ظلت معالم المشروع الأميركي لإعادة رسم الخرائط السياسية في الشرق الأوسط - باعتبارها أحد أهم مبررات الغزو الأميركي للعراق واحتلاله - مجرد معالم افتراضية أو نظرية طيلة السنوات الثلاث الماضية، لكنها الآن تتكشف دفعة واحدة، إذ تتبدل أنماط التفاعلات والتحالفات، ليس فقط بين دول المنطقة ولكن أيضاً داخل كل دولة على حدة. إذا بدأنا بأنماط التحالفات الإقليمية سنجد أنها تتبدل وتأخذ أشكالاً وأنماطاً أخرى شبيهة، إلى حد ما، بأنماط التحالفات السابقة التي كانت تريدها الولاياتالمتحدة مع بداية عهدها الجديد في الشرق الأوسط في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، وبالذات سياسة الأحلاف، خصوصاً حلف بغداد، ومن بعده حلف السنتو، ومشروع الهلال الخصيب. لم يتصور أحد أن سقوط نظام حكم البعث في العراق يمكن أن يكون خطوة أولى ومهمة لإعادة إحياء حلف بغداد بأطرافه الرئيسة مع بعض التعديلات الطفيفة. ففيما تسعى واشنطن إلى ترتيب الأوضاع الداخلية في العراق لصالح حكم جديد موالٍ ومنخرط في تحالفاتها الإقليمية، جاء التوجه الباكستاني القوي نحو إسرائيل، بوساطة وربما بتدبير تركي، ليعلن أن تحالفاً إقليمياً جديداً أخذ يتشكل في المنطقة تمثل إسرائيل قاعدته الأساسية. التقارب الباكستاني - الإسرائيلي أُعلِن عنه رسمياً في اسطنبول بين وزيري خارجية باكستان وإسرائيل، واستُكِمل في نيويورك بلقاء حميم بين الرئيس الباكستاني برويز مشرف وقرينته مع آرييل شارون رئيس الحكومة الإسرائيلية على هامش المؤتمر العالمي الذي عقد في مقر الأممالمتحدة، لكن ذروته كانت عند لقاء مشرف أعضاء المجلس اليهودي الأميركي، حيث تم كسر الخبز وتلاوة آيات من القرآن، في إشارة متعمدة من الرئيس الباكستاني إلى أمرين: أولهما الدعوة إلى خطوات مماثلة لإحياء ما سماه ب"العلاقات التاريخية بين الدين الإسلامي والدين اليهودي"، وثانيهما انتقاده المجتمعات الإسلامية"التي فشلت في اللحاق بالحضارة العصرية". هذا التوجه الباكستاني نحو إسرائيل له أسبابه الأخرى المباشرة، لكنها أسباب لا تخفي هذا الإطار"الحضاري"الذي تحدث عنه مشرف أمام المجلس اليهودي الأميركي، وهو إطار يلمح إلى أن إسرائيل لم تعد فقط"بوابة العبور الى الولاياتالمتحدة"، ولكنها فضلاً عن ذلك"بوابة العبور الى الحضارة العصرية". ومن هذه الأسباب يمكن حصر ثلاثة أسباب رئيسة لها علاقة مباشرة بأنماط التحالفات الجديدة في المنطقة هي: السبب الأول له علاقة بالولاياتالمتحدة، فباكستان حريصة دائماً على إيجاد الأسباب التي تجعلها"صديقاً مميزاً"لصانع قرار السياسة الخارجية الأميركية. تاريخ العلاقات بين البلدين منذ نشأة باكستان يؤكد ذلك، والسياسة العدائية بين الهندوالولاياتالمتحدة كانت أحد الأوراق المهمة التي لعبت بها الديبلوماسية الباكستانية للحصول على هذا التمايز، وكانت عضوية باكستان في الأحلاف الأميركية، ثم دورها في الحرب الأميركية في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي مرة وضد حركة طالبان وتنظيم القاعدة مرة أخرى مؤهلات تمايز لباكستان بالنسبة الى الولاياتالمتحدة.