مهدت الحكومة اللبنانية لمؤتمر "باريس -2" بخطة الاصلاح المالي والاقتصادي وبالحصول من مجلس النواب على سماح باقتراض نحو 7 بلايين دولار اميركي لاستبدال دين داخلي بدين خارجي، بفوائد مخفضة. لكنها لم تحصل من "باريس -2" الا على ما يقارب 4،4 بليون دولار، منها 1،3 بليون في شكل تمويل مباشر، ستُقدم كودائع او قروض ميسرة بضمانات دولية، او اكتتابات في سندات الخزينة، لاستبدال دين داخلي بدين خارجي، بفوائد متدنية، وآجال اطول، و3،1 بليون دولار في شكل قروض لمشاريع انمائية. بلغت المساهمة العربية في التمويل المباشر نحو 1850 مليون دولار 56 في المئة من مجموع المساهمات من هذا النوع من التمويل. وبلغت هذه المساهمة، كقروض لتمويل المشاريع، نحو 650 مليون دولار اميركي، 7،59 في المئة تقريباً من مجموع هذا النوع من المساهمات. وفي مقدم الدول العربية المساهمة اتت المملكة العربية السعودية التي بلغت حصتها 700 مليون دولار اميركي. ونتج تدني مساهمة الدول الاوروبية من ضغوطات مورست على بعضها، او لعدم مقدرة البعض الآخر على المساعدة بالحدود المطلوبة، او لانتظار طريقة استخدام الاموال التي سيحصل عليها لبنان. وتأتي فرنسا في طليعة الدول الاوروبية المساهمة في المساعدات. وبلغت حصتها نحو 500 مليون دولار اميركي. وهي الدولة الراعية للمؤتمر، والضامنة لعقده ونجاحه، ولبنان نافذتها على الشرق الاوسط، ولها فيه مصالح ثقافية وسياسية واقتصادية وتاريخية. اما بالنسبة الى الولاياتالمتحدة الاميركية وايطاليا، وغيرهما من الدول التي اكتفت بالدعم السياسي لأسباب مختلفة في الوقت الراهن، فهي تطمح الى حصول شركاتها على فرص للاستثمار في لبنان، خصوصاً في القطاع السياحي المزدهر الذي استثمر فيه، من خلال العقد الاخير، نحو بليون دولار اميركي، الى الاستثمار في القطاعات والمصالح التي ستطاولها الخصخصة. والولاياتالمتحدة تملك في لبنان 160 مكتباً تجارياً تمثل مؤسسات وشركات. وهي تأمل بأن يكون لبنان سوقاً لتصدير السلع والخدمات الاميركية. واذا كانت الولاياتالمتحدة تفضل تقديم المساعدات بواسطة صندوق النقد الدولي، فإن المساعدة الاميركية للبنان هي في حدود 35 مليون دولار اميركي يقدمها الكونغرس سنوياً. ويأمل لبنان بالحصول على بليون دولار اميركي اضافي من مساعدات جديدة مرتقبة، اذا ما نجح في تنفيذ التزاماته ووعوده التي تضمنتها خطة الاصلاح المالي والاقتصادي الحكومية. علماً بأن هذا التنفيذ يخضع للرقابة المباشرة لصندوق النقد الدولي، ولرقابة الدول والمؤسسات المانحة للقروض والمساعدات، تالياً. دفع ضعيف ويظهر التحليل ان مساعدات المؤتمر للبنان لاستبدال دين داخلي بدين خارجي، لا يمكن ان تؤدي الى خفض خدمة الدين العام بأكثر من 250 مليون دولار سنوياً. وهو مبلغ لن يكون له اثر ملموس في مجال خفض معدلات الفائدة. والمبلغ المخصص لتمويل مشاريع حكومية سيُضاف الى الدين العام الحالي. وبذلك يكون الحشد الضخم الذي شهده هذا المؤتمر 36 دولة ومؤسسة مالية عربية ودولية اعطى دفعاً خفيفاً فقط للبدء بحل ازمة لبنان، ومشكلة تفاقم ديونه العامة. والمساعدات المقدمة عبره ضئيلة جداً، وغير كافية لدرء مخاطر "زعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي" في هذا البلد، وهو الهدف الاساس لها. اما المهم في هذا المؤتمر فهو الدعم السياسي والمعنوي للبنان، "المغلف بمصالح معينة" وإعادة