الكتاب: "أمل" و"حزب الله" في حلبة المجابهات المحلية والاقليمية. الكاتب: توفيق المديني. الناشر: دار الأهالي - دمشق 1999. الدراسة التي يقدمها توفيق المديني تحاول قراءة التحدي الديني المتلون بصورة طبيعية في التركيبة الطائفية. وتوضح المقدمة ان تبلور التحدي الشيعي الوطني في لبنان جاء ضمن سياقين: الأول الحالة التاريخية للطائفة التي عاشت حالة اقصاء عن السلطة، وهذا ما جعلها تشعر دائماً بالحرمان من المشاركة السياسية، والثاني الصحوة الاسلامية المترافقة مع اندلاع الثورة الاسلامية في ايران، محاولة تقديم شكل جديد للفكر السياسي الاسلامي. وعملياً فإن التاريخ السياسي الحديث للبنان يؤكد ان الشيعة يحتلون المساحة الأوسع في رقعة الحرمان الاجتماعي، ما أدى الى انخراطهم في الحركات اليسارية والقومية التي طالبت بتغيير النظام الاقتصادي - الاجتماعي، وكانت وسيلة لاخراج الشيعة والسنة المحرومين من البؤس. لكن هذه المطالب "الطبقية" التي توافقت مع الاحتياجات الطائفية، انتقلت تدريجاً منذ 1959 الى موقع آخر هو المعارضة الاسلامية بزعامة موسى الصدر. والنقلة الثانية التي عاشها الشيعة في لبنان تبلورت مع انتصار الثورة الاسلامية في ايران، واعتبارها نموذجاً يحتذى به، وأدى هذا التطور مع تسارع الاحداث السياسية منذ الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 الى ظهور مقاومة شيعية راديكالية، عبر عنها "حزب الله" بانفصال التيار الديني في حركة "أمل" عن التيار الرئيسي السياسي فيها، فبينما اكد "حزب الله" منذ البداية على دور رجال الدين في مشروعه السياسي، اختارت حركة "أمل" السياسة والسياسي اطاراً وتعريفاً، وأبقت على الدين في حدود الثقافة والخلفية. ينقلنا الفصل الأول من الكتاب الى الجذور التاريخية للشيعة في لبنان، فيعتبر الباحث ان وجودهم يعود الى بداية الفتح الاسلامي عندما تكونت النواة الأولى للشيعة من قبائل عربية ذات اصل يمني، وكانت قبيلة "بني عملة" الأكبر بينهم وأعطت اسمها الى جبل عامل في لبنان الجنوبي، وخلال الدولة الفاطمية نمت الطائفة الشيعية نتيجة سيطرة الفاطميين على اجزاء من سورية ولبنان، واتسع امتدادها الجغرافي ليصل الى الشوف ووادي التيم، فشكلت ثلاث امارات شيعية هي: إمارة بني مرداس 1021 - 1028، وإمارة ابو طالب بني عمر 1070 - 1108، وإمارة عين الدولة ابن أبي عقيل 1085 - 1124، وعملياً فان الوجود الشيعي كان متواصلاً على رغم اختلاف العهود وعلى رغم الانحسار الجغرافي لهم خلال فترات الاضطهاد، ففي حكم المماليك على سبيل المثال شهدت الطائفة مذابح متكررة جعلت شيعة منطقتي عكار وكسروان يتحولون الى السنة بأعداد كبيرة، كما هبت انتفاضات لدى شيعة جبل عامل ضد حملة ابراهيم باشا بين 1788 و1840، وبعد مذابح 1860 شهدت قوانين الاصلاح العثماني اول اعتراف ضمني بالشخصية القانونية للطائفة الشيعية، فكان لهم مقعد واحد ضمن المجلس التمثيلي للبنان الذي اسس النظام الطائفي، وبهذا التكوين اصبح من الصعب فصل السياسة عن الهوية الطائفية وهو امر لا يزال فاعلاً حتى اليوم. وفي التطورات المعاصرة يرى الباحث ان الاتفاقات التي اعقبت الحرب العالمية الأولى خيبت آمال الطائفة الشيعية في لبنان، فالكيان اللبناني حمل مشروعاً سياسياً يعطي للمسيحية المارونية مجالاً للتعبير المستقل عن ذاتها في القرن العشرين، والشيعة الذين كانوا مؤيدين للوحدة القومية مع سورية اثناء الحكم الفيصلي، عارضوا وضعهم تحت وصاية الانتداب الفرنسي باعتباره قوة اجنبية تشكل خطراً على الهوية الثقافية، ولبنان الذي عرف الحياة النيابية منذ 1920، مروراً بعهد الاستقلال وميثاق 1943، وحتى اندلاع الحرب الأهلية 1975، فإن سمة التمثيل بين المرشحين كانت على اساس حصص الطوائف وهذا يعني ان المقاعد حددت هويتها الطائفية سلفاً، وعلى رغم التجديد في الدورات الانتخابية لمجلس النواب بين 1920 و1970، الا ان القوى الديموقراطية الممثلة للفئات الوسطى الحديثة لم تستطع خرق أسوار المجلس الذي هيمنت عليه العائلات الاقطاعية، وهذا ادى الى انفجار الوضع اكثر من مرة كان اكثرها خطورة الحرب الأهلية، لكن تفجر التناقضات زاد تفاقم المشكلة الطائفية في لبنان، وأصبح التناقض الطائفي هو التناقض الرئيسي المهيمن على ساحة التفاعلات اللبنانية، وكان لهذا الوضع تأثيره في الطائفة الشيعية التي انتقل مطلبها "الطبقي" المتطابق مع مطلب ذي طابع طائفي الى راية الاسلام مع موسى الصدر. يطرح الفصل الثاني مسألة انبعاث "الشيعية السياسية"، ويربطها من حيث المشروعية بتكوين الدولة في لبنان، ففي ظل الدولة اللبنانية المتسمة بهيمنة عصبية طائفية، تصبح "الطائفية" بالمعنى السياسي للكلمة هي لغة وأساس الصراع، نظراً الى ان لبنان بلد التوازنات الطائفية، وبلد تتشكل فيه القضايا والقوى في الاطار الطائفي، فهناك "مشروعية" واقعية يستمدها الطرح الطائفي الشيعي من تركيبة ايديولوجية الدولة، ويستعرض الباحث المراحل المعاصرة التي مرت بها الطائفة الشيعية ابتداء من 1959 عندما وصل موسى الصدر الى لبنان، وربما كان الصدر يحمل مشروعاً دينياً لكنه في مسلكه السياسي أرغمه نظام طائفي صلب على الانخراط في اللعبة المحددة سابقاً لأمثاله، فأصبح زعيماً طائفياً يعمل من اجل المصالح المتعلقة بطائفته قبل الحرب الأهلية وأثناءها، وهو بدأ نشاطه عبر تأسيس جمعيات اجتماعية وثقافية وخيرية. وأنشأ المجلس الشيعي الأعلى الذي ولد في 18 ايار مايو 1969، بعدما وضع المجلس النيابي قانون تنظيم شؤون الطائفة الاسلامية الشيعية، وفي 22 حزيران يونيو 1973 انشأ حركة المحرومين التي أراد لها ان تصارع سلمياً من اجل تحصيل المطالب، لكن الظروف السياسية كانت تدفع هذا التنظيم الى مواجهة التحديات، خصوصاً مع اندلاع الحرب الأهلية، وشكلت ظاهرة موسى الصدر في النصف الأول من السبعينات اتجاهاً سياسياً شعبياً في الطائفة الشيعية. لم يعلن الصدر عن وجود تنظيم سياسي محدد خاص به وبالطائفة الا في اواخر آذار مارس 1975، اي قبل اندلاع الحرب الأهلية بأسبوعين تقريباً، ثم اعترف بالذراع العسكرية لحركة المحرومين