يحصل ان يتكلم السياسي وغير السياسي بخلاف ما يفكر به، كما يحدث ألا يفعل ما يقول بل ما يضمر ويفكر، أو يفعل ما يقول خلافاً لما يفكر. أما ان يقول الانسان شيئاً وهو يفكر غير ما يقول، ويفعل شيئاً ثالثاً تماماً مخالفاً لما يقول وما يفكر، بل مناقض لهما، وأن يتم كل ذلك ببلاغة وتأنق يلائم بين الجملة والأخرى كما تتلاءم البدلة مع ربطة العنق، فذلك من امتيازات ساحات سياسية تجعل الحديث والكتابة في السياسة أمراً فائضاً عن الحاجة أو نوعاً من قضاء أوقات الفراغ قد يتم لأغراض التسلية أو لأغراض خارج ما يقال ويكتب. قلما تتنافر العناصر الثلاثة: التفكير والتعبير والتنفيذ كما تتنافر في السياسة العربية، وإذا أضيف اليها مركب التنافس في إطار التوافق الطائفي كما في لبنان حالياً، فإن هذه العناصر لا تتنافر فحسب بل تتنافس أيضاً، حتى يتعذر الفهم ويصبح التوقع مهمة مستحيلة. يفترض طبعاً أن يكون توقع سلوك السياسيين ممكناً ولو بالحد الأدنى إذا كان هنالك أي معنى للبرنامج السياسي أو للفكر او للتصريحات، أي اذا كان هنالك من معنى للسياسة. وفي حال السياسات الطائفية غالباً ما لا يكون القيادي في قرارة ذاته طائفياً، فهو يدرك أن الطائفية هي مجرد أداة يستخدمها من دون أن يقتنع بها، فهو أقل تعصباً واكثر براغماتية في السياسة من أن يكون طائفياً إلا لغرض. والفجوة بين ما يفكر وما يصرح لتجنيد أبناء طائفته خلفه فجوة مزمنة، باتت مألوفة الى درجة الطبيعية. كما أن الفجوة بين ما يقوله لقيادات طائفية أخرى وبين ما يفعله مزمنة وتسمى في تلك الأنظمة سياسة، فالسياسة ليست فن الممكن والمتوقع، لا من أجل تغيير الواقع ولا من أجل تكريسه، بل هي فن المفاجأة. وما علينا إلا ان نتخيل مفاجأة تتكرر إلى ان تصبح نهجاً مألوفاً. المفاجأة غير المفاجئة هي كالنكتة غير المضحكة، هكذا هي الفجوة بين القول والفعل في تلك الحالات. الانتخابات هي شأن لا علاقة له بالناخب ولا بالبرنامج ولا بما يسمعه أو يقرأه او يتوقعه بناء على ذلك، بل هي شأن خاص بالمنتَخَبين وحدهم، أي بالنخبة السياسية وحدها. وإذا تحالفت قوى لتشكيل قائمة يتبين فوراً أنها قوى اجتماعية وليست سياسية، فلا علاقة للتحالف أو عدمه بالمواقف السياسية. التحالف هو"فزعة"قوى اجتماعية لبعضها، نوع من سد الطريق على كل ما هو جديد في الطوائف كافة. وتترتب السياسة على هذه التحالفات من دون أن تكون هي المقصودة، وفي النهاية فقط، وبأثر رجعي. أما القوى الاجتماعية التي لم يحسب حسابها في هذه التضامنات فتخسر تمثيلها بالكامل حتى لو كانت قوى اجتماعية كبيرة. والأحزاب السياسية التي تطرح برنامجاً يتجاوز الانتماء المولود يتم تقزيمها وتهميشها. فهي أيضا لا تمثَّل في غياب طريقة انتخابات نسبية ومع ادعاء رغبة لدى القطاعات الاجتماعية من جانب ممثلي الطوائف بالتمثل مباشرة من دون برنامج سياسي، وعبر تمثيل موهوم لهوية طائفية أو عشائرية مصنوعة صممت خصيصاً لغرض أن يمثلها صناعها. ويفترض بالأقلية، حتى إذا حددت ذاتها كأقلية طائفية، أن تكون معنية بالانتخابات النسبية الوطنية