الأشهر الستة القادمة في لبنان مثقلة بالتوقعات والآمال، سواء بالنسبة الى الجهات المانحة تجاه لبنان أم الى لبنان تجاه الجهات المانحة. ومن المهم أن تظل هذه التوقعات والآمال واقعية ومبنية على أساس الحقائق لتلافي الإحباط الناتج من التوقعات والآمال المبالغ فيها. وثمة فرصة فريدة لوضع لبنان من جديد على طريق النهوض الاقتصادي والاجتماعي. ولكن يتعين على لبنان والمجتمع الدولي على السواء، أن يستفيدا من دروس الماضي كي لا يضيّعا عليهما هذه الفرصة. بادئ ذي بدء لا بد من تلافي مغالطتين: المغالطة الأولى: إنّ"ديون لبنان ستلغى جراء"صفقة"يتم ترتيبها مع الجهات المانحة": هذه المغالطة يعبّر عنها، أحياناً، بعض المراقبين اللبنانيين الذين يأملون، من باب التمني، أن تمتلك الجهات المانحة عصا سحرية تمحو بواسطتها هذا الدين، أو على الأقل تخفضه الى حدٍّ كبير في نطاق صفقة تُعقد في المستقبل مع الحكومة اللبنانية. ولسوء الحظ، هذا الأمل بعيد من أرض الواقع. فديون لبنان هي الأعلى في العالم من حيث الناتج المحلي الاجمالي 165 في المئة أو 36 بليون دولار بالمطلق باستثناء المتأخرات والمطلوبات الطارئة المحتملة. وعلى سبيل المقارنة، إنّ المساعدات الرسمية المعطاة الى بلدان العالم كلها لم تتعدَّ 77 بليون دولار في 2003. كذلك، إنّ الدين هو في معظمه لحساب جهات لبنانية لا لحساب جهات خارجية. لذا، فإنّ الأمل في أن تعتمد الجهات المانحة الى شطب الدين أمر بعيد من الواقع وغير مجدٍ. المغالطة الثانية ان"لبنان ليس بحاجة الى تمويل من الجهات المانحة نظراً لقطاعه المصرفي الضخم": يسأل أحياناً بعض المراقبين الدوليين، الذين يرَون أنّ ودائع المصارف اللبنانية تزيد على 250 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، يسألون عن جدوى مساعدة بلد لديه كل هذه الخيرات. ولكن التمعن في الوضع برمته، يكشف أنّ الاستثمارات الضخمة الموظفة في المصارف، معظمها مستثمر في المديونية العامة الحكومة والمصرف المركزي. بكلامٍ آخر، إنّ الدين العام الضخم والودائع المصرفية الضخمة هما الى حد كبير وجهان لعملة واحدة. لقد لعب القطاع المصرفي في الماضي دوراً مهماً في خفض أعباء خدمة الدين وبوسعه أن يلعب هذا الدور من جديد كجزء من عملية إصلاح شامل. غير أنه لا يُتوقع أن يحمل كامل العبء. إنّ خفض الدين العام في لبنان الى مستويات معقولة يستدعي إقدام كافة الأطراف على بذل جهد متناسق خلال العقد القادم أو نحو ذلك. إنّ الدور الأساسي مطلوب من اللبنانيين لا من الجهات المانحة. وهذا يستدعي تنشيط النمو الاقتصادي بحيث يتخطى عتبة الپ5 في المئة وعلى امتداد فترة طويلة، وإحداث تغيير جذري في أنماط الانفاق العام لتوفير الفعالية في هذا الانفاق وبناء شبكات الحماية الاجتماعية ومعالجة شبح الدين. كذلك، على الجهات المانحة أن تلعب دوراً مهماً في هذا الصدد. والأهم من هذا وذاك أن تبدي الجهات المانحة دعمها وتأييدها لجهود الاصلاح في لبنان بحيث تساعد في استعادة ثقة المستثمر بالبلد. ويمكن للجهات المانحة أيضاً أن تقدّم الدعم للموازنة كإيجاد سبل"لاستيعاب الصدمات"والمساعدة في إعادة جدولة الدين للتخفيف من وطأة الاستحقاقات. وأخيراً، بوسع الجهات المانحة توفير التمويل البعيد المدى للاستثمارات التي تحتاج الى رساميل، لتحل محل تمويل الدين المحلي القصير الأجل محلياً، وهذا لا يتم إلا إذا تحسنت طاقة البلد الاستيعابية للمشاريع التي التزمت جهات خارجية بتمويلها تحسناً كبيراً. وعلى كل حال، إنّ دور الجهات المانحة يظل دوراً داعماً ومتمماً للدور الذي يلعبه اللبنانيون. علاوةً على ذلك، ثمة عبرتان ثمينتان من عِبَر الماضي ينبغي أن تقودا عملية الاصلاح: بالنسبة للبنان، ينبغي لأي خطة إصلاحية أن تكون شاملة وفاعلة وموثوقة"وأهم شيء أن تكون قائمة على التفاهم الوطني: إنّ الشعارات والحلول المجتزأة لمشكلات لبنان الاقتصادية والاجتماعية لن تقنع اللبنانيين أو المراقبين الدوليين. كما أن ليس في وسع أي حكومة اجتراح المعجزات وحل جميع المشكلات خلال فترة قصيرة. إنّ أي رؤية بعيدة المدى ينبغي صوغها وترجمتها الى خطوات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد. وقد سلكت الحكومة الحالية وسابقاتها هذا المسلك. إنّ صدقية خطة الاصلاح هذه لا تأتي إلا من خلال النقاش والتأييد الجماهيري الواسع من قطاعات المجتمع المختلفة. إنّ على الناس أن يتفهموا الأسباب المنطقية للاصلاح وتكاليفه على المدى القصير وكيف يمكن تقاسم هذه التكاليف بين مختلف الفئات في شكل عادل"إضافةً الى معرفة مردود الاصلاح على المدى البعيد، وإلا فإنّ"تعب الناس في الاصلاح"وإقدام الحكومات في المستقبل على اتخاذ خطوات معاكسة يصعب تجنبهما. وبالنسبة الى المجتمع الدولي، المطلوب التزام دائم على المدى البعيد: إنّ تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والنمو الاقتصادي وفكرة العدالة بين وضمن! الفئات الاجتماعية والطائفية يتطلب بناءً كثيفاً للمؤسسات وإصلاحاً لإدارة شؤون الحكم في لبنان. وهذه العملية ينبغي أن تكون نابعة من صلب البلد ولا يمكن فرضها من الخارج. إنّ الجهات المانحة مطالبة بمقاومة الرغبة بحلول عاجلة غير قابلة للتحقيق وقصيرة العمر. إنّ الجهات المانحة يجب أن تكون واضحة تماماً، كما أنّ الدعم الذي تقدمه يجب أن يقوم على أساس التقدم الملموس في المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية وتدابير لتشديد المساءلة والشفافية والمساواة وحكم القانون. إنّ طريق لبنان للتعافي والنهضة الشاملة هي طريق طويل. صحيحٌ أنّ المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية يمكن أن تلعب دوراً داعماً، ولكن برنامج الاصلاح يجب أن يكون من صنع لبنان ومُلكاً للبنان. ولا بد من الانطلاق في هذه الرحلة في أسرع وقتٍ ممكن. * مدير مكتب البنك الدولي في لبنان.