كلها أسابيع قليلة وتكون مضت أربع سنوات على أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. أحداث لم تفاجئ في حينها أميركا فقط وانما فاجأت العالم كله. وقتها تضامن العالم كله مع الشعب الأميركي، فلم تكن هناك تحت أي حجة أو عذر امكانية لتفسير ما جرى سوى أنه ارهاب أعمى وقتل متوحش لمدنيين أبرياء. العالم كله في حينها تعاطف مع الشعب الأميركي، وصحف مهمة في أوروبا الغربية كان عنوان مقالها الافتتاحى هو"كلنا الآن أميركا"، وحلف شمال الأطلسي قرر لأول مرة القفز على المادة الخامسة من ميثاقه بما يجعل ما جرى عدواناً على الدول الأعضاء جميعاً. وعلى رغم ثغرات عدة تجاوب العالم في حينها مع الطرح الرسمي الأميركي بأن ما جرى كان من تدبير وتخطيط أسامة بن لادن وحركة"طالبان"الحاكمة في أفغانستان بما جعل العالم يتفهم حتى لو لم يقتنع تماماً بالمعطيات المطروحة أميركياً لغزو أفغانستان واسقاط"طالبان"واعلان الرئيس الأميركي أن أسامة بن لادن"مطلوب حياً أو ميتاً"... الخ. أميركا أعلنت أيضاً حرباً عالمية ضد الارهاب وزادت عليها أنه"من الآن فصاعداً من ليس معنا... فهو ضدنا". كان هذا تعسفاً غير مسبوق ومصادرة مسبقة لأي تحفظات أو رؤية مختلفة. في هذا الجانب فقط علينا الآن أن نرى ما انتهت اليه أربع سنوات من تلك الحرب العالمية ضد الارهاب. فبدل أن ينحسر الارهاب فإنه توسع وازداد شراسة واستمراراً في القتل العشوائي للمدنيين الآمنين. وسواء بدأنا بما جرى في أندونيسيا أو في موسكو وبيسلان أو في مدريد واسطنبول والرياض وطابا... أو انتهينا الى ما جرى في لندن وشرم الشيخ... تواجهنا في كل مرة الحقيقة المفجعة: ان قتل المدنيين الأبرياء أصبح هدفاً في حد ذاته. في كل المواجهات العنيفة هناك أبرياء يسقطون كنتيجة جانبية. لكن في حالاتنا هذه تحديداً أصبح قتل المدنيين الأبرياء هو الهدف ولا شيء آخر. وبين وقت وآخر، بالصوت والصورة، مباشرة أو بإعلانات مجهولة المصدر، كان يقال لنا ان من يمارس هذا الارهاب مسلمون وانهم يفعلون ذلك دفاعاً عن الاسلام. في الواقع انه مرة بعد مرة بعد مرة كان هذا يساعد المتلهفين الى وضع الاسلام في قفص الاتهام وتحويل المسلمين جميعاً الى مذنبين في ما لم يقترفوه بحجة تبني مسلمين لم ينتخبهم أحد لما جرى. بل ان السعودية ذاتها كانت أسقطت جنسيتها عن أسامة بن لادن قبل أحداث 11/ 9/2001 بوقت طويل. ولم يدقق أحد في أي وقت في مدى مصداقية تلك الشرائط المسجلة صوتاً وصورة. والأكثر غرابة أنها كانت بالعكس تخدم وتقوي بالضبط الاتهامات التي تروجها الادارة الأميركية واليمين المتطرف في أميركا ضد الاسلام والمسلمين. الرئيس جورج بوش كان يعطي بين وقت وآخر لفتة هنا وايماءة هناك لعدم أخذ المسلمين جميعاً بجريرة بعضهم. لكن في أرض الواقع توالت التشريعات الاستثنائية والتوقيفات والملاحقات والاعتقالات والمراقبات ضد المسلمين داخل أميركا وخارجها، فيما بدا أنه عقوبات جماعية لا يبررها عقل أو منطق. وفي كل مرة ترتفع فيها أصوات معارضة داخل أميركا ذاتها كان يتم اخراسها بوسيلتين، أولاً: المزيد والمزيد من الأشرطة والانذارات بصوت أسامة بن لادن وصورته الذى قسم العالم الى فسطاطين بما كان يعطي مصداقية اضافية لمقولة جورج بوش من البداية:"من ليس معنا فهو ضدنا". ثانياً: أصبحت الحكومة الأميركية تتخذ المزيد والمزيد من الاجراءات ضد الحريات المدنية لمواطنيها بما يوسع تماماً من سلطاتها الاستثنائية التي لخصها القانون المسمى"القانون الوطني". وفي الشهر الماضي فشلت كل محاولة في الكونغرس للتخفيف من بنود ذلك القانون وجرى تمديد العمل به ومن ضمنه امتداد الرقابة الحكومية حتى الى ما يقرأه المواطنون من كتب. لكن النتيجة الأكثر غرابة بعد هذا كله، وبعد احتلال أفغانستان ذاتها بأربع سنوات، هى أن أسامة بن لادن لا يزال حراً طليقاً، وحين استهلكت شرائطه وانذاراته جرى ابراز رجله الثاني أيمن الظواهري، وبعد أن جرى استهلاك هذا أيضاً جرى تسليط الأضواء على شخصية هلامية اسمها الزرقاوي، لا أحد يعرف حقاً مدى الواقع والخيال فيها، انما الذي يجري الالحاح عليه فقط هو أن هذا الزرقاوي أصبح يمارس ارهابه من داخل العراق استمراراً في"رسالة"أسامه بن لادن في أفغانستان. وطوال أربع سنوات لم يتوقف أحد بالمرة - خصوصاً في الاعلام الأميركي - عند حقيقة أن بن لادن هذا كان صناعة أميركية من بدايته وأن أميركا القوة العظمى المنفردة عالمياً والمحتلة لأفغانستان والمهيمنة على باكستان المجاورة لم تعرف طوال أربع سنوات أين بن لادن والظواهري كما لا تعرف أيضاً أين الزرقاوى في العراق. في الحرب ضد الأرهاب اذن التي بدأت بتعاطف غير مسبوق مع الشعب الأميركي، جرت استدارات حادة بين وقت وآخر تطرح أسئلة أكثر مما تعطي أجوبة، وباسم تلك الحرب فرضت أميركا تدخلاتها السافرة على دول عدة ورقابتها الصارمة ليس فقط على بنوك ومصارف حول العالم وانما أيضاً في أعالى البحار، بما يعطيها سلطة ايقاف وتفتيش أي سفينة تخرج من أو تتجه الى موانئ دولة تعتبرها غير صديقة، لقد أصبحت الحجة الأميركية هي أن مسرح الارهاب أصبح عالمياً والحرب ضده بالتالي عالمية. وهي حرب تقررها وتباشرها أميركا ولا دور للآخرين فيها سوى السمع والطاعة أو مواجهة غضب وعقوبات الدولة الأميركية، وأصبح الكونغرس الأميركي يشرع القوانين في هذا الاتجاه، بالضبط كما كانت تفعل امبراطورية روما القديمة ضد رعاياها. تلازم مع تلك الحرب العالمية الأميركية ضد الارهاب تكامل ملامح مشروع امبراطوري أميركي باتساع العالم. مشروع كانت ارهاصاته بدأت مبكراً من قبل وصول جورج بوش الى السلطة في كانون الثاني يناير 2001. وسواء بدأنا بدعوة صموئيل هانتغتون في سنة 1993 عن صدام الحضارات أو في أعقابها، الى قرن أميركي جديد، فإنه اعتباراً من 11/9/2001 أخذت الدعوة طريقها في أرض الواقع، وبينما كان الاعداد قائماً لغزو أفغانستان تبين أن غزو العراق كان هدفاً طرحه جورج بوش ووزير دفاعه منذ اللحظة الأولى. في السنة التالية أعلنت أميركا عقيدتها الدفاعية الجديدة وخلاصتها أنها من الآن فصاعداً لن تسمح بظهور دولة أو مجموعة من الدول يمكن أن تكون منافسة لها، وأنها في سبيل ذلك تعطي لنفسها سلطة شن الحروب الاستباقية والاجهاضية ضد أي دولة تقرر هي أنها ليست على هواها. وحتى لا يفاجأ أحد، خرجت الأصوات الرسمية الأميركية لتقرر أن تلك الشبهة تنطبق أميركياً على نحو ستين دولة حول