واستطاعت إسلام أباد توظيفها، وبخاصة دورها في الحرب الأفغانية ضد السوفيات، لبناء مفاعلاتها النووية. ويبدو أن غالبية هذه الأوراق المميزة لباكستان بدأت تحترق وتفقد مفعولها، خصوصاً بعد التقارب المهم في العلاقات الهندية - الأميركية، وكان من الضروري البحث عن ورقة تمايز أخرى، وهنا جاءت ورقة إسرائيل لتخدم هذا الغرض الباكستاني. السبب الثاني هو محاولة احتواء خطر التقارب الهندي - الإسرائيلي. هذا التقارب أقلق الرئيس الباكستاني الذي اعتبره خطراً مزدوجاً، فهو من ناحية فتح أبواباً كانت موصدة أمام الهند للتقارب مع الولاياتالمتحدة، ومن ناحية أخرى مكَّن الهند من الاستفادة من خبرات تكنولوجية إسرائيلية يمكن أن تساعد على زيادة الخلل في توازن القوى بين باكستان والهند، ولذلك كان من الضروري سرعة التحرك لاحتواء هذا التقارب. أما السبب الثالث فله علاقة بالقدرات النووية الباكستانية، ورغبة إسلام أباد في تأمين هذه القدرات والحيلولة من دون إدراجها في لائحة الضغوط الغربية، خصوصاً أن واشنطن تعد لائحة بأسماء الدول التي تتهمها بانتهاك الاتفاقيات الدولية الخاصة بالحد من التسلح. وأعدت وزارة الخارجية الأميركية بالفعل تقريراً بعنوان"عدم الالتزام"دعت فيه إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد الدول التي تنتهك الاتفاقيات الدولية للحد من التسلح ونزع السلاح. وجاءت إيران وكوريا الشمالية وروسيا في مقدم الدول المتهمة بانتهاك تلك الاتفاقات. تراقب باكستان هذا التطور من ناحية وتتابع تطوراً آخر مهما استطاع رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ إنجازه خلال زيارته"التاريخية"فعلاً إلى واشنطن، حيث وعد الرئيس جورج بوش بالعمل على تعديل القوانين الأميركية حتى تتمكن الهند من الحصول على وضع"دولة نووية"، ومن التمتع بالمميزات الإيجابية بوصفها دولة نووية بما في ذلك الحصول على مواد وأدوات مهمة تتعلق بالإنتاج النووي غير الدفاعي، وبخاصة الوقود النووي الخفيف لإنتاج الطاقة الكهربائية. وفي المقابل، فإن الهند ستضع منشآتها النووية المدنية تحت مقاييس الحماية الدولية وتستمر في سياساتها الذاتية بعدم إجراء تجارب نووية وعدم تصدير التكنولوجيا النووية والصاروخية إلى الخارج. الرئيس الباكستاني واعٍ لهذه التطورات وواعٍ أيضاً بأن إسرائيل واليهود الأميركيين يمكنهم القيام بدور مهم للحصول على دعم أميركي في شأن القدرات النووية الباكستانية. ولعل هذا ما يفسر توقيت لقاء وزير الخارجية الباكستاني بنظيره الإسرائيلي بمبادرة باكستانية قبل الزيارة التي قام بها مشرف إلى الولاياتالمتحدة بعد أسبوعين من تاريخ ذلك اللقاء. بهذا المعنى، نستطيع أن نقول إن التزامات باكستان الإسلامية، ودورها المميز في منظمة المؤتمر الإسلامي، وموقفها من القدس والقضية الفلسطينية لم تكن عوائق أمام القرار الباكستاني بالتقارب مع إسرائيل. وإذا أخذنا في الاعتبار أن السياسة في أحد تعريفاتها هي علم الاختيار بين البدائل أو بالأحرى بين المصالح، فإن القضية الفلسطينية لم تكن مصلحة باكستانية أو لم تكن مصلحة قادرة على منافسة مصالح أخرى ترجح التقارب مع إسرائيل. يأتي الدور التركي ليكمل أعضاء مستطيل التحالف الإقليمي الجديد"إسرائيل - العراق- باكستان - تركيا"كقاعدة أساسية لنظام الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، بحيث يكون"حلف بغداد الجديد"بعضوية إسرائيل. واستثناء إيران هو المقدمة أو القاعدة لتأسيس هذا النظام على أنقاض النظام العربي الذي يجري تفكيكه بعد تجميده. دبرت الحكومة الإسلامية التركية بزعامة رجب طيب أردوغان"حكومة حزب العدالة والتنمية"لقاء وزير الخارجية الباكستاني ونظيره الإسرائيلي في عاصمة الخلافة الإسلامية اسطنبول، في إشارة ذات أبعاد ثلاثة: بُعد أميركي وبُعد أوروبي وبُعد إسرائيلي، تقول إنه إذا كانت إسرائيل هي بوابة العبور العربي والإسلامي إلى الولاياتالمتحدة و"الحضارة العصرية"على حد قول مشرف، فإن