بعد انفجار بعلبك الذي راح ضحيته 43 شاباً من الحركة، وهكذا اعلن في السادس من تموز يوليو 1975 عن ولادة تنظيم أفواج المقاومة اللبنانية "أمل"، لكن هذا التنظيم بقي خارج الحركة الوطنية اللبنانية على رغم الحوار المستمر معها ومع الفصائل الفلسطينية. ويشرح الباحث عبر الفصل الثالث طبيعة الانفصال بين "أمل" والفصائل الفلسطينية، خصوصاً مع دخول قوات الردع العربية اذ رحب موسى الصدر بهذا التدخل، كما يستعرض كافة التطورات التي أدت الى التوتر بين "أمل" ومنظمة التحرير، مركزاً على الموقع الذي اختطته الحركة لنفسها داخل الطائفة الشيعية، وبحثها عن تحقيق الأمن وسط ظهور الميليشيات في الجنوب اللبناني، وتعرض سكانه بشكل دائم للقصف الاسرائيلي ما أدى الى حملة تهجير واسعة داخل ابناء الطائفة. ويوضح الفصل الرابع مواقف حركة "أمل" من التكوين اللبناني، فهي اختارت التشيع المدني المفتوح، فليس بالضرورة ان تتطابق فيه السياسة مع العقيدة الشيعية، وهي سارت في بلورة وعي يعكس نزوعاً الى الانسجام مع الكيان اللبناني كوطن نهائي، فهي تدافع عن لبنان انطلاقاً من رؤيتها السياسية، ومع اعلانها الالتزام بتحرر فلسطين لكنها كانت تنظر الى الوجود المسلح في الجنوب بشكل يحمل الكثير من الشك. ويدخل الفصل الخامس في الفروقات الفقهية بين نظرية ولاية الفقيه التي تتبناها الثورة الاسلامية في ايران، ونظرية ولاية الأمة على نفسها التي طرحها الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهو يعود الى الجذور التاريخية لهاتين النظريتين مقدماً صورة متكاملة عن تطورهما، وهذه الفروقات تشكل اساساً نظرياً لظهور "حزب الله" كتنظيم جديد داخل الطائفة. ويوضح الفصل السادس طبيعة نشوء هذا الحزب الذي تمتد جذوره الى قيام حزب الدعوة الاسلامية في العراق سنة 1959، لكن الشكل الحالي له بدأ يتبلور مع الغزو الاسرائيلي للبنان سنة 1982 وبقي سرياً حتى 1984، وقيادته كانت تعين من قبل آية الله الخميني مباشرة وسميت مجلس الشورى، وهو يتألف من 12 شخصاً اكثرهم من رجال الدين والآخرون عسكريون. ويوضح الفصل السادس التفاوت بينه وبين "أمل" خصوصاً في موضوع الهوية الاسلامية، والتزام "حزب الله" بخط الثورة الاسلامية في ايران، لكن المتغيرات الدولية اثرت بشكل او بآخر في مواقف الحزب منذ 1991. ويوضح الفصل السابع طبيعة التغيرات التي جعلت "حزب الله" يدخل في "اللبننة" ويشارك في الانتخابات، وأصبح خطابه السياسي يركز على الاصلاحات في الدولة وإلغاء الطائفية السياسية، لكنه بقي رافضاً موضوع الاعتراف بإسرائيل وهو حصل على شرعية من الدولة لممارسة المقاومة في الجنوب المحتل. ينهي الباحث كتابه بفصل تناول فيه علاقة الشيخ محمد حسين فضل الله ب"حزب الله"، مستعرضاً الروابط التي جعلت من هذا العلامة اسماً مهماً في تاريخ الحزب، خصوصاً مع ارتباط اسمه بالهجوم الذي تم على قوات المارينز في بيروت سنة 1983، وفي النهاية فإن الكتاب يقدم دراسة متكاملة عن "أمل" و"حزب الله" اضافة الى الظروف التي احاطت ببروزهما.