لعلها المرة الأولى تُمنح فيها البطولة لسوق مركزي حديث. لقد اعتدنا منذ السبعينات أن يشير الروائيون إلى"السوبر ماركت"مثلا في إطار هجائي لمتغيرات الانفتاح الاقتصادي، غير أن تعقيدات الحاضر تجاوزت تلك المتغيرات، وتجاوزها أيضا محمود الورداني في رواية"موسيقى المول"التي صدرت حديثاً في القاهرة عن دار ميريت، مضيفاً رؤية عميقة للحزن والحرمان العاطفي. نشعر منذ بداية الرواية بأن مستوى الحدث غير واقعي، فهناك إصرار على عدم تعيين وحدات الزمن، المكان العام، الشخصية، وإن تسرب أحياناً ما يفيد التعيين من خلال الوصف الدقيق للمدينة وتسمية الشخصية بيوسف سهوا في حوار عند منتصفها وآخر قرب النهاية. كانت الموسيقى إغراء كافياً كي يدخل يوسف إلى المول، للتسلية وتجربة شيء مختلف عن المعتاد. وفي الداخل يشاهد الواقع خلف"فاترينات"العرض، وكأنه مطروح للمشاهدة والشراء لا للمشاركة في صنعه. وتتسع المسافة الفاصلة بتفضيله الخيال وإدمان الأحلام والكوابيس معاً. يوجد لكل منعطف في متاهة"المول"مضمون اجتماعي يعكس ما تعتبره الشخصية فائضاً مستفزاً، فيتحول الإيقاع المسموع إلى إيقاع مشاهدة تستدعي تعليقات اجتماعية وذكريات وتذكيراً مستمراً بالغاية الأهم وهي تنفيذ قرار النقل وبدء العمل في المدينة. مدينة الورداني، الأثيرة في كل قصصه ورواياته، مختزلة هذه المرة في"المول"، وتبدو متاهته مجازاً لحالة نفسية/ ذهنية يعاني منها يوسف، الذي يتعلق وجوده في لحظة ما مع جماعة رمزية تعبر عن انشغالاته الأساسية: زوجة متزنة راعية، زوج قوي منظم، شاب يشبهه في شبابه، لواء جيش يمثل تجربته القاسية في حفر الباطن، وأجنبي ينوب عن شكل اهتمامه بلصوص البنوك والآثار. تمكنه هذه الجماعة من التعبير عن انفعالات مختلفة ومن خوض معركته الخاصة، للنجاة من ورطة عارضة والعودة إلى المسار الواقعي الذي يتضح من قوله:"هل يصبح كل هذا الكابوس مجرد ذكرى عندما أنجح في الخروج؟ هل أعود مرة أخرى إلى حياتي وأذهب إلى عملي وأحصل على مرتبي بحوافزه القليلة وأقرأ"ألف ليلة وليلة"وأحلم بامرأة أتزوجها بدلاً من هذا الدوران الذي لا ينتهي؟". الحلم المقابل لهذا الكابوس هو الاستقرار، في الانتظام في أي عمل، الزواج من أية امرأة، وقراءة"ألف ليلة وليلة"، التي تعني أن فاعلية الشخصية تنشط في الخيال، وأن حلمها البسيط يموه على رغبة محبطة في علاقات أكثر تعقّداً وإثارة. قد يبرر هذا هوسه المراهق بالنهود والأفخاذ، ثم قضاء الرغبة مع غير موضوعها، أو مع موضوعها في موقف غير مناسب، كما نرى في مشهدين من أقوى مشاهد الرواية وأجملها، عندما يتواصل جسدياً مع شخص"المانيكان"بعد إلقائه مباشرة في المخزن، ومع زوجة الشيخ مصطفى وهو حاضر بعد مقتل كريم، مجرد رجل وامرأة، أو صورة امرأة، في إطار شفاف منعزل عن حركة ما خارجه، والحسابات التي يفرضها هذا الخارج. هذا الإطار نفسه هو ما يحيط علاقة المرأة والرجل في"ألف ليلة وليلة"، سواء في الحكاية الكبرى أو بعض ما يتوالد عنها من حكايات، امرأة مسيطرة ذات سمات أمومية غالباً ورجل طفل يستسلم لقيادتها، على رغم عدم ثقته بها أو بنوعها كله. صورة الأم في"موسيقى المول"مركزية التأثير، فيوسف تزوج من عزة لأن أمه ماتت ولم يحتمل البيت من دون امرأة، علاقته بالجنس قبل الزواج انحصرت في تجارب مع مومسات، باعتبار المومس امرأة ناضجة وخبيرة في التعامل مع الأشكال المختلفة للمراهقة، انفصاله عن عزة لم يكن لاضطرابها النفسي بعد فقد طفليها مقدار ما كان لاضطراب صورتها كأم، أم له قبل أن تكون أماً لطفليها، وانجذابه للزوجة المنقبة حدث بعد أن كشف له الشيخ الجانب الأمومي في شخصيتها. وهناك أيضاً ملاحظته عن جمال الأم الحامل وطفلتها التي ساعدته على النهوض بعد عودته إلى المول، وأخيراً العلاقة الأمومية بينه وبين مؤسسة العمل، بطاعته التامة لها وحرصه على عدم إغضابها. لا أريد أن أفرض على الرواية أية تلميحات أسطورية، خصوصاً مع ملاحظة اقتران مركزية صورة الأم بالموت: موت الأم، موت الابنة الذي يأخذ أهمية تفوق موت الابن، الرجل المقتول في بيت عزة، وكريم المقتول في المشهد الحسي مع المنقبة. اقتران الموت بصورة الأم حل بارع لمشكلة اللاشعور، إذا سلمنا بوجودها، والأهم من ذلك أنه تعبير حساس عن الحاجة إلى ولادة/ انفصال عن رحم الماضي، وفاعلية متجددة توازن بين الواقع والحلم. فاعلية الشخصية في الرواية محدودة ومغلقة، فهي تنتهي كما بدأت، لم تغادر كابوسها، لم تفهم مبررات تقييد حريتها، لم تخطر لها مثلا فكرة الانتصار لنفسها برد الإهانة التي لحقتها، لم تفكر في إنقاذ الجماعة، بل قامت أخيراً بتأجيل محاولة إنقاذ الوطن المهدد، وهذا ما يجعل التلميحات السياسية غير مقنعة، ليس لأن سبب الاحتجاز غير معروف، والجهة التي تحتجز مجهولة، فحسب، بل لأن اهتمام يوسف بالسياسة مزيف، فنشاطه السياسي في الجامعة كان بتأثير من أصدقائه اليساريين، يقرأ الصحيفة اليسارية - أحياناً - بسبب حكاياتها المثيرة عن لصوص المال العام، وعلاقته بجماعة المتدينين في المسجد بعد وفاة أمه انقطعت بمجرد أن بدأوا الكلام في السياسة. كل ما يتعلق بهذا الجانب يبدو مقحماً على مقومات الشخصية التي وضعها الروائي، ولا معنى لها سوى تأكيد سمات ضعفها وعدم فاعليتها، وهو التأكيد نفسه الذي يقوم به إقحام التلميحات المسيحية من خلال تكرار جملة"احمل قفصك واتبعني"على رأس فقرات الحلم الذي يتخلل الكابوس. فليس هناك محل في السياق لما يحيط برمز الصليب من معاني العذاب النبيل والضحية والفداء. أدى التذكير المستمر بأن الحدث يقع على مستوى ما وراء الواقع، إلى نشوء مفارقة مهددة لمنطق البناء الروائي. فالأحداث في"موسيقى المول"تُنقل باعتبارها خبرة حقيقية تعيشها الشخصية لحظة بلحظة، ولأن هذه الخبرة تأخذ شكل الكابوس وتتعامل معها الشخصية على أنها كابوس فالمنطق الذي يقودها غير واقعي، لكن القوانين التي تحكم هذا المنطق واقعية، والخضوع لها يعني قبولها وقبول الواقع، في حين أن المستوى اللاواقعي يفترض رفضها وإدانة الواقع. هناك حس عبثي واضح يرافق الحضور القوي للموت، إدمان الشخصية الأحلام والكوابيس، أشكال العرض في"المول"، الاحتفالات التي تعبر عن الفوضى والضجر، إضافة إلى التأرجح بين احتمالات متعددة لأحداث غير مُشبعة، حين تقع النتائج بلا أسباب أو تقع من غير أسبابها المُفترضة.