هل يجب أن يستشهد واحدنا حتى تصير شهادته في الأحداث التي عاصر، بل شارك في صنعها، ويصير نقده الذاتي وثيقة تاريخية تستحق أن تحفظ في مكتبة الحروب اللبنانية، وهي مجموعة وليست أحاديث متفرقة بالاحترام الذي يفرضه موت الشخص؟... إذ ذاك - أو هذا هو رجاء الحقيقة - يصبح في وسع الباحثين المقارنة لا بين أدوار اللاعبين بل بين الزوايا التي كان المعاصرون ينظرون منها الى الأحداث المتعددة الأبعاد، بل المسؤوليات والحسابات، قبل أن يجزموا في تجريم هذا أو تبرئة ذاك من الزعماء والقواد والمتزعمين"والمستَقوَدين"، وصولاً الى الضحايا، ومن ستصبح تسميتهم يوماً الضحايا الذاتيين، أي محترفي النزاعات الانتحارية والمدمنين منطق الانهزام المفتعل في المعارك المستحيلة الانتصار! على مدى سنوات انهمك الزميل غسان شربل بجمع روايات اللاعبين في حروب لبنان وعليه في محاولة لحماية الذاكرة من التلاعب اللاحق بالوقائع... ومن النسيان أيضاً. وميزة سلسلة"يتذكر"ان كل ما صدر فيها مثبت بأصوات المتحدثين أنفسهم. وحين اختارت مجلة"الوسط"المميزة أخذ اجازة من قرائها، نقل غسان شربل هذه السلسلة الى صفحات"الحياة"التي يرأس تحريرها حالياً. ومعاذ الله ان يقع صحافي في وزن غسان شربل وصدقيته وأدبه في ما وقع فيه مرة ولم يتكرر زميل قديم كتب عنواناً ظنّه خلاّباً:"القتيل يصرّح بأنه..."ولم يذكر في العنوان ان الحديث سبق القتل... وصار السبق الصحافي شؤماً، وكأن القتيل ينتقم من الصحافي السمج الجاهل! حيث هو الآن، أي حيث لم يكن يتوقع أن تذهب به موجة الارهاب التي عشنا ولعلنا لا نزال؟، جورج حاوي سيشكر المناسبة التي جعلت غسان شربل يسأله عن خفايا الحروب وأسرار دوره وسائر الأدوار والأقوال. ولن نخاله يأسف لصراحته التي تكاد تشبه صراحة المحتضر مع الذات لحظة التأهب للقاء ربّه... فجورج كان، لمن يعرفون خبايا طبائعه، كثير الصراحة في مواجهة الحقائق وخصوصاً في مواجهة مترتباتها وما صار يوصف بالتداعيات... ولم يبخل جورج على محدّثه بالاعتراف بخطأ أو بخطيئة، ولو كان يظن في حينه أن الأمر كان على العكس بطولة. وما أعظم أن يصير في وسع الانسان أن يُقرأ هكذا، وفي كتاب"بعد الوفاة"، حين لا يكون يطلب جزاءً ولا تكفيراً ولا... طبلاً وزمراً وتصفيقاً. غسان شربل كان صحافي الحقيقة حين اختار لجورج حاوي الأسئلة التي تواجهه مع عميق نفسه وايماناته وواقع حساباته، وفي ظرفٍ كان مستريحاً من مسؤوليات القيادة... فإذا به يتجاوب مع الصحافي في اعتماد صدق ينضح به انشاؤه. هذا الكتاب شهادة شهيد، كان وهو حيّ شهيد حربٍ خاضها وحسبه أنه لم يصطنعها. شكراً غسان شربل، وشكراً مجلة"الوسط"هذه الصفحة البليغة من التاريخ الذي لا يزال حياً، وينتظر من يستكمل قراءة العبرة منه بعد العبرة. نص المقدمة التي وضعها غسان تويني لكتاب رئيس تحرير"الحياة"غسان شربل الصادر حديثاً عن دار النهار بيروت وعنوانه :"جورج حاوي يتذكر: الحرب والمقاومة والحزب". والكتاب حوار طويل مع السياسي اللبناني الذي اغتيل اخيراً موزع ضمن مجموعة حوارات متتالية كانت نشرت في مجلة"الوسط"بين 20-26/5/1996 و 1-7/7/1996 . والكتاب اشبه بوثيقة سياسية تؤرخ للمرحلة الراهنة وما سبقها من احداث ووقائع.