يلفت الدكتور عثمان أحمد عبد الرحيم في كتابه «التجديد في التفسير» الصادر حديثاًَ عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت إلى أن التجديد في منهج التفسير يُعد من أدق مجالات التجديد وأخطرها لأنه يعني معالجة ما تعيشه الأمة الإسلامية من أسقام وعلل وأخطاء، في ضوء ما يُستلهم من خطاب الله تعالى للبشرية. ويشير عبد الرحيم في هذا الصدد إلى أن التجديد برز في ثنايا التفسير بداية من القرن الثاني الهجري وانتهاء بالألوسي في القرن الثاني عشر الهجري. وحول مسألة وضع ضوابط للتجديد التفسيري يرى الكاتب أنه لا يجب أن تقتصر على المفسر فحسب، بل يجب أن يوجد إطار عام لممارسة التجديد في التفسير ذاته، لأن الاقتصار على المفسر ووضع شروط له لا يضمن بالضرورة انضباط التجديد إذا لم يلتزم بمنهجية أصيلة تقوم على أصول راسخة، وقواعد ثابتة ينضبط بها التفسير المعاصر ويستقيم بها مبدأ التجديد، من دون وقوع أخطاء تفسيرية. فكم مر على مسيرة التفسير من علماء أجلاء توافرت فيهم شروط المفسر، ولكن – نظراً الى افتقادهم المنهجية الأصلية لمبادئ التجديد في التفسير – جانبهم الصواب وكانت لهم بعض السقطات والهفوات. فلا يستطيع أحد إنكار إمامة الشيخ محمد عبده في التفسير، ولا المنازعة في علم الشيخ رشيد رضا، وفقه الشيخ مصطفى المراغي، وغيرهم ممن انتسب إلى مدرسة «المنار»، ولا أن ينكر صحة اعتقادهم – في الجملة – وشدة حرصهم على الدين وتقطعهم حسرات على حال أمتهم، وعلو كعبهم في الثقافة الإسلامية المعاصرة على من سواهم من علماء عصرهم، إلا أن افتقادهم الضوابط العامة في التعامل مع النص القرآني، في ضوء معطيات الواقع المعاصر، أوقعهم بحسب المؤلف في بعض ما أخذه عليهم علماء التفسير كإعطاء العقل الحرية الواسعة لتأويل بعض الحقائق الشرعية التي جاء بها القرآن، والعدول بها عن الحقيقة إلى المجاز، والطعن في بعض الأحاديث مع ورودها في أصح كتابين بعد القرآن، وهما البخاري ومسلم، وعدم الأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة في كل ما هو من قبيل العقائد. ويستعرض الكتاب اتجاهات التجديد في العصر الحديث، مشيراً إلى أن التفسير العلمي فرض نفسه في محاولة لإثبات أن القرآن يدعو إلى العلم وأنه يتضمن بين جوانبه كثيراً من الاكتشافات التي جاء بها العلم الحديث، محاولين بذلك إعادة التوازن النفسي إلى الشخصية المسلمة المعتزة بدينها. هذا إضافة إلى أنه وجد أن في هذا الوجه من وجوه الإعجاز ميداناً ملائماً للدعوة إلى الإسلام، وإقامة الدليل على أن القرآن وحي وتنزيل من حكيم حميد، في وقت ضعفت سليقة العرب اللغوية، وأضحوا غير قادرين على تذوق الإعجاز البياني للقرآن الكريم، مع أن هذا الإعجاز قادر على مخاطبة العرب وغير العرب، كما يقوى على إدراكه المسلمون وغير المسلمين، بل إن غير المسلمين من الأوروبيين المكتشفين للسنن أو أصحاب التقدم العلمي المشار إليه يأتون في مقدم من يعقل عن القرآن هذا الإعجاز. ومن أسباب رواج التفسير العلمي إحساس المفسر بتقدير كبير لنتائج العلم الذي سيطر على كل شيء في حياة الإنسان، ما جعله يصادف إعجاباً بالغاً، لذلك فإننا نغتبط كثيراً حين يحقق العلم توافقاً ما بينه وبين أخلد ما ندين به – أعني القرآن – لأن هذا التوافق يخلص البعض من المفكرين من أزمة الإحساس بالتخلف التي تؤرقه. وانقسم العلماء إلى فريق مؤيد للتفسير العلمي وفريق معارض غير قابل به، فالمؤيدون لا يريدون شيئاً إلا أن يثبتوا للعالم أجمع أن القرآن من عند الله. أما المعارضون فإنهم يرون أن المقررات العلمية تكون عرضه للتبديل والتغيير، وهم لا يريدون أن يربطوا القرآن وتفسيره بعجلة المتغير. وعملاً بالقولين فبالإمكان القول إن لا قبول ولا إنكار للتفسير العلمي بإطلاق، بمعنى أنه لا بأس من إيراد الحقائق العلمية الثابتة، التي لا تقبل الشك عند تناول ما له علاقة بذلك من النص القرآني، مع إدراك معنى النص وفهمه الفهم السليم الخالي من الشوائب والمؤثرات الخارجية أو الميل به والانحراف لموافقة تلك الحقيقة العلمية، وهكذا كله طبقاً لشروط منها: ألا تفسر الآية الكونية إلا بالحقائق العلمية التي ارتقت من درجة الفروض أو النظريات العلمية إلى مقام اليقينات التي لا يمكن أن يتطرق إليها التغيير والتبديل، ولا يقال إن العلم ليست فيه حقائق ثابتة إلى الأبد. ألا نتعسف، وإنما نأخذ من المعاني ما ساعدت عليه اللغة واحتملته العبارة مع مراعاة سياق النص. ألا تطغى تلك المباحث على المقصود الأول من القرآن وهو الهداية والإعجاز. ألا تذكر هذه الأبحاث العلمية على أنها التفسير الذي لا يدل النص القرآني على سواه. التفسير البياني: وهو الاتجاه الذي يتناول القرآن من وجوه إعجازه البياني من حيث البلاغة والفصاحة وحسن الأداء وجمال المنطق وسلامة التعبير، من خلال قيام الدارس على دراسة النص القرآني، وتحليله على نحو ما يفعل في سائر النصوص الأدبية العالية من منظوم ومنثور – وإن كان لا سبيل إلى مقارنتها بالقرآن الكريم في إعجازه البياني – ولا يخفى أن اهتمام المفسر بهذه الوجوه البلاغية والصور البيانية قديم، ربما قدم نزول القرآن على النبي (صلى الله عليه وسلم) بدءاً من تفوق ابن عباس رضي الله عنهما في جمعه لوسائل معرفة الألفاظ والتراكيب اللغوية من خلال إطلاعه الواسع وإلمامه الجامع بإنتاج العرب من شعر ونثر ودلالات ألفاظ، ثم ظهرت