التي تسمح لها بتمثيل ذاتها في كل حال، أو على الأقل بالنسبية على مستوى الإقليم أو المحافظة بحيث لا تلغي الستين بالمائة الاربعين في المئة التي تصوت كأنها لم تصوت، وتشارك في الانتخابات دون أن تتمثل. أما الأقلية التي تعارض الانتخابات النسبية فهي أقلية تتصرف كأنها أغلبية دائمة. يقال بالعامية:"كَبرَة ولو على خازوق"، أي ادعاء بالمكانة وممارسة للمنزلة ولو كلفا غالياً. ولا يدري أحد كنه هذا التصرف. طرحت القوى المسيحية التقليدية المنظمة في لبنان كمارونية سياسية رغبتها أن ينتخب المسيحي المسيحي في ظل نظام تقسيم طائفي بحيث يقتصر التنافس عملياً على تنافس داخل كل طائفة، فبعد ان يحسم هذا التنافس يضمن تقسيم المحاصصة البقية، إذ لا يوجد تنافس حقيقي بين الطوائف بل نظام محاصصة متفق عليه. عدد النواب من الطوائف المختلفة محدد وواضح في البرلمان، وكذلك نوع الحقائب التي سيتولونها إضافة الى منصب رئيس الدولة وتتلوه بقية المناصب. ولكن تقسيم المحافظات خلق وضعاً لا ينتخب في بعضها مسيحي من دون تصويت إسلامي أي دون تحالفات، وهذا يؤدي في حالة وجود غالبية إسلامية أن"يختار المسلمون من يمثل المسيحيين". ويجب عدم خلط ذلك باختيار المواطنين من يمثلهم. ولا يغير هذا الوضع من مبدأ التمثيل الطائفي بل يسمح لمن يعرَّفون كأبناء طائفة باختيار ممثلي طائفة أخرى. وعندما اعترضت القوى المسيحية التقليدية التي أصرت مؤقتا على الانتخاب داخل كل طائفة وتقسيم البلاد بحيث يغدو ذلك ممكناً وجه اليهم السؤال: لماذا عارضتم اذا التمثيل النسبي؟ كما رد عليهم أيضا بالقول لماذا لا ترضون بمسيحيين يرضى بهم المسلمون؟ ألن يؤدي ذلك الى رد مقابل من أوساط المسلمين يفرز الأكثر أصولية؟ ثم اذا اردتم فتح النقاش فلنبدأ بطائفة رئيس الدولة، والمسلمون هم الغالبية. وقس على هذه الحجج المفحمة والصحيحة في إطارها. ولكن الردود السجالية لا تقل طائفية عن الادعاءات بطبيعة الحال، ليس لأن أصحاب الادعاءات ولا لأن أصحاب الردود طائفيون، بل لأن بنية الخطاب الذي يتم السجال في إطاره تعكس وتصنع في الوقت ذاته بنية الواقع الطائفي. ولذلك لا يخطر حتى بالبال أن القول برئيس مسلم لأن المسلمين غالبية لا يقل طائفية من حيث المبدأ عن القول ان الرئيس يجب ان يكون مسيحياً. فتحديد الغالبية السياسية الانتخابية بالانتماء الطائفي كامتياز هو طائفية مثل تحديد الأقلية السياسية كأقلية طائفية وتحويل مجرد الانتماء اليها إلى امتياز. نفهم أن الرئيس يجب ان يكون مواطناً تتوفر فيه شروط معينة بالحد الأدنى، ولكن ما دخل الجماعة التي ولد فيها ولم يخترها، كما لم يخترها له الناخب، ما علاقتها بالموضوع، وكيف تتحول الى أحدى الكفاءات؟ وعلى هذا المنوال لماذا لا يكون الرئيس من عشيرة معينة أو إقليم معين كما هو حاصل في أنظمة أخرى ملكية وغير ملكية في المنطقة؟ والجواب هو لأن البلد يقوم على التقسيم الطائفي. وفي هذه الحال حتى إذا اعتمدت غالبية حرة من دون ضبط دستوري لحقوق الأقلية الطائفية فالميل سيكون الى حرمان الأقلية الطائفية، وستكون الغالبية الانتخابية التي ستتشكل بخيار الناخب الذي يبدو حراً غير مقيد هي ذاتها الغالبية الطائفية. هذه الإجابة تصلح للتكرار حتى تعطيل الديموقراطية الى الأبد، وتسمح للنظام الطائفي بأن يعيد انتاج ذاته. توجد طوائف في ديموقراطيات عديدة من دون أن يقوم البلد على التقسيم الطائفي، فماذا يعني الادعاء ان البلد يقوم على التقسيم الطائفي؟ إنه يعني أن العلاقة بين المواطن والدولة لا تشكل أساساً كافياً للحقوق، كما أن اساس التعددية هو ليس حرية خيار المواطن بين برامج سياسية واجتماعية مقترحة عليه تمثلها أحزاب تخوض الانتخابات، بل العلاقة هي ذاتها الانتماء لطائفة تتوسط بينها وبين الدولة والطوائف الأخرى قيادة طائفية. وإذا كان النظام يقوم على تمثيل لطوائف وليس لمواطنين تسود النزعة أيضاً لكي يمثلها الشخص أو البرنامج أو الشعار الأكثر طائفية. كما تسود علاقة دجل وتملق بين الطائفي العلماني وبين رجال الدين من طائفته الذين لا يمكنه الاستغناء عنهم، ويتحولون الى معبئِّين أساسيين في فترات الأزمات، أي عندما تحتاج العصبيات الطائفية الى الرموز الدينية بكثافة. الطائفية نوع متخلف من سياسات الهوية تفترض أنها لا تشكل إحدى هويات الانسان، بل هويته الأبرز وهي أيضا هويته السياسية التي تحكم العلاقات مع ابناء ملته وأبناء الملل الأخرى. وفي حالة رفض الانسان لهذه الهوية التي لم يخترها كهوية سياسية او ثقافية له تجمعه رغماً عنه بأفراد لا شيء قيمياً يجمعه بهم، يتم فرضها عليه إما لأن النظام الحقوقي لا يعترف به كياناً فردياً مواطنياً بلا طائفة، أو لأن أبناء طائفته والطوائف الاخرى يفرضون عليه هذه الهوية كما يفرضون عليه من يتحدث باسمها. وبالمجمل فإن هذه الهوية لا تنجب من يتحدث باسمها، بل يصنعها اولئك الذين يتحدثون باسمها، وذلك لكي يتحدثوا باسمها أي يحولونها الى رأس مالهم السياسي. علينا أن نتذكر أن الهوية، أي هوية، تركب وتصنع ويعاد انتاجها من عناصر قائمة في الواقع تمنح معنى غير معناها المولود. وكما أن حركات التحرر الوطني تنتج مما هو قائم هوية وطنية، كذلك تنتج القيادات والحركات الطائفية هوية طائفية. تستفيد القيادات الطائفية من النظام الطائفي الذي قد يصل درجة الحرب الأهلية، ولكن الفائدة تتجلى في استعدادها ايضاً للتحالف في ما بينها ضد أي تهديد لهذا النظام، من نوع المواطنة والديموقراطية القائمة على حرية الاختيار من دون هوية سياسية تفرض بالولادة. فهي تعرف بعضها بعضاً وتأْلَف بعضها بعضاً، وتعرف نظام المحاصصة وحدوده وقواعد اللعبة التي يؤدي الاخلال بها أو محاولة تغييرها الى الخصومة والاحتراب. إنها مستعدة للتحالف للدفاع عن كل هذا ضد من لا يعترفون بقواعد اللعبة هذه، او يريدون استبدالها بقواعد جديدة. والمصالحة، وحتى التآخي بين الطوائف، مثل الحرب الأهلية يقومان على نفس النظام، أي يقومان على اعتماد الهوية الطائفية والمتحدثين باسمها الذين يعلنون الحرب كما يعلنون المصالحة والتآخي، كأن الافراد هم مجرد اتباع لهذه الهوية وعصبياتها تنتقل بهم من غضب الى ارتياح ومن حقد