العالم، في الوقت ذاته جرت قفزات متتالية في موازنة وزارة الدفاع الأميركية مع تأكيد المحافظة على 725 قاعدة عسكرية رسمية خارج الولاياتالمتحدة وعلى 969 قاعدة في الداخل، مع عدم احتساب القواعد السرية الأخرى، زاد على ذلك أيضاً انشاء قواعد عسكرية أميركية في آسيا ومحيط الاتحاد السوفياتى السابق ومعظمها لا هدف له سوى استكمال محاصرة الصين وقطع الطريق على روسيا... وكلاهما دولتان لم تزعم أميركا في أى وقت أنهما ارهابيتان أو تدعمان الارهاب. بالطبع هناك كوريا الشمالية التي أعلن الرئيس الأميركي سابقاً أنها جزء من محور الشر بالاضافة الى ايرانوالعراق، ومع أن كوريا الشمالية ردت على ذلك بالانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووي والاعلان صراحة لحيازتها لأسلحة نووية، الا أن أميركا ركزت حملتها على ايران بحجة أنها ربما ربما ستحوز أسلحة نووية بعد خمس أو عشر سنوات، ونتذكر هنا أن جورج بوش بمجرد فوزه في انتخابات الرئاسة الأولى كان طلب من الرئيس بيل كلينتون وقف التقارب الوشيك مع كوريا الشمالية لأنه ربما تكون له ازاءها سياسة مختلفة، بالطبع هذا كله بغير أن نتوقف عند اسرائيل المسلحة نووياً بالفعل وترفض مجرد الانضمام الى معاهدة منع الانتشار النووي، وبمباركة أميركية. أصبح المشروع الامبراطوري اذن تكتمل ملامحه يوماً بعد يوم، ولم يعد ملفتاً فقط أن موازنة أميركا العسكرية تفوق موازنة الخمس عشرة دولة التالية لها مجتمعة... لكن أيضاً تطوير أميركا لأسلحتها النووية المخصصة أصلاً لمواجهة دول وليس شبكات ارهابية. يحق للعالم بعد هذا كله أن يتأمل بدقة ملامح المشروع الامبراطوري الأميركي الموازي لحربها المعلنة على الارهاب، وربما المندمج معها، يحق للعالم أيضاً أن يتساءل: هل أصبحنا الآن أكثر أمناً عما كنا عليه قبل 11/9/2001؟ من مجرد التساؤل هذا غضبت الولاياتالمتحدة حين ردده كوفي انان السكرتير العام للأمم المتحدة. لكن بغضب أو من غيره، لا بد فعلاً من طرح السؤال بعد أن جرت عولمة الارهاب الى هذا الحد المتوحش، وبعد أن أصبحت أميركا تستخدم شرائط بن لادن والظواهري والزرقاوي كأدلة تفحم بها مسلمي العالم كله وتعبئ بها مجتمعها في الداخل ومجتمعات أخرى حول العالم ضد الاسلام والمسلمين، وبعد أن أصبح أولئك الأفراد الارهابيون الغامضون يروعون المدنيين الآمنين حول العالم بما يساعد الدول المعنية على معاقبة المسلمين جماعياً، ومع أن السلطة البريطانية لم تتصرف اخيراً بالهيستيريا ذاتها التي تصرفت بها السلطة الأميركية سابقاً، الا أنه يكفي أن نتابع أن ثلاثة وستين في المئة من مسلمي بريطانيا وهم يقررون أنهم يفكرون في مغادرة بريطانيا تخوفاً من مستقبلهم بعد تفجيرات لندن. هي اذن تفجيرات لا يفعلها إلا من لديه مرض من الاسلام والمسلمين - حتى لو كانوا مسلمين - وهى النتيجة ذاتها التي عبرت عنها تفجيرات شرم الشيخ وما بينهما وقبلهما. ويتساءل المرء في النهاية: لماذا لم يمارس المسلمون في علاقاتهم المتقاطعة مع الغرب مثل هذا الارهاب طوال ألف وأربعمئة سنة سابقة؟ ولماذا لم يتوحش هذا الارهاب المنسوب الى بعضهم والمحسوب تعسفاً عليهم جميعاً الا في السنوات الأربع الأخيرة؟ * كاتب مصري