صباح الثالث من كانون الثاني يناير 1997 تجمع جمهور كبير من سكان نيودلهي للمشاركة في الاحتفال الذي اقيم لمناسبة وضع حجر الأساس لمبنى المركز الهندي - الاسرائيلي لعلوم الزراعة والتكنولوجيا. وعندما تقدم رئيس جمهورية اسرائيل عازر وايزمان مع زوجته "ريوما" من الحفرة المعدة لوضع الحجر، عاونه نظيره الهندي شانكر شرما في أداء العملية الاستعراضية امام المصورين. وفجأة، أطل على الحفلة فيلان ضخمان يعلو ظهريهما هودجان مزدانان بالخرز الملون وأزهار الياسمين. وارتجل الرئيس الهندي كلمة جاء فيها: "ان الفيل في الهند يرمز الى الصداقة والتعاون والخدمة. وبسبب أهمية خطوة التعاون بين بلدينا اخترنا هذين الفيلين كشهادة على ما يمثلانه في مجتمعنا". ولتأكيد مبدأ التعاون قام الرئيس وايزمان في اليوم التالي بزيارة خاصة الى القاعدة الجوية "يالا هتكا" الواقعة في جنوب البلاد حيث خدم كطيار مع القوات الجوية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، واستقبله في القاعدة المارشال سينغ، قائد القوة الجوية، مرحباً به بعبارات منتقاة تختصر مرحلة التحول الذي طرأ على العلاقات اثر انفراط عقد دول عدم الانحياز. قال سينغ مخاطباً وايزمان: "أنت تعرف جيداً اجواء منطقة "بانغالور" منذ نصف قرن. وانما احب ان أؤكد لك ان الاجواء السياسية التي تجمع الهند باسرائيل اليوم تغيرت كثيراً الى الأفضل". وكان قائد الطيران يلمح بكلمته الى الاتفاقات الجديدة التي وقعها الرئيس الاسرائيلي اثناء زيارته للهند. وهي اتفاقات متعددة الاهداف تشمل القطاعات الصناعية والعسكرية والزراعية، كما تشمل عملية تحسين وتطوير طائرات الهند الحربية من طراز ميغ - 21 اضافة الى انشاء شبكة نظام دفاعي تشرف اسرائيل على تحديد عناصره ومقوماته. وهكذا أدت تلك الزيارة الى رفع حركة التبادل التجاري بين البلدين من 600 مليون دولار عام 1996 الى توقيع اتفاقات بمبلغ 3 بلايين دولار تتجدد عام 1999. ولم ينس وايزمان ان يلتقي قبل مغادرته نيودلهي زعيم المعارضة اثال بيهاري فاجبايي الذي فاز حزبه بهاراتيا جاناتا بالانتخابات الاخيرة، وأصبح الآن رئيساً للوزراء. لم تكن زيارة وايزمان للهند عام 1997 سوى ثمرة اتصالات سياسية متلاحقة قادت الى تعميق التعاون اثر التحولات الاستراتيجية التي ظهرت فور انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي واختفاء كتلة عدم الانحياز. او بالاحرى اثر وفاة نهرو وشوان لاي وسوكارنو وتيتو وعبدالناصر وجميع القادة الذين كانوا يمثلون الكتلة الثالثة المؤيدة للموقف العربي في مواجهة اسرائيل. صحيح ان الهند اعترفت باسرائيل كحقيقة واقعة عام 1950 حين سمحت لها بفتح قنصلية في بومباي... ولكن الصحيح ايضاً ان التقارب الوثيق لم يبدأ الا بعد 16 كانون الأول ديسمبر 1991، اي يوم صوت مندوب الهند في الجمعية العامة مع الغاء البند الخاص بمساواة الصهيونية بالعنصرية. وبعد مرور سنة تقريباً على هذا الانعطاف السياسي، اعلن امين عام الخارجية الهندي ديكشيت 29 كانون الثاني/ يناير 1992 رفع العلاقات الديبلوماسية الى مستوى العلاقات الكاملة. ثم زار