تتوازع هذه الروايات الثلاث، وهي تصف عالماً عربياً، تشاؤماً واسعاً، تضع في استهلالها ما يحيل عليه، وتعلن نهاياتها عن خراب عنيد، كأن الرواية، بصيغة الجمع، تجربة في الكتابة ورثاء لا بلاغة فيه. تُفتتح الرواية الأولى بسطور من"أشجان مصري"، وتستدعي الثانية أمثولة مصرية تأمر المتماوت بالتمرد على موته، وتُستهل الثالثة بكلمات عن روح مغتربة، لاذت بالمجهول وارتاحت الى الدموع. روايات عن عالم تتساقط أعضاؤه ولا يفتقدها، جاعلاً"السرد الرثائي"عملاً خانقاً الى حدود الإعاقة. ومع ان الروايات الثلاث مصرية، فقد اختارت الأولى منها الحديث عن بلاد"السيد الرئيس"، الذي ملأت صوره السماء والأرض، الى ان مزقتها طائرات قوى خارجية. الرواية الأولى كتبتها نعمات البحيري وعنوانها"أشجار قليلة عند المنحنى"، تتحدث عن قمع متعدّد الطبقات، يلفّ البشر جميعاً ويتراءى شفافاً في مآل"المرأة"، التي يسقط عليها عنف الذكورة وعنف متوارث له شكل البداهة. تبدأ الرواية بهوامش القهر، بما يوحي به ويكشف عن وجهه، الى ان تصل الى قراره في رحلة مزدوجة. رحلة من مصر الى بلد عربي، تكشف عن رخاوة العروبة، ورحلة داخل الفضاء القمعي الشاسع، الذي تجثم عليه، قاسيةً مرعبةً، صورة ورقية هي"صورة السيد الرئيس"التي تنوب عن صاحبها، وتوزع أوامره بنبرة باترة. رحلة الى الجحيم تعطي المسافر ولادة بيولوجية جديدة يخالطها الموت، فيسأل عن النجاة وينسى معنى الأمل وهو ما تعلن عنه سطور الرواية الأخيرة. ربما يكون عمل نعمات البحيري من الروايات العربية القليلة، التي نفذت الى جوهر النظام التسلّطي، حيث المتسلّط الكلّي، الذي تنوب عنه صوره الكثيرة، يلتهم كل ما خارجه، موزّعاً المجتمع الى فئتين: فئة أولى تحاكيه وتقلّده، كما لو كانت صورة من صوره، وفئة ترفض المحاكاة وتفترسها الصور وتنتهي الى الجحيم. بيد أن الفارق بين الفئتين لا وجود له، ذلك ان المحاكاة المفروضة تعدم البشر وتنهي خصوصياتهم، مثلما تعدم السجون وأدوات التعذيب هؤلاء الذين أرادوا أن يكونوا بشراً أسوياء. وإذا كان القمع، بالمعنى الرمزي، يتمثّل في الصورة الورقية التي لها"فعل الرئيس الأعلى"، فإنه يتكشّف، بالمعنى الواقعي، في مصائر الحب والعشق والرغبة التي تصبح شأناً من شؤون الدولة التسلّطية. بهذا المعنى، يعدم المستبد المجتمع كلّه، ويترك خارجه أطلالاً بشرية، أو ما هو قريب من الأطلال. توسّلت الروائية، وهي ترى الى المستبد في آثاره، دلالات اللون والرائحة وتواتر الليل والنهار وشيئاً من الشعر والمجازات الحزينة، كي ترصد صوراً متسلّطة حرقت شعبها، قبل أن تحرق الطرفين نار غزيرة، تعلن ان المستبدين يرثون الموت ويورِّثونه، وان المستبد بهم تطاردهم صور الرئيس، بعد سقوطه. ليست"غرفة ترى النيل"رواية عزت القمحاوي الأولى، كان قبلها كتب رواية سعيدة عنوانها"مدينة اللذّة"قوامها سخرية لاذعة عالجت مواضيع فاحشة بلغة مترصّنة طافحة بالهيبة والوقار، أعقبها عمل قريب من الفرادة عنوانه:"الأيك... في المباهج والأحزان"، رصد تحولات"الأغنياء