تركيا هي بوابة عبور الولاياتالمتحدة وأوروبا وإسرائيل إلى العالمين العربي والإسلامي، وأن النموذج الإسلامي لتركيا يمكن أن يكون النموذج الحضاري الذي يهم الغرب أن يتعامل معه في العالمين العربي والإسلامي، ومن ثم يجب ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وتقوية روابطها بالولاياتالمتحدة كي تتمكن من أداء هذا الدور المميز الذي لا يستطيع غيرها أن يقوم به، وعلى الأخص بزعامة حزب العدالة والتنمية، بصفته حزباً إسلامياً، دون غيره من الأحزاب العلمانية التركية. سبق لقاء اسطنبول الشهير بين وزيري خارجية باكستان وإسرائيل ثلاثة تطورات تؤكد الاستنتاج السابق أو تدعمه: أولها، الزيارة غير المبررة لإسرائيل التي قام بها أردوغان في مطلع أيار مايو الماضي. وثانيها، زيارة أردوغان لواشنطن بعد نحو شهر من زيارته لإسرائيل. أما ثالثها، فهو الإلغاء غير المبرر لزيارة كان الرئيس السوري بشار الأسد يعتزم القيام بها إلى مدينة ريزي مسقط رأس أردوغان في آب أغسطس الماضي. هذه التطورات الثلاثة أعقبها تطور رابع لا يقل أهمية هو استئناف المناورات العسكرية المشتركة بين تركيا وإسرائيل. مجمل هذه التفاعلات يسهم الآن في رسم معالم خريطة جديدة للتحالفات الإقليمية أبطالها باكستان وتركيا وإسرائيل في انتظار البطل العراقي الرابع، خصوصاً أن التقارب الباكستاني - الإسرائيلي جاء مقترناً بتوتر باكستاني - إيراني حال دون زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني مسؤول الملف النووي الإيراني إلى إسلام أباد عقب زيارته للعاصمة الهندية، وتوتر تركي - سوري، في وقت تزداد فيه الضغوط الأميركية - الإسرائيلية على كل من إيران وسورية. تمارس الضغوط على إيران بسبب برنامجها النووي، لكن بعض الدول العربية دخلت طرفاً في هذه الضغوط ضد إيران بسبب برنامجها النووي وبرامجها التسليحية المتطورة وزيادة نفوذها في العراق. أما الضغوط التي تمارس ضد سورية فهي بسبب اتهامات بالتهاون في حماية حدودها مع العراق لمنع تسلل من تصفهم واشنطن ب"الإرهابيين"، وبسبب أدوار سابقة في لبنان. يحدث هذا كله في ظل حرص على ربط"العراق الجديد"بالتحالف الإقليمي الآخذ في التشكل في المنطقة تحت الرعاية الأميركية. ولعل في مسودة الدستور العراقي الجديد ما يؤكد أن العراق لم يعد للعرب بقدر ما أصبح عليهم، أو هكذا يريدونه أن يكون. كل ما سبق يمكن وصفه بأنه الجانب الأول لمشروع إعادة رسم الخرائط السياسية في الشرق الأوسط، وهو جانب"البناء"، هناك جانب آخر صراعي داخلي عربي - عربي هو جانب"الهدم"الذي يجرى للنظام العربي وبقوة، ابتداءً من حرب تحرير الكويت، حين تم البدء بتفكيك علاقة الدول العربية بالقضية الفلسطينية لإكمال تفكيك بنية النظام العربي ابتداءً من مؤتمر مدريد للسلام في العام1991. في هذا المؤتمر حدثت عمليتان في وقت واحد، عملية للتفكيك وأخرى للتربيط: العملية الأولى هي عملية فك رابطة الدول العربية بالقضية الفلسطينية عن طريق تحديد مسار لعملية التسوية اقتصر حضوره على الدول التي لها مشكلات حدودية أو مشكلات حول أراضى متنازع عليها وهي فلسطين والأردن وسورية ولبنان، ومن ثم عزلت بقية الدول العربية عن مسار تطور القضية الفلسطينية، خصوصاً بعد عزل فريق التفاوض الفلسطيني في ذلك المسار عن الفرق التفاوضية العربية الأخرى بعد فرض رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك إسحاق شامير رأيه الرافض لفكرة تشكيل وفد تفاوضي عربي واحد للتفاوض حول كل الملفات الفلسطينية والأردنية والسورية