اسرائيل على رأس وفد كبير بهدف توثيق العلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات. ومن المؤكد ان اقامة العلاقات مع اسرائيل صدمت مسلمي الهند المعروفين بتأييدهم الحماسي للقضية الفلسطينية. ويبدو ان الحكومة الهندية كانت تحترم شعورهم وتخشى معارضتهم بدليل انها طلبت من وزير الخارجية شمعون بيريز تأجيل زيارته لنيودلهي في اعقاب الاضطرابات الطائفية التي تلت هدم المسجد "البابري" وابعاد اسرائيل مجموعة من "حماس" الى جنوبلبنان. لكن مرحلة الحذر هذه لم تدم طويلاً اذ قام بيريز بزيارة رسمية وقّع من خلالها معاهدة التعاون الصناعي التي قضت بانشاء هيئة دائمة لتبادل المعلومات بين اتحادات الصناعة في البلدين. كما وقّع سلسلة اتفاقات في مجالات الزراعة والطيران المدني والعلوم والتكنولوجيا والسياحة والتجارة والثقافة وتفادي الازدواج الضريبي. في حزيران يونيو 1991 خطف المسلحون الكشميريون بعض الارهابيين الصهاينة في كشمير كانوا يتخفون في ازياء سياح اميركيين. وبعد التحقيق معهم تبين انهم كلفوا مهمة خاصة تتعلق بمكافحة عمليات الارهاب التي تقوم بها الميليشيات المسلحة في كشمير ضد الهنود. وكان من نتيجة هذه الحادثة ان طلب وزير الدفاع الهندي آنذاك شاراد باوار مساعدة اسرائيل في مجال مقاومة الارهاب. ووصلت الى نيودلهي وحدة تابعة للموساد 21 شباط/ فبراير 1992 كلفت وضع خطة لمواجهة التدخل الباكستاني في كشمير "الهندية". لكن وجود هذه الوحدة لم يمنع "جماعة كشمير الحرة" من زرع شوارع بومباي بالمتفجرات. كما لم يمنع الحكومة الاسرائيلية من تعميق تعاونها الوثيق مع الهند بطريقة اكثر تداخلاً وتشابكاً على الصعيدين العسكري والسياسي. لذلك ساعدت تل أبيب نيودلهي على تطوير الدبابة"MBT" التي بوشر بانتاجها مطلع عام 1995. وساهم الخبراء الاسرائيليون في تصنيع هذه الدبابة من دون ان يضعوا علاماتهم عليها لأسباب تجارية. بعد زيارة لاسرائيل كتب بادغاونكار رئيس تحرير اهم صحيفة هندية تصدر باللغة الانكليزية "تايمز أوف انديا" افتتاحية عبّر فيها عن الاهداف المشتركة بين تل أبيب ونيودلهي. وتختصر خطوط هذه الأهداف بالتالي: اولاً - ان للبلدين مصلحة مشتركة في التعاون لمواجهة الاصولية الاسلامية. وهو شعار يلقى الصدى المستحب في نفوس السياسيين الهنود، خصوصاً زعماء التطرف الهندوسي الذين طالبوا دائماً باقامة علاقات كاملة مع اسرائيل. ولا يخفي هؤلاء اعجابهم بطرد اسرائيل الفلسطينيين وتحديها الشعوب العربية على رغم صغر حجمها وقلة عدد افرادها. ثانياً - ترى اسرائيل ان باستطاعتها تجنيد الهند للاسهام في مساعدة مخططاتها البعيدة المدى في احتواء المد الاسلامي الاصولي وتوجيه العالم الاسلامي نحو اعتماد سياسة معتدلة يقبل بها الغرب وترضى عنها اسرائيل. وفي افتتاحية ثانية 5 آذار/ مارس 1993 كتب بادغاونكار يقول نقلاً عن اسحق رابين: "ان اسرائيل مستعدة للتعاون مع الهند في مجال الدفاع، وان اكبر خطر يهدد اسرائيل والهند في نظره يتمثل في الاصولية الاسلامية، وان حكومته تحاول جاهدة تطويق هذا الخطر". ولم يكتف رابين بهذا القدر من التعاون، بل