المساعدات العربية، ووضعها تحت المظلة الدولية، حيث يصعب الانكفاء او التراجع. وأمام هذا الواقع، كان لا بد من التوجه لايجاد الحلول المطلوبة في داخل لبنان، وتحديداً نحو الجهات الدائنة للحكومة اللبنانية، ومنها المصرف المركزي والمصارف الاخرى، ومؤسسة الضمان الاجتماعي، ومؤسسة ضمان الودائع والصناديق. وتجمل هذه المؤسسات سندات خزينة استثمرت فيها جزءاً من اموالها، وحققت ارباحاً طائلة جراء الاكتتاب بهذه السندات، بأسعار فائدة مرتفعة في سنوات كثيرة. ويتوزع الدين العام، بين دين داخلي بنسبة 4،59 في المئة، ودين خارجي بنسبة 6،40 في المئة من المجموع، اما مصادر هذا التمويل بالليرة اللبنانية، في نهاية تشرين الاول اكتوبر من عام 2002، فهي الآتية: المصارف التجارية، 2،59 في المئة ومصرف لبنان 6،16 في المئة، القطاع غير المصرفي 2،24 في المئة. الى ذلك، فإن حصة المصارف التجارية، من تمويل الدين العام الاجمالي، بلغت 2،56 في المئة، ومن الدين الخارجي 6،50 في المئة ما يؤكد الدور المهم الذي اضطلع به القطاع المصرفي في تحفيز المدخرات من الداخل والخارج، وفي تمويل القطاع العام بنسبة 97 في المئة، والقطاع الخاص بنسبة 90 في المئة، اي ما مجموعه 187 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، ما يجعل تكاليف تمويل الاقتصاد مرتفعة، على رغم اهمية هذا التمويل في إيجاد المداخيل وفرص العمل. ومن نتائج نجاح خطة الاصلاح المالي والاقتصادي المهمة رفع مستوى تصنيف لبنان في الخارج ما يسمح للمصارف اللبنانية بتقليص حجم احتياطاتها المتعلقة بدرء المخاطر وتكاليفها، وزيادة مستوى التشغيل، وتحسين اوضاع القطاع المصرفي وتشجيع الاستثمار في لبنان. وأكد القطاع المصرفي استعداده لدعم الحكومة في مجال خفض كلفة الدين العام، بالاكتتاب بسندات خزينة بقيمة 4 بلايين دولار اميركي لمدة عامين، وبفائدة تساوي الصفر، وبنسبة عشرة في المئة من اجمالي الودائع، كل مصرف وفق امكاناته، بدءاً من مطلع سنة 2003. وهذه الخطوة تعتبر تخلياً من المصارف عن جزء من ارباحها لمصلحة الخزينة، في حين ان المودعين يتأثرون فقط بخفض اسعار الفائدة على الودائع، وهي التي شهدت تراجعاً ملموساً بعد مؤتمر "باريس -2" من 14 الى زهاء 11 في المئة تقريباً. ويفرض توزيع الاعباء بين ارباح مساهمي المصارف فوائد على التسليفات تزيد نسبتها على اكثر من اربعة اضعاف النسب الموجودة في الخارج. وهي، في الوقت ذاته، تساهم في تحقيق وفر للخزينة خلال سنتين يصل الى 800 مليون دولار اميركي تقريباً. وفي إمكان القطاع المصرفي الاقبال على هذه الخطوة، من دون التعرض لمخاطر يمكن ان تنتج عن ذلك. فنتيجة لتنظيف هذا القطاع من المصارف المتعثرة، واجراءات الدمج بين المصارف، وعلى رغم الثغرات في هذا المجال، ومع التطوير الذي تعرض له، اصبح امتن بكثير مما كان عليه قبل عقد من الزمن. فأمواله الخاصة وصلت حالياً الى نحو 2،3 بليون دولار اميركي، وحجم ودائعه بلغ نحو 43 بليون دولار، اما تسليفاته الى القطاعين العام والخاص فهي قريبة من 15 بليون دولار، لكل منهما. ولا خشية من عجز الدولة عن سداد التزاماتها تجاه المصارف، لأنها قادرة دائماً على اصدار عملة وطنية لهذا الغرض، بصرف النظر عن النتائج المترتبة على ذلك. وأكد المصرف المركزي ايضاً عزمه على مساعدة الدولة من خلال خفض قيمة مطلوباته وإعادة تقويم احتياطاته من الذهب والعملات الاجنبية، وإنجاز آلية تتيح له إطفاء دين على الدولة بقيمة 8،1 بليون دولار أميركي وخفض الفوائد على سندات بقيمة 2،2 بليون دولار عبر تحويلها الى سندات باليورو بوند لمدة 15 سنة، بفائدة 4 في المئة الفائدة السابقة 12 في المئة. الى ذلك، أثار صندوق الضمان الاجتماعي إمكان اسالة سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي اكتتب فيها لفترة سنتين بقيمة 3،2 بليون دولار، بفائدة 4،14 في المئة، للاكتتاب بسندات جديدة بفائدة 8 في المئة. ومثل هذا الاجراء لن يهدد مالية المؤسسة، خصوصاً في مجال احتساب حصة اصحاب العمل في فرع نهاية الخدمة، المحددة بنسبة 10 في المئة على أساس معدل 4،14 في المئة التي يتقاضاها لقاء التوظيف في سندات السنتين. واذا خفضت الفائدة على سندات الضمان، انخفضت تلقائياً الفائدة المخصصة لاصحاب العمل، من دون ان تتأثر مالية هذا الفرع مباشرة. اما الوفر المحقق من ذلك فسيستخدم لدعم اعادة هيكلية الديون العامة. وعلى رغم ان البعض يرى ان احتياط المصرف المركزي من الذهب، المقدر حالياً بنحو 3 بلايين دولار يعزز صدقية لبنان والثقة به، الا ان الدولة قد تضطر، عند الضرورة، الى بيعه أو تأجيره للحصول على مردود مالي، بدلاً من الاحتفاظ به بصورة غير مجدية. واذا كانت الخطة الحكومية تتوقع تصحيح العجز بدءاً من سنة 2005 - 2006 جراء تجاوب السوق مع الحلول المعتمدة، فإنه من المهم ايقاف العجز وعدم ايجاد دين جديد، بل ايجاد أدوات دين جديدة بفوائد منخفضة، لإطفاء دين قائم بفوائد مرتفعة. وسينعكس خفض الفوائد ايجاباً على التوظيف والاستثمار، وسلباً على الاستهلاك، نتيجة لتقلص مداخيل المودعين في المصارف. وتستدعي الضرورة البحث عن سياسة للتسليف تجعل المؤسسات المتوسطة والصغيرة، على اختلاف انواعها قادرة على الاستفادة من هذا الخفض، وهي التي تعاني اكثر من غيرها من المؤسسات من نقص في السيولة التي تحتاج اليها. ودمج بعضها بالبعض الآخر يبقى ملحاً للاستفادة من الوفورات التي يحققها الحجم الكبير للمؤسسات الانتاجية. الممكن والمستحيل وهكذا يظهر ان الاموال المتأتية من مؤتمر "باريس-2"، ومن المصرف المركزي، والقطاع المصرفي، وصندوق الضمان الاجتماعي، ستُستخدم لاطفاء دين مرتفع الفائدة بدين منخفض الفائدة نسبياً. وهذا يقود الى خفض كلفة الدين العام. اما بالنسبة الى الدين العام فإن اموال التخصيص، والتسنيد المقدرة بخمسة بلايين دولار، ستستخدم في سداد جزء من الدين العام الذي يبقى كبيراً. ولا يمكن سداده فعلياً الا بالتخلص من عجز الموازنة، وتحقيق فائض فيها، ما يسمح بازدياد معدلات النمو، وحجم اجمالي الناتج، وخفض قيمة الدين العام لتصبح نسبتها الى الناتج المحلي مقبولة. ومن النتائج الاخرى المهمة للاجراءات المتخذة خفض اسعار الفائدة لتحقيق الاهداف الواردة في خطة الاصلاح المالي والاقتصادي الحكومية. فأسعار الفائدة، بعد ثلاثة اسابيع من مؤتمر "باريس-2"، انخفضت بنسبة قياسية لم يعرفها لبنان منذ عقدين وستستمر في انخفاضها. ومنذ مطلع 2003 تعتمد المصارف اسعاراً للفوائد على الليرة تراوح بين 5 و9 في المئة، وعلى الدولار بين 2 و4 في المئة. وازدادت العروض بالدولار، والطلبات على الليرة اللبنانية لاهداف مختلفة، ما ادى الى ارتفاع سعر صرف الليرة الذي لجمه تدخل المصرف المركزي في سوق القطع شارياً للدولار الأميركي. ونتيجة لذلك استطاع هذا المصرف زيادة حجم موجوداته بالعملات الاجنبية التي تجاوزت 59،5 بليون دولار، منتصف كانون الاول ديسمبر 2002، ووصلت الى نحو 95،6 بليون دولار آخر العام، بعدما كانت هبطت، منتصف العام الماضي، الى 3،4 بليون دولار. ويبدو ان السياسة النقدية ستستمر في الظروف الراهنة بالحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية لأسباب عدة منها: تقوية الثقة بها ورفع مستوى الطلب عليها لتشجيع الاستثمار بها، ودعم قوتها الشرائية، ولجم معدلات التضخم. ومع انخفاض اسعار الفائدة، واستقرارها في السوق النقدية، وتراجع معدلات الدولرة في المصارف والاقتصاد الى الحدود المقبولة، وهي 30 في المئة تقريباً، بلغت في تشرين الاول/ اكتوبر 2002، 3،70 في المئة بالنسبة للودائع، و1،82 في المئة بالنسبة للتسليفات. وعندما يحقق الاقتصاد النمو الذي يمكن ان ينتج نوعاً من التوازن النسبي في الأسواق، يمكن توسيع هامش تقلبات سعر صرف الليرة، ثم تركها تخضع لعوامل السوق، بعد التأكد من قدرة المصرف المركزي على التدخل عند الضرورة لدعمها. اما في الوقت الحاضر، إذ تتميز بنية الاقتصاد اللبناني بالضعف وعدم التوازن، وفي ظل الظروف المعيشية الصعبة واعتماد لبنان بصورة أساسية على الاستيراد من الخارج، فإن ترك الليرة اللبنانية لتأثيرات السوق النقدية له نتائج ضارة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي يعرفها اللبنانيون جيداً، لعل أهمها تدني القوة الشرائية لليرة، وارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض مستوى المعيشة لأغلب المواطنين جراء تدهور سعر صرفها لهذه الاسباب وغيرها لم يوافق المصرف المركزي على اقتراحات صندوق النقد الدولي في الماضي القريب خفض سعر صرف الليرة اللبنانية، لحل مشكلة تفاقم الديون العامة للدولة، ومعظمها بالليرة اللبنانية. وبالنسبة الى سنة 2003، فإن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يشير متفائلاً، الى ان خدمة الدين العام قد تنخفض من 5،3 بليون دولار أميركي الى 2،2 بليون دولار، لتسجل الموازنة فائضاً بمقدار 4،1 بليون دولار. والعجز فيها يقدر أنه قد ينخفض الى أقل من بليون دولار، لتنعدم الحاجة الى التمويل، اذا ما نجح التخصيص. التعايش مع الديون اما النظرة المتشائمة فتذهب الى ان حجم الديون العامة في نهاية الخطة الخمسية، سيبقى مرتفعاً، مقارنة بحجم اجمالي الناتج، ما يجعل اللبنانيين مجبرين على التعايش مع هذه الديون الى مدة طويلة نسبياً، اذا لم تظهر عوامل اضافية قد تعمل على عكس ذلك. وترى ورقة الحكومة اللبنانية المتضمنة خطة الاصلاح المالي والاقتصادي ان من بين الاسباب المهمة لأزمة لبنانالمالية والاقتصادية اختلاف الآراء في شأن توجهات ومسار سياسة إعادة الاعمار والانماء. وإذا كان ذلك صحيحاً فإن ما أغفلته هذه الورقة هو ان الاختلاف المذكور يتضمن مصالح اجتماعية وسياسية لم تصب دائماً في مجرى المصلحة العامة. وطريقة تلزيم المشاريع، وادارة الوزارات والمؤسسات والمصالح العامة، والهدر المرافق، ومواقف السياسيين وغيرهم من التخصيص، وما رافق ويرافق تخصيص الهاتف الخلوي دليل ساطع على ذلك. واذا كانت الانجازات المحققة صحيحة كذلك، الا ان كلفتها كانت ضخمة، وغير واقعية، ويحمل وزرها الاقتصاد اللبناني والمواطن. * أستاذ الاقتصاد في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال - الجامعة اللبنانية.