكب جنائزي تشيع فيه كتب المثقف وأدواته، سار هو وراءه برفقة ثلة ضئيلة من أصدقائه في انكسار بليغ إيذاناً بوأد الشعر العربي قبل الوقت أو بتعبير مغربي: مغادرة طوعية لحقل الثقافة في الاتجاه المعاكس...