اشار الى اهمية دور الهند في وقف انتشار الاصولية الاسلامية التي تدعمها وتغذيها باكستان. كما طالب بضرورة تعاون الهند مع تركيا واسرائيل بهدف دفع دول آسيا الوسطى نحو اعتماد الديموقراطية سبيلاً لاقامة سوق حرة ونظام سياسي علماني. وشدد رابين في حديثه يومها على اهمية امتلاك الهند واسرائيل السلاح النووي، وضرورة العمل المشترك لمنع باكستان وإيران والعراق ومصر وسورية من امتلاكه. السؤال المطروح في المحافل الدولية يشدد على أهمية توقيت التفجيرات النووية التي قامت بها الهند، وعلى نوعية المخاطر التي تتعرض لها داخلياً وخارجياً! الجواب يكمن عند رئيس وزراء الهند أثال بيهاري، زعيم حزب بهاراتيا جاناتا. وتوقع المراقبون ان تشهد سياسة الهند الخارجية في عهده العديد من المتغيرات، خصوصاً انه أصرّ على الاحتفاظ بهذه الحقيبة. ويبدو ان لتوقعاتهم ما يبررها بدليل انه طرح خلال المعركة الانتخابية شعارات براقة لم يلبث ان أصبح أسيراً لها مثل شعار "أمة واحدة وثقافة واحدة"... او شعار "القنبلة النووية الهندوسية في ترسانة الهند". وكان من المنطقي ان يثير طرح مثل هذه الشعارات الاستفزازية حفيظة باكستان التي شعرت بأنها وحدها المعنية بهذا التحدي الكبير. خصوصاً ان برنامجي "برثفي" و"أغني" للصواريخ الهندية كان يتطلب ادخال الرؤوس النووية، لكي يصبح التهديد خطراً حقيقياً. وبما ان باكستان هي الجارة الوحيدة التي بقيت خلافاتها قائمة مع الهند، فان تفجير السلاح النووي كان المؤشر لبداية نزاع اقليمي سوف تتأثر بمضاعفاته جميع دول جنوب آسيا بما في ذلك الصين. ومع ان الولاياتالمتحدة ضغطت على باكستان لكي تمتنع عن القيام بخطوة مماثلة، الا ان رئيس الوزراء نواز شريف لم يستطع مقاومة التيار الشعبي الجارف فإذا به يعلن تفجير خمس تجارب نووية، مؤكداً استعداده لتوقيع معاهدة حظر التجارب النووية. وتتهم الدول الأوروبية الادارة الاميركية بأنها هي التي شجعت على هذا الفلتان النووي عندما اعلن كلينتون منذ سنتين السماح لاسرائيل بشراء اجهزة "سوبر كومبيوتر" التي اخترعت لتصميم اسلحة نووية وهيدروجينية. علماً بأن الرئيس الأسبق جورج بوش رفض تصدير مثل هذا الجهاز الى مؤسسة السلاح النووي الاسرائيلي في ديمونا. وأعربت مصر عن استيائها من قرار كلينتون لأنه يناقض التزام الولاياتالمتحدة المنصوص عليه في المادة الأولى من معاهدة الحد من انتشار السلاح النووية. وتقول المادة: "ان الولاياتالمتحدة لن تقوم في أي شكل من الاشكال بمساعدة او تشجيع او تحريض اي دولة غير نووية على صنع او حيازة الاسلحة النووية". والطريف ان اسرائيل تعتبر في نظر واشنطن دولة غير نووية لأنها لم تسمح بالكشف عن مفاعل ديمونا، وان سلاحها النووي ظهر بعد عقد المعاهدة الموقعة عام 1968. كتبت صحيفة "جويش كرونيكل" التي تصدر في لندن هذا الاسبوع، تعليقاً حول ردود الفعل السياسية التي خلفتها التفجيرات، مشيرة الى المسؤولية العملية التي تتحملها اسرائيل بهذا الصدد. وذكرت الصحيفة ان عميل الموساد فيكتور اوستروفسكي رافق عام 1984 وفداً من الخبراء الهنود جاء الى اسرائيل لتبادل معلومات حول