جاء النص القرآني نصاً واحداً وجامعاً. فهو نص مقدس، محفوظ أو محروس تبعاً لمنطوق الآية الكريمة:"إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون". وهذه القدسية للكتاب المنزل بالعربية، جعلت بعض فقهاء اللغة يعتبرون أن العربية ذات أصل موقوف أو الهي، غير اصطلاحي وغير بشري. وكون النصّ القرآني نصاً جامعاً، معناه أن الأمة تجتمع عليه. أما الاجتهادات التي هي علامة من علامات حرية الفكر في الإسلام، فمقبولة تحت سقف الاجتماع... وتصبح تعلّة للتفرقة والحروب حين تخرق سقف هذا الاجتماع، فإنه، بعد معركة صفين، على سبيل المثال، لم يمنع رفع المصاحف على الرماح، والدعوة للاحتكام لكتاب الله الواحد، المسلمين من التفرقة والدخول في حروب أهلية طاحنة، انتهت بزوال دولة الخلفاء الراشدين، والإسلام الأول، والدخول في عهد جديد من تاريخ الاسلام، هو العصر الأموي، فالنص القرآني، على كونه نصاً واحداً وجامعاً، إلا أنه حمال أوجه، خصوصاً في المتشابهات من الآيات. وهو ما يمنح الاسلام تلك المرونة الأبدية أو الستراتيجية في التكيّف مع تطورات الأجيال والعصور... فالنصّ القرآني نص واحد، ولكنه ليس بجامد، وهو نصّ جامع لكنه يفسح للناس بالحرية والتأمل والتفكير وعقل الوجود، فكثيرة هي الآيات التي تدعو الإنسان الى إعمال عقله في ذاته وأصله ومآله وفي ما حوله من الكائنات. وكثيراً ما تتردد في النص القرآني آيات من مثل"أفلا يعقلون..."..."أفلا يتفكرون...". كما أنّ السنّة تحضّ على ذلك، حتى أُثِر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:"تفكر ساعة خير من عبادة سنة"، وهو قول ينسجم مع الآية"انما يخشى الله من عباده العلماء". وتفسير النص القرآني جاء ليشكل فرعاً مهماً من فروع العلوم الدينية، هو علم التفسير، وكونه علماً معناه أنه مضبوط بما يقتضيه العلم من أصول وقواعد وعدة... انما ثمة تداخل بين لفظين في هذه المسألة: التفسير والتأويل. جاء في مختار صحاح الجوهري للشيخ الإمام الرازي في جذر"اول":"التأويل تفسير ما يؤول اليه الشيء، وقد أوّله تأويلاً، وتأوّله بمعنى". وجاء في جذر"فسر"أن"التفسير هو البيان، أو الإبانة، فالحدود اللغوية للجذرين أتت كأنما لترسم حدود معنى كل منهما. فالتفسير كشف وإبانة عن المعنى، أما التأويل فأبعد من التفسير، إنه تفسير للمعنى وكشف عن مآله في وقت واحد". لذلك اعتبر بعض الفقهاء أن الكشف الأخير عن معنى النص القرآني، مسألة أمرها بيد الله وحده، وما أوتي الانسان من العلم إلا قليلاً... سنداً للآية الكريمة"لا يعلم تأويله الا الله، والمؤمنون يقولون آمنّا، كلّ من عند ربنا...". فالإيمان هنا تسليم بلا سؤال عن كيف. واحتفظ تاريخ الفقه الاسلامي لتفسير القرآن، بلفظ"التفسير"، فهو السائد على سطح هذا الفقه، فهناك على سبيل المثال، تفسير الطبري المسمّى"جامع البيان في تفسير القرآن"وتفسير الطبرسي المسمى"مجمع البيان في تفسير القرآن"... وحتى الذين سلكوا منهجاً رمزياً في التفسير انتقل بهم الى التأويل، حافظوا على التسمية الرسمية، وإن تعدوها الى رموزهم وتأويلاتهم، فلابن عربي كتاب"تفسير القرآن"، ولأبي عبدالرحمن محمد بن الحسين السلمي المتوفى سنة 412ه/ 1021م، كتابان هما:"حقائق التفسير"و"زيادات حقائق التفسير"، كأنما التأويل هو طريقة ما، والتفسير هو الأساس. وكانت هناك طرق لتفسير القرآن، الأسبق منها كانت الطريقة اللغوية. لذلك فكان أول ما كان على المفسّر امتلاكه، علم اللغة، وأصول استعمال العربية ومعانيها. والعربية، كما هو معلوم، لغة العرب قبل الاسلام... فهي أسبق من القرآن الذي جاء وكرّس احدى لهجاتها وسوَّدها وجبًّ ما عداها... فغدت لغة قريش هي اللغة، وبها جاء الشعر العربي. ولم يأتِ القرآن ليغيّر أصول اللغة بل ليكرّسها، لذلك كانت معرفة المفسرين بأشعار العرب ولغتهم في الجاهلية معرفة ضرورية بل لازمة لمعرفة معاني القرآن في هذا الكتاب. كان القرآن محتاجاً الى لغةٍ وأشعار الجاهلية لفهم معانيه اللغوية، وليس العكس. وان من يقرأ كتاب"جمهرة أشعار العرب"لأبي زيد القرشي، يجد أنه يستند في شرح مفردات وتعابير القرآن الى أبيات شعر الشعراء الجاهليين أمثال طرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى، وعنترة ولبيد وسواهم من أصحاب المعلّقات. فالمعرفة بالشعر الجاهلي، وبلغة الجاهلية، كانت من هذا الباب، شأناً دينياً، يتجاوز المعرفة اللغوية المحض... من أجل ذلك، قامت قيامة رجال الدين والأزهر في مصر على طه حسين حين نشر كتابه"في الشعر الجاهلي"، والذي عدّله في ما بعد وجعله"في الأدب الجاهلي"، حين شك في هذا الشعر، مستنداً في شكه الى المنهج الديكارتي العقلاني الذي اكتسبه من دراسته في فرنسا، وجاء ليطبقه على تراث الشعر العربي قبل الاسلام، فالقضية كانت هي الشك في أداة هي من أهم أدوات تفسير القرآن، مما أدّى الى اصدار فتوى بتكفير طه حسين واقامة دعوى قضائية من بعض شيوخ الأزهر بحقه. والواقع ان شك طه حسين أسسه في حينه على الشك بعدالة ووجود بعض رواة الشعر العربي مثل حمّاد الرواية وحمّاد عجرد وحمّاد بن الزبرقان، وجناد، ممن كانوا من الشعوبيين اللحانين الجاهلين بأصول اللغة. وقد اتفقت المصادر على انهم كانوا يجيدون تقليد الشعراء الذين يروون لهم. كما انهم كانوا ينحلون الشعر ويبتكرون القصائد ثم ينحلونها لسوى قائليها، استجابة لمتطلبات القبائل والقبلية، التي عادت فرفعت رأسها في العصر الأموي. الا ان النقد الموجه لطه حسين في هذا الصدد، يتركز في أن الرواة الذين هفّتهم في كتابه، كما هفّتهم قبله ابن سلام الجمحي وأبو زيد القرشي، وابن قتيبة، ليسوا وحدهم الذين نقلوا ورووا الشعر العربي في الجاهلية، فهناك سواهم ممن رووا هذا الشعر، وعدالتهم متفق عليها، كالسكّري مثلاً، فضلاً عن الأصمعي والمفضّل الضبيّ وابن الأعرابي، وهم في الوقت نفسه، فقهاء معدودون في اللغة. عوداً على بدء، كان التفسير اللغوي أول التفاسير المعتمدة للقرآن، بل كان من أسبق التفاسير. وقد عرفت تفاسير أخرى استندت الى السيرة أو الرواية، وأخرى استندت الى تفسير الآيات بالآيات تفسير القرآن بالقرآن، وفسّرت الآيات