الجدد"الجسدية، حيث الثروة المختلسة تضع العنق في غير موضعها وتصيّر الوجه كومة من لزوجة ينقصها القوام. في روايته الجديدة، التي تتمتع بنثر مصقول شديد الاقتصاد، يطرد الروائي"المباهج"بعيداً أو يكتفي بأحزان مديدة، ترثي إنساناً وجيلاً نبيلاً وأمة تدخل طور الاحتضار ولا تدري. تتأمل الرواية، التي تبدو سكونية شحيحة الفعل الروائي، الأيام الأخيرة من حياة مريض بالسرطان يشاركه احتضاره، في شكل مجازي، انسان غريب احتفظ بالقيم في زمن يتطيّر منها. ليست الرواية إلا الخط النثري الدافئ الواصل بين صرخة المرض والمثوى الأخير، حكاية منتهية منذ البداية، فالمرض الخبيث لا يقبل إلاّ باحتمال له شكل اليقين. مع ذلك، فإن السطح الروائي لا يصرّح بالمعنى، في شكل نزيه، ذلك ان وراء السكون الظاهري عوالم مملوءة بالفعل والحركة. فالسكون الظاهري، الذي يغلّف المحتضر، أو المحتضرين، في حركته اليومية، يحوّله عالم المريض الداخلي الى حركة صاخبة، فوراء الذكريات القريبة ذكريات بعيدة، وخلف الجمل القصيرة ايحاءات لاهية باكية ساخرة، وخلف المريض، الذي يعايش المرض، أصحاء مرضى، أو مرضى يتوهمون الصحة وبهاء العافية، ووراء الجميع شعب يحتضر ويتأهب للزفاف. وراء كل حكاية ساكنة أخرى مملوءة بالحركة، ووراء الحكاية الصغيرة الممتدة من فراش الذكريات الى الصمت الأخير حكاية كبرى متعددة الوجوه متنوعة الشحوب، هي حكاية الشعب المصري، الذي يقف متداعياً خارج المستشفى المميت. بهذا المعنى يكون المحتضر آخر الأصحاء، وتكون الكتابة المدافعة عنه والملتزمة قضيته، هي الصوت المعافى المعلّق في الهواء وقاعات الانتظار. ولعل جدل الرواية الداخلي، إن صحّ القول، هو الذي جعل الروائي يتوقف أمام وقائع يومية صغيرة دالة، ودفع نثره الى تلميح مقنع لا الى تصريح لا تمكن السيطرة عليه. فقد وضع عزت القمحاوي رواية عن شعب يموت ولا يموت، مستبعداً يقين الموت ويقين الحياة في آن واحد، مكتفياً باحتمال ينوس بين الطرفين، أملى عليه لغة محسوبة ووقائع فيها من الإيحاء الملتبس أكثر من غيره، كما لو كان يسأل ملتاعاً ولا ينتهي الى جواب. والموضوع كلّه في مجاز المرض الواسع الذي عارضه الروائي بعلاقة روائية تؤكد النثر الفني خياراً في مواجهة المرض والمجتمعات المريضة وتضع في الحقيقة الفنية احتمالاً هو قوامها وجوهرها ومبرّر وجودها. وإذا كانت"مدينة اللذة"استولدت المعنى من تناقض اللغة مع موضوعها، فإن معنى"غرفة ترى النيل"يصدر عن تناقض خصيب آخر، يرى في فضاء الالتباس درباً الى المعرفة والوضوح. مع هذا، فإنّ في الرواية سؤالاً يطرح ذاته: ما الذي دفع بالروائي الى اضافات، في نهاية الرواية، لا تضيف الى القول الروائي الأخير شيئاً كثيراً؟ ربما أراد تخفيف وحشة العالم، ناسياً أنه استهل روايته بمأثور فرعوني يقول:"انهض أنك لست بميت"، وهو ما يدلل عليه قلم مصري يستنهض غيره من المصريين. الرواية الثالثة هي:"ملاعب مفتوحة"لكاتب يتأمّل وقائع خمسة وثلاثين عاماً، عاشها وشارك فيها، تبدأ بمنتصف العهد الناصري وتنتهي بالاحتلال الأميركي للعراق. تبرر رواية"محمد هاشم"الإشارة اليها بسببين: فهي أولاً رواية الكاتب الأولى، وهي رواية ناشر يحتضن، منذ عقد من الزمن تقريباً، أعمال جيل جديد من الروائيين، شباباً أو يتهيأ شبابهم للرحيل. ربما تكون هذه الرواية، مع شيء من التحوّط والحذر، صورة عن روايات الجيل الروائي المصري الأخير، الذي أعقب جيل ما بعد - محفوظ. فإذا كان جيل ما بعد - محفوظ وطّد الرواية المصرية وفتح لها آفاقاً جديدة، الى ان استوت ظاهرة مزهرة في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، فإنّ جيل التسعينات، ما عدا استثناءات قليلة، دخل في طريق ضيّق ملتبس الآفاق. فمعظم هذه الروايات تشكو تعب الحياة، الى حدود الفجيعة والأنين، وتجعل من التعب عنواناً وراية لها. فهي تحاول أن تقول كل شيء دفعة واحدة، بلا تفصيل ولا شخصيات واضحة التفاصيل، وبلا عمل في اللغة ينقض، فنياً، ما يشكو منه ونحتج عليه، كما لو كانت انعكاساً بسيطاً لما ترفضه، رواية سريعة متعبة، تشهد سريعاً على تعب الحياة وصعوبة الكتابة. انطلاقاً من هذا الفضاء المتعب، الذي لا تتساوى فيه بداهة جميع الأسماء، يأخذ"محمد هاشم"بفكرة أقرب الى المجاز، أو بمجاز أقرب الى الفكرة، ناظراً الى ثلاثة عقود من الزمن وأكثر، تحيل على أحلام ناصرية وكوابيس ساداتيه وسديم لاحق، ويشهد على الحنين الأسيان والتداعي النشيط، أو ينطوي على الأمرين معاً. والفكرة - المجاز هي"الملاعب المفتوحة"التي تدخلها قطعان بشرية تائهة تلعب مدمّرة قواعد اللعب، وتتبارى وهي تدوس عمياء أصول التلاقي والتنافس. ولعل هذا المجاز، الذي يبدو شهادة نزيهة على تداعٍ يلف الواقع والبشر، هو الذي يضع القارئ أمام ركام واسع من الحكايات والبشر، إذ كل حكاية تحيل على غيرها قبل أن تنتهي، وإذ الشخصيات مرايا كثيرة فاجأتها الحجارة أو أصابتها شظايا الملاعب التي دمّرها المتلاعبون."ملاعب مفتوحة"رواية - فكرة، ربما، توسّلت الشكل الروائي أداة احتجاج ورفض وغضب، كما لو كانت الرواية شهادة ذاتية على معيش متواتر الأزمنة لا يمكن تحمّله، أو شهادة شخصية اتخذت من الرواية شكلاً لها. والسؤال الذي تطرحه الرواية، التي حاولت أن تواجه مجاز الملعب المتداعي بمجاز الذاكرة الصلبة، هو الآتي: ما هو شكل العلاقة بين الواقعي والمتخيّل في العمل الروائي؟ وما معنى الاستقلال الذاتي للعلاقات الواقعية والمتخيّلة في نص روائي يكتسح فيه صوت الكاتب الأصوات جميعاً؟ كان الفلسطينيون، في بداية ظهور الكفاح المسلح، قبل أربعة عقود تقريباً، يكتبون"رواية تقول كل شيء دفعة واحدة"، بدءاً من زمن الكنعانيين، وصولاً الى فلسطين مورقة مستعادة. لم يكونوا آنذاك مشغولين بالرواية، بل كانوا مشغولين بفلسطين المرغوبة، التي تختزل الرواية الى طلقة من طلقات الغضب الفلسطيني. ربما كان في الرواية المصرية في العقد الأخير، على رغم الفارق الشاسع بين مصر وفلسطين، ما يذكّر بتلك الرواية التي تقول غاضبة كل شيء دفعة واحدة، من دون ان تتوقف أمام التفاصيل الإنسانية، التي تحوّل الكتابة الى رواية.