إلى مصالحة من دون المرور بعلاقة بين أفراد مواطنين يصنعون خياراتهم التي تجمعهم مع المواطنين الآخرين بغض النظر عن انتماءاتهم المولودة بالرأي والمصلحة والفكر، وفي الأهم من هذا كله، أي في الأخلاق والقيم المشتركة التي تميزهم عن مواطنين آخرين. لا شك ان المصالحة والمحاصصة أفضل من الحرب، ولكن يخطئ من يكتفي بهذه المفاضلة. فالحرب هي الاستثناء وغالباً ما أسست المحاصصة بين قيادات الطوائف للحرب بين الطوائف، ويخطؤ أيضا من يعتقد أن التآخي بين الطوائف هو تجاوز للطائفية. يفترض الدفاع عن المقاومة وطبيعة المرحلة المقبلة تجاوز ربط المقاومة بطائفة. والتجاوز لا يعني التعاقد مع قيادات الطوائف الاخرى، فهذا ليس تعاقدا سياسيا كما يظهر تركيب القوائم، بل"فزعة"الطوائف لبعضها البعض خشية أن تؤدي الهزة التي يمر بها البلد الى الإطاحة بنظام الطائف الطائفي. وكانت مؤخرا فرصة للمقاومة لاستكشاف حلفائها السياسين من بين مواطنين آخريت يتجاوزون اعتبارهم مجرد أبناء طوائف اخرى، وهم كثر، ومن ابناء الطائفة الشيعية ذاتها ممن لا يعرفون أنفسهم طائفياً. ولا اعتقد أن فهم أهمية هذه المهمة قد فات قيادة المقاومة. هل يعقل انه فاتهم التشاور مع الحزب الشيوعي اللبناني حول مرشح من قبله على قائمتهم، هل يعقل انه فاتهم ادراج قيادات ديموقراطية جنوبية وغير جنوبية لا تحدد نفسها ولا تعرف نفسها طائفياً بل ديموقراطياً ويسارياً مثلاً؟ لماذا لم يحصل ذلك إذا؟ نقول ذلك أولاً: لأن بناء جبهة مقاومة حقيقية هو ضرورة حياتية ولا تحتاج تلبيتها الى جهد كبير فعناصرها قائمة. ولا يجوز أن تبقى المقاومة تحت رحمة قرار ليس لها، لأن القرار على المستوى الوطني يبدو في يد قيادات أخرى تحترم المقاومة وتحترم إرادتها في"المناطق الشيعية"، أي كممثلة لطائفة، وليس لديها ما يقال حول مرشحين من أبناء طوائف أخرى. في حين تبدو القيادات الطائفية الأخرى صاحبة قرار في كافة"المناطق غير الشيعية". ونقول ذلك ثانياً، لأنها فرصة القوى المناهضة للتدخل الاميركي الامبراطوري الطابع في المنطقة أن تطرح ذاتها كقوى أكثر ديموقراطية من أهداف وممارسات التدخل بتمسكها بالمواطنة وبالتعددية التي تقوم على المواطنة وليس على الانتماء الطائفي، وذلك خلافاً للنموذج الذي تريده أميركا للعراق ولبنان والمنطقة العربية برمتها. ولا يمكن منع التدخل الأميركي الذي يتحجج بنشر الديموقراطية ضد مناهضي السياسة الأميركية في المنطقة إلا بتبني خطاب أكثر ديموقراطية من خطاب حلفاء أمريكا. وإذا لم يكن بالإمكان منع التدخل، سياسياً كان أم عسكرياً، فلن يكون التصدي له ممكناً إلا إذا اعتبر التصدي خياراً وطنياً شاملاً للوطنيين كافة. بعدما تم الانسحاب السوري من لبنان من يلبي مطالب الشباب اللبناني الذي طالب بمواطنة تلغي الطائفية السياسية، وتباهى به السياسيون كحركة معارضة للوجود السوري من دون مضامينه الاخرى إلى ان شكلوا تحالفاً لدرء خطرها؟ من يلبي هذه الطموحات؟ سؤال يجب ألا تعفي المقاومة نفسها منه فالمواطنة الحرة هي هدف عملية تحرير الوطن. * كاتب عربي.