أيضاً بالعودة الى أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وما الى ذلك من أصول التفسير. وجاءت هذه التفاسير على العموم، محافظة. قريبة من الاسلام الأوّل، ولم يكن فيها شطح أو تأويل أو لجوء الى الرمز. لقد بقيت تحت سقف السائد من الاسلام وفي اطار سياسته العامة. وبدأ التفسير يخرج شيئاً فشيئاً من ذلك مع التطورات السياسية، ونشوء الفرق الاسلامية. واحتدام الصراع بين هذه الفرق. فالجذر السياسي لتطوّر التفسير هو جذْر نرجحه من بين أسباب أخرى، فالصراع على السلطة في الإسلام كان في أساس نشوء الفرق، كما في أساس نشوء المعتقدات المختلفة، ولجوء كل فرقة الى عدّة نظرية مستمدة من القرآن والسنّة، يقول الشهرستاني في"الملل والنحل":"ما سُلَّ سيف في الإسلام، مثلما سُلَّ على قاعدة الخلافة". من جملة التفاسير التي اقتضاها التطوّر التاريخي للإسلام، وجاء بنتيجة هذا التطوّر، التفاسير المنصبّة على داخل النصّ القرآني وباطنه، انطلاقاً من ظاهره اللغوي، وهي تفاسير تتعلّق بالقلب وأحوال النفس، وتلجأ الى الرمز والتأويل، وقد تبقى هذه التفسيرات في حدود ما يحتمله النص القرآني من معانٍ متداخلة مع الحركة التاريخية. الا انها في أحيان أخرى قد تغريها هذه النافذة النادرة والخطرة، المفتوحة على الغيب، بشطط وأخيلة ومغالاة وشطح، توصلها بهيام الشعراء والشاطحين، أكثر من وصلها بتفسير المفسرين. "حقائق التفسير"لأبي عبدالرحمن محمد بن الحسين السلمي من بين كتب التفسير المنصبّة على الداخل، المتجاوزة لإطار اللغة وأسباب النزول وتاريخية النص القرآني، باتجاه تعليله الرمزي المتعلق بأحوال النفس والخلق، كتاب"حقائق التفسير"لأبي عبدالرحمن محمد بن الحسين السلمي، واستدراكه عليه في كتاب"زيادات حقائق التفسير"الذي يشير في مقدمته الى أن سبب تأليفه هو"اضافة حروف"الى كتاب"حقائف التفسير"استدركها بعد الفراغ منه، فهو تكملة للحقائق كما يشير السلمي نفسه. و"حقائق التفسير"كتاب مجموع أو مؤلف تأليفاً من مفسرين عدة ومن كتب سابقة عليه، أكثر مما هو كتاب مصنّف ومبتكر، وأساسه التفسير الصوفي للقرآن، وأهميته تأتي من أنه يجمع ويحفظ كتباً أو فصولاً وشذرات من كتب سابقة عليه، أكثرها غير معروف أو مفقود، فهو يستند الى أقوال الإمام جعفر الصادق م 148ه وسهل التُستُري م 283ه وابن عطاء الآدمي م 309ه وأبي بكر الواسطي م 311ه فضلاً عن تأويلات وتفاسير لعبدالعزيز المكي وأبي بكر الورّاق وأبي بكر الرازي والجُنيد والشبلي وسواهم ممن سبقوا المؤلف، وعُرِفوا بالتفسير الرمزي الداخلي للقرآن. ولا بدّ من القول، بدايةً، ان كثيراً من الفقهاء والمفسرين، يرفض هذا النهج الصوفي في التفسير، ويعتبره شططاً، وقد يخرجه من جادة الإسلام، فابن تيمية، وابن قيم الجوزيّة، من هذا الرأي. وجدال هذا النهج في التفسير هو جدال تاريخي بدوره، أي واقع في الحيّز الفكري والسياسي والزمني للحوار، ولمواقع الأطراف، الفكرية والسياسية. فالصوفية وأضدادها ليست فنتازيا فكرية أو روحية وجدت من ينقضها بمثلها، فكل ذلك جزء من غنى الفكر الإسلامي التاريخي وحركيته. التصوّف - الصوف - الكبش كأضحية وتلفت هنا فكرة طريفة كان أوردها الدكتور علي زيعور في كتابه"التفسير الصوفي للقرآن عند الصادق"دار الأندلس، بيروت، 1979، حول أصل التصوّف وارتباطه بوضع الصوف على الجسد. والصوف هو للخروف فيأتي التصوّف، بحسب تعبير د. زيعور، تمثلاً لخصائص الصوف، أي"امتصاص نفساني لدور الغنم، وهي خصائص سحرية تربط لابس الصوف ربطاً ميثولوجياً ودينياً بالغنم من حيث هو حيوان يقدم كضحية للّه، أي قرباناً وتكفيراً وتطهيراً"ص 21. وفكرة ربط التصوف، بالصوف والأضحية والغنمية، ليست جديدة... على أن ثمة من يرى أصولاً أخرى للتسمية، تقرّبها من اليونانية أو الهندية. وبعيداً عن التسمية، والاجتهادات حولها، فإن كتاب"زيادات حقائق التفسير"أُخرج حديثاً بطبعة جليلة وجديدة، وبتحقيق وتقديم له من الأستاذ غيرهارد بوورينغ أستاذ الدراسات الاسلامية في جامعة بال. وطبعته تستند الى مخطوطة يتيمة محفوظة في خزانة كتب غازي خسروبغوفا في سراييفو بالبوسنة، وهو تفسير أصغر للقرآن أراده السلمي تكملة لتفسيره الأكبر. و"زيادات حقائق التفسير"مرتبة ترتيباً تتابعياً، فقد اختار مصنفه حوالى ستمئة آية أو قطعة من آية، ففسرها. وبعد كل واحدة منها ذكر عدداً من التعليقات على أكثر من ألفي كلمة أو مسألة اقتبس ثلثيها من كتّاب ومفسرين عاشوا بين القرنين الثاني والرابع للهجرة، الثامن والعاشر للميلاد. وهذا العرض الأفقي للكتاب، لا يفي بحقه، فهو كتاب ممتع، بل يفتح آفاقاً عدة للقراءة. ولعل سائلاً يسأل: ما حاجتنا اليوم، في عصر التقدم العلمي والتقني وانتصار الثقافة التجريبية، الى هذا الجهد في العمل على باطن النصوص ورسم الصورة الداخلية للإنسان، واستقراء تراثنا من باب إحياء أو فتح كوى الأسرار والتأويلات النفسية والاشراقية، واستنهاض الحروفية من غابات الكتب؟ فنحن نشكو اليوم، كمسلمين وعرب من لا معاصرة ثقافتنا، ومن بعدها عن المحسوس والملموس والعقلاني والتقني. فما نفع استنهاض مساحات النفس والرؤيا والرمز والروح، حين يكون الجسد مفقوداً أو مغيّباً؟ حسناً. نحن نرى أن لا فاصل بين استنهاض الجسد والروح العربيين، لا فاصل بين المسمار في الآلة أو الريموت كونترول، وبين العقل البشري المبتكر والمحرك لهما. كما لا فاصل بين الروبوت الإنسان الآلي والإنسان العاقل والإنسان الفنّان، والحالم والمتأمل والمتديّن... الخ. فإذا حصل هذا الفصل، تكون الثقافة في حال انفصام. فاستنهاض مثل نصوص السلمي والكشف عنها، يعملان على صقل النفس التاريخية وجلاء صورتها في الحاضر، كتموّج من تموّجات الماضي الواصل الى الحاضر. والسلمي البادئ من فاتحة الكتاب في تفسيره، يفسر كل كلمة تفسيراً أبعد من اللغة. فهو صاحب تفسير أسراري، ينتقل به من العام الى الخاص، ومن الخارج للداخل، ومن العقل الى الحدس، وهو يركز على الرحمانية، ويوائم بين خريطة النفس البشرية وخريطة الآفاق، تبعاً للآية الكريمة"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم". شاعر وكاتب لبناني.