القنبلة النووية. وأشارت ايضاً الى الاستعدادات التي قامت بها اسرائيل عام 1988 لضرب المفاعل النووي الباكستاني، مثلما فعلت عام 1981 مع العراق. وتخوفت الحكومة الهندية في حينه من النتائج السلبية التي يحدثها هذا العمل، خصوصاً ان الجيش الاسرائيلي طلب استخدام قاعدة عسكرية هندية، كمحطة انطلاق للطائرات المغيرة. وتوقعت الهند فيما لو ساندت هذه العملية، ان تثأر باكستان وتوجه ضرباتها الى مصافي النفط والمصانع الحربية بما فيها المفاعل النووي. وذكر في حينه ان الحكومة الباكستانية وسطت مصر لكي تحذر اسرائيل من مخاطر انعكاسات هذا الاعتداء على الشارع الاسلامي. هذه الخلفية تطرح اسئلة محيرة حول اهداف الهند من اخراج البعبع النووي في هذا الوقت بالذات؟ المحللون يختلفون في تقويم الاسباب الملحة. بعضهم يقول ان رئيس وزراء الهند لم يجد الحل الاقتصادي الداخلي عن طريق التحالف مع 19 حزباً يمثلون مختلف التيارات. وبما انه فشل في تحسين الاوضاع المعيشية، فان اشغال الرأي العام بالألعاب النووية، يمكن ان يعوض عن عجزه المتمادي عن حل المتاعب الاجتماعية والصحية. ويرى آخرون ان السلاح النووي موجه بالدرجة الأولى الى اسلام أباد التي ترفض التسويات المطروحة بشأن قضية كشمير. وفي تحليل آخر يميل البعض الى تفسير قرار رئيس وزراء الهند الى الشعارات الاستفزازية التي يحملها حزبه الداعي دائماً الى تقسيم شبه القارة. وهو في هذه الناحية يلتقي مع تصور حزب "ليكود" الاسرائيلي في ضرورة قيام مجتمع صافي العرق لا يحمل في تركيبته شوائب الاقليات. والمعروف ان حزب بهاراتيا جاناتا ينادي دائماً بطرد الاقلية المسلمة من الهند، اسوة بما حدث من قبل عندما انفصل 250 مليون مسلم عنها ليؤلفوا باكستان وبنغلاديش. وحول هذه المقارنة كتب المعلق العسكري الاسرائيلي زئيف شيف في جريدة "هآرتس" يحذر من مخاطر مشاركة نتانياهو في مهرجان التفجيرات، ويقول ان القنابل النوية لن تخيف المقاومة الاسلامية. كتب المؤرخ بول كنيدي عن نظرية انتشار الفوضى اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وتوقع فشل الولاياتالمتحدة في القيام بدور الشرطي العالمي، خصوصاً اذا كان هذا الشرطي محكوماً بالمافيا الاسرائيلية. ولا يمكن تفسير الانهيارات الاقتصادية والامنية المتزايدة إلا من خلال هذه النظرية. ولقد استفادت منها حكومة نتانياهو لتوظفها في محاولات السعي لخلق "جمهوريات الشر" التي تفتقدها الولاياتالمتحدة بعد انهيار المنظومة الشيوعية. ونجحت اسرائيل الى حد ما في خلق عدو جديد وخطر جديد يتمثل في "الاصولية الاسلامية". وهي حالياً تريد بيع قرار الهند كسلاح نووي رادع ضد الاصولية الاسلامية المتنامية في باكستان وإيران وافغانستان. لكن رد فعل نواز شريف خلق التوازن المطلوب لوقف البرنامج النووي الذي ازداد اعضاؤه وأصبح من الصعب السيطرة عليه الا من خلال المؤسسات الدولية والالتزام بمعاهدة الحد من انتشار السلاح النووي. على كل حال، ان التصعيد النووي المفاجئ اعاد ظروف الحرب الباردة، وشجع ايران على الاسراع في امتلاك القنبلة النووية التي لم تعد حكراً على الكبار...