لدى مجمل بلدان العالم مديونية، ولا يمكن بالتالي اعتبار الدين العام مشكلة بذاته. وينطبق هذا الأمر على مستوى الدين، أياً كانت الطريقة المعتمدة لقياسه، سواء بالنسبة إلى الناتج المحلي أم مقارنة مع مؤشرات أخرى كالودائع المجمّعة للقطاع المصرفي وغيرها. المهم هو معرفة ما إذا كان الدين قابلاً للاحتمال أم لا. ويُعتبر الدين قابلاً للاحتمال في حال أمكن الاستمرار في تأمين خدمته من دون الحاجة إلى إجراء تعديلات جذرية في السياسات الاقتصادية لا سيما منها المالية، ويرتبط ذلك بمستوى النمو الاقتصادي وبقدرة الحكومة على زيادة ايراداتها. وفي الحال اللبنانية، هناك إجماع على أن الدين العام بات غير قابل للاحتمال، لأن ديناميته بلغت حداً سيجعل الدولة عاجلاً أم آجلاً غير قادرة على تأمين خدمته. ومع أن لبنان أظهر قدرة لافتة على التأقلم وعلى الإفادة من الظروف العالمية، فإن هذا لا يعني أن البلد محصّن، بل على العكس، يفترض باللبنانيين استيعاب حقيقة أنه عاجلاً أم آجلاً ستتوجب عليهم مواجهة مشكلة الدين. بذل لبنان جهوداً كبيرة في مجال إعادة الإعمار منذ انتهاء الحرب. لكن البلد يواجه منذ فترة اختلالات اقتصادية كلية تلجم النمو وتمنع خلق فرص العمل وتعوق التنمية الاجتماعية وتبقي مخاطر تفاقم الأوضاع المالية مشكلة قائمة. تبدو قدرة لبنان على الصمود كبيرة في مواجهة مشكلات الملاءة التي يعاني منها، إنما هذا لا يعني أنه محصن إلى ما لا نهاية. فلبنان يستطيع الاعتماد على عوامل ذاتية ملائمة ارتباط الاغتراب اللبناني بالبلد الأم، الدعم الدولي، قطاع مالي فعال وقادر على توفير السيولة اللازمة وأخرى خارجية مناسبة على رغم ظرفيتها ارتفاع أسعار النفط، ما يدعم الحركة الاقتصادية في المنطقة، وخفض مستويات الفوائد. وهذه العوامل، على إيجابيتها، لا تسمح بأي شكل من الأشكال باستبعاد مخاطر وقوع أزمة مالية. وعلى رغم أن القروض المسهَّلة التي حصل عليها لبنان نتيجة مؤتمر باريس-2، قلصت جدياً احتمالات وقوع أزمة مالية في المدى القصير، تبقى بعض خصائص القطاع المالياللبناني مكامن خطر بذاتها، إذ تختلط فيها مستويات عالية جداً من الوساطة المالية، وحساب رأس مال منفتح، وتركز عال في مطلوبات المصارف، ومديونية عامة مرتفعة، وانكشاف كبير للمصارف التجارية على الدين العام. استباق الأزمات تجربة لبنان ليست فريدة من نوعها. فكثير من البلدان مرت في أوضاع مشابهة للحال اللبنانية، وتجربتها تسمح باستخلاص ثلاثة دروس رئيسية، أولها أن الإحجام عن التصحيح المنظم وفي الوقت المناسب يقود نحو أزمة مالية باهظة الكلفة، ثانيها أنه نظراً الى ضخامة كلفتها، يُستحسن العمل على استباق الأزمات وتفادي وقوعها، وثالثها ضرورة توفير تفاهم سياسي في البلد يتعذَّر من دونه العمل على تفادي وقوع الأزمة. لماذا تتمكن بعض البلدان من اتخاذ تدابير استباقية فيما تعجز بلدان أخرى عن ذلك؟ تختلف الحالات في ما بينها، لكن يمكن استخلاص بعض الدروس من التجربة العالمية. معظم البلدان تبادر مبكراً لتفادي الأزمة، لكن بعضها لا يفعل شيئاً على رغم توافر الأمثلة العالمية. وأسباب هذا التصرف كثيرة، وتتدرج من الخوف من تغيير السياسات وما ينجم عنه من حوافز عكسية لدى السياسيين، إلى الاعتقاد بحصانة البلد نتيجة لأهميته الجيوسياسية المفترضة انتهاء بالاعتماد على مساعدة وتساهل الممولين الخارجيين والمؤسسات الخارجية وغيره من الأسباب، بما فيها تمني حصول تطورات ايجابية مفاجئة. وفي حالات كثيرة، ترتبط محدودية قدرة مجتمع معين على تبيان مضاعفات التخلف عن استباق الأزمات المالية بغياب تجارب سابقة مشابهة على مدى تاريخ البلد المعني. لكن، وفي أكثر الأحيان، يكمن السبب الأساسي في غياب القدرة السياسية على ترتيب أوضاع البيت الداخلية، أي العجز عن صهر التوافق السياسي المطلوب لاتخاذ التدابير الاستباقية السريعة والصعبة على صعيد القطاع المالي والمالية العامة وتوزيع كلفة التصحيح على مجمل شرائح المجتمع. الانسجام الحكومي ان التفاهم السياسي هو ضروري لتفادي الأزمات. فخفض الدين مشكلة سياسة-اقتصادية بامتياز، والحلول التقنية الجيدة لا يمكن أن تكفي. ويواجه لبنان صعوبة في التصحيح الاستباقي لأن هذا النوع من التصحيح مكلف سياسياً. ومن المحتمل أن تعثُّر حزمة اصلاحات مؤتمر باريس-2 يعود إلى افتقادها لقاعدة دعم واسعة. وتظهر التجربة أن الحكومات التي تفتقر الى الانسجام وتعاني من الانقسام غير قادرة على تحديد أهداف واضحة لعملية الاصلاح وتبقى عاجزة عن القيام به. حصلت تطورات مهمة خلال السنوات الماضية في مجال ضبط تنامي الدين لكنها لم ترتق بعد إلى مستوى تثبيت نسبة الدين إلى الناتج. ويبقى الكثير مما ينبغي عمله للوصول إلى خفض ملموس في نسبة الدين إلى الناتج. فالمجهود الذي بذل على مستوى المالية العامة كبير، ولكن، هناك حدود لوقعه وبدأت بالظهور. أما التخصيص، فلا يمكن التعويل عليه إلا في حال انخراطه ضمن حزمة من الإجراءات. من يتحمل الكلفة؟ قد تسعى الفئات الاجتماعية المختلفة إلى تقاذف كلفة التصحيح على حساب بعضها بعضاً، فتقع في ما يسمى "معضلة السجين"، حيث يخسر الجميع إذا حاولوا أن يفلتوا كل بمفرده، فيما تتقلّص الخسائر إلى الحد الأدنى إذا ما اتفق على استراتيجية للتصحيح ولتوزيع كلفته. وفي المطلق، لا يمكن التصحيح أن يكون قابلاً للتحقيق سياسياً إلا إذا سعى إلى تحميل من استفادوا من الدين، ومنهم كبار الدائنين على الأخص، جزءاً من الكلفة يتلاءم مع مكاسبهم. وقد يلعب كون معظم الدين في لبنان داخلياً دوراً مساعداً في هذا السياق، إذ من مصلحة الدائنين أن يحافظوا على الاستقرار المالي والاجتماعي والسياسي أي، بمعنى آخر، أن يجلسوا حول الطاولة ليبحثوا في الحلول بدل أن يحاولوا الهرب. يتطلب تقاسم الكلفة نقاشاً مفتوحاً وصدقية في الالتزامات لتكوين قاعدة واسعة تدعم الإصلاح. أما شروط الصدقية فتتلخص بوضوح الأهداف وبوجود خطة عمل ضمن برنامج زمني واضح وبتوافر مؤشرات عامة تسمح للجمهور بمتابعة تطور الإصلاح وبإخضاع القيمين على البرنامج للمحاسبة نظراً إلى النتائج المحققة. تُظهر التجربة العالمية أن نجاح عملية التصحيح الاستباقي او فشلها من طريق الإصلاح يرتبطان بعوامل النجاح المتمثلة ب"حكومة منسجمة ومحاسبة فاعلة وصدقية وأهداف أولية وقوية التأثير وتوزيع عادل للخسائر وتقوية شبكات الحماية الاجتماعية"، وبعوامل الفشل المتمثلة بحكومة منقسمة، وغياب المحاسبة، وأهداف غير واضحة وغير مقنعة، وأهداف ثانوية وضعيفة التأثير، وتوزيع غير عادل للخسائر، وضعف شبكات الحماية الاجتماعية". ويصح هذا التقويم بالنسبة الى الحال اللبنانية، حيث لا جدوى من انتظار حصول أعجوبة ما ولا رجاء في الاستمرار بالاتكال على عوامل خارجية أو دعم خارجي استثنائي. والأجدر باللبنانيين أن ينظروا نحو ذواتهم ويعملوا على خلق تفاهم داخلي صلب يدعم الاصلاح الذي لا مفر منه، بمعنى آخر، على اللبنانيين العمل على بيروت-1 بدل تمني باريس-3. * كبير اقتصاديي البنك الدولي لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا