الكتاب الضخم بصفحاته التي زادت على 430 صفحة متوسطة القطع حمل عنوانا يتسم ببعض ما عرف به اسلوب الكاتب والصحافي اللبناني غسان شربل في تحقيقاته ومقالاته عامة ..والمقصود هنا هذا النسيج الانيق من المجازي والواقعي . وهذا المزيج هو مما تتسم به كتابة غسان شربل عامة . اما عنوان الكتاب الذي صدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت فقد كان " اسرار الصندوق الاسود " .والصندوق الاسود كما هو معلوم هو السجل الذي يحفظ تفاصيل ما يجري في رحلة الطائرة ويحتفظ بهذه المعلومات والاسرار سالمة في حال سقوط هذه الطائرة . وفي كتاب غسان شربل رئيس تحرير صحيفة " الحياة " كثير عن الطائرات مخطوفة ومنسوفة منفجرة ومحطمة .والباقون على قيد الحياة من رفقاء الاسماء الاربعة الكبيرة في الكتاب هم " الصناديق السوداء " كما يبدو . الكتاب يشكل دون شك مرجعا مهما لمن يدرس مرحلة من سنوات العمل الفدائي الفلسطيني السري " الخارجي " عندما اتخذ شكل خطف طائرات وشخصيات واعمال تفجير واغتيال للفت نظر العالم الى قضية الفلسطينيين واحيانا لتمويل الصراع الفلسطيني المسلح مع اسرائيل . محتويات الكتاب تركزت وفي شكل اساسي على اربع شخصيات نضالية عملت في سبيل القضية الفلسطينة .اسماء شهيرة هي ..الفنزويلي الاصل ايليتش راميريز سانشيز الشهير في العالم باسم كارلوس والراحل الشهير الدكتور وديع حداد مسؤول عمليات المجال الخارجي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والراحل الدكتور جورج حبش الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .اما الرابع فهو اللبناني انيس النقاش . مواد الكتاب اعدت اساسا للنشر في " الحياة " وفي مجلة " الوسط " التي كانت تصدر عنها .وقد استند الكاتب الى مقابلات وحوارات مع الاربعة وإلى وثائق وذكريات مقربين وأقرباء وزملاء ورفقاء احيانا . وقد اشار الكاتب الى اسماء قامت بادوار في هذه العمليات تخطيطا وتنظيما وتنفيذا لكن الموت غيبها قبل ان يستطيع الباحث تسجيل اقوالها .ابرز هذه الاسماء سوري هو الشاعر كمال خير بك الذي قضى قتلا في بيروت ولبنانيان هما فؤاد شمالي وفؤاد عوض اللذان قيل انهما قضيا بالسرطان .وعمل الصحافي " المحقق " يجري في اجواء تشبه الروايات البوليسية وما فيها من تستر واستتار بمقتضى الحذر المهني او الامني وربما لزيادة التشويق .يكتب شربل " مقدمة " ويستهلها بالقول " حاورت كارلوس فرن الهاتف وجاءني صوت مجهول قال ..انت تنشغل بكارلوس وتنسى من جعله نجما .كان مهما عندما كان يستمع الى توجيهات معلمه وديع حداد الذي احاله الى التقاعد بعد عملية فيينا .القصة الفعلية موجودة لدى رفاق وديع فلماذا لا تبحث عنها؟ لديهم خزانة اسرار تتعدى كارلوس .سألته عن اسمه ورقم هاتفه فاكتفى بالقول انه مجرد قارىء .لم يتصل الرجل مرة اخرى لكن نصيحته كلفتني الاف ساعات العمل وأنا مدين له ." وقال شربل " لي في هذا العالم اصدقاء قساة ..خطفوا طائرات ..احتجزوا رهائن ..زرعوا عبوات ..زوروا باسبورات وتحايلوا على المطارات ..اختاروا اسماء مستعارة وعاشوا في ظلها ..تمردوا على الظلم وطاردوا العدو في كل مكان وعادوا من الرحلة .هذا اصيب في روحه وقهرته الايام وذاك اصيب في جسده ويعيش مع الادوية والذكريات وثالث دفن على بعد الاف الاميال من التراب الذي كان يناديه ." الاسماء الاربعة الشهيرة بقي اثنان منها حيين بعد رحيل وديع حداد وجورج حبش وهما كارلوس الموجود في سجن فرنسي وانيس النقاش الذي يعيش في ايران بعد ان امضى سنوات سجينا في فرنسا بتهمة الاشتراك في اغتيال شابور بختيار رئيس وزراء ايران السابق في باريس . من محتويات الكتاب الشيق الممتع الذي يكشف عن كثير من الاسرار قسم خاص بوديع حداد يحمل عناوين فرعية منها " العمليات الاولى .مطار الثورة في عمان .عملية اللد .العلاقة مع المنظمات الاممية .خطف وزراء اوبيك في فيينا .عملية عنتيبي . العلاقة بالاتحاد السوفيتي .خطة لاغتيال كيسنجر .محاولة خطف جورج حبش من سجنه السوري ." وفي القسم الخاص بأنيس النقاش عناوين منها " مع وديع وكارلوس .شراكة ام اختراق؟ مهمات ايرانية .شمولية الثورة .قبل فيينا عمليات نفذت ..لمتنفذ .الدور الفلسطيني في الحرب الاهلية اللبنانية ." في الحديث عن وديع حداد الذي يصر كثيرون على القول ان الاسرائيليين اغتالوه بالسم يظهر اسلوب شربل في الكتابة وقدرته على هضم المواد والاحداث التاريخية وإخراجها مختصرة جميلة وبشكل فني جذاب وكذلك على الكشف باختصار عن نفسيات من يتحدث عنهم . يقول " في سنة 1946 غادر وديع حداد الى الجامعة الامريكية في بيروت .تحقق حلم الوالد لكن القدر ضرب لوديع موعدا اخر .فبعد عامين وقع الزلزال .ذهبت صفد وذهبت فلسطين .سارع وديع حداد الى مخيمات اللاجئين متطوعا للمساعدة .رأى مأساة الاقتلاع والتشرد والذل .ولن تفارقه تلك الصور . " عائلة الياس الحداد نزحت الى بعقلين في الشوف .ولان والدته لبنانية من آل الريس في عبيه تمكن من الحصول للعائلة على الجنسية اللبنانية .نسأل رفيقا عايش وديع على مدى ثلاثة عقود ان يختصره فيقول ..وديع آخر الرومانسيين .كانت احلامه كبيرة وصعبة لكنها ليست مستحيلة في نظره في عالم تسوده القوة الغاشمة وتتحكم في مصائر الناس شريعة الغاب والنهب والاغتصاب ." كتاب غسان شربل يشكل قراءة ممتعة ومرجعا لمن يهتم بتلك الحقبة .