واللبنانية. أما العملية الثانية وهي عملية"التربيط"، فتمت عبر ابتداع مسار آخر لتفاوض بقية الدول العربية مع إسرائيل من أجل الشروع في تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية، أخذ اسم"المفاوضات الإقليمية". وإذا كان هذا المسار تعطل جزئياً بعد ربطه بالتقدم الذي يحدث في المسار الأول وبعد تفجر انتفاضة الأقصى، فإنه يشهد هذه الأيام عملية إحياء واسعة كان المؤتمر الدولي الذي عقد على هامش الاجتماع الدوري للجمعية العامة للأمم المتحدة مسرحها الرئيسي. إذا أخذنا مجمل الأداء العربي والإسلامي في هذا المؤتمر الدولي، وتحديداً مجمل مشاهد العناق الحار والحوارات الثنائية والجماعية بين مسؤولين عرب كبار وآخرين إسرائيليين، وتصريحات وزراء خارجية عرب حول أهمية العلاقات مع إسرائيل، والتهافت من جانب دول عربية للاستجابة لمطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون ووزير خارجيته سيلفان شالوم بالإفصاح علناً عن العلاقات السرية، لأدركنا أن الواقع العربي أضحى مستعداً لتجاوز كل المحرمات والضرب بعرض الحائط بكل القرارات الصادرة عن القمم العربية بالنسبة للقضية الفلسطينية. إن مشهد السفير الإسرائيلي في الأممالمتحدة داني غليرمان وهو يترأس، للمرة الأولى منذ تأسيس المنظمة الدولية عام 1945، جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأمامه وزير خارجيته سيلفان شالوم يتحدث معلناً عن لقاءات جمعته مع عشرة من"زملائه"من وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية كفيل بدق ناقوس الخطر الذي يتهدد القضية الفلسطينية. تعمد شالوم أن يصف لقاءاته تلك بأنها كانت"ودية وصريحة كما يليق باجتماعات بين دول ليس بينها صراع لا في شأن أرض ولا في شأن اقتصاد". لخص شالوم المشهد في مجمله أمام أعين العالم ب"انتهاء الصراع"، وهذا يعني ضرورة توجه الدول العربية ل"إشهار إنهاء المقاطعة". هل ستقبل الدول العربية؟ أتصور أنها ستقبل لكنها ستحاول إيجاد إخراج مناسب للحد من ردود الفعل الشعبية، وربما يكون الاقتراح الأميركي بعقد مؤتمر إقليمي للسلام يتوج بإعلان دول عربية إقامة علاقات مع إسرائيل مخرجاً للدول العربية وإعفاءً مناسباً لها من الحرج، وإن كان بعضها تجاوز هذا الحرج بمسافات واسعة. عندها سيفرض مشهد جديد للعلاقات الإقليمية تتحول فيه العلاقات العربية - الإسرائيلية من علاقات صراعية إلى علاقات تعاونية، وتتحول أنماط علاقات الصراع إلى مستويين آخرين: الأول بين الدول العربية في ما بينها، والآخر داخل كل دولة عربية، ومن ثم ينهار النظام العربي كلية لصالح نظام إقليمي بديل تريده الولاياتالمتحدة. هنا يفرض النموذج العراقي الجديد نفسه، والنموذج العراقي البديل هو أولاً النموذج المتحرر من عروبته المرتبط بواشنطن وتل أبيب كطرفين رئيسين للتحالف، وهو ثانياً نموذج الصراعات الداخلية العنيفة والدموية على أساس من الفرز العرقي والطائفي، بين حكومة موالية للاحتلال العراق أو موالية للقوة العظمى صاحبة النفوذ الولاياتالمتحدة في مواجهة الغالبية العظمى من الشعب، وبين التكوينات العرقية والطائفية في ما بينها بما يمكن أن يؤدي إلى القضاء نهائياً على نموذج الدولة الوطنية القطرية العربية لصالح بزوغ دويلات أخرى متعددة طائفية وعرقية. وعندما يشيع النموذج العراقي ويتم تعميمه، عندها فقط، سيتحقق مشروع إعادة رسم الخرائط السياسية في الشرق الأوسط تحت اسم"نظام إقليمي جديد للشرق الأوسط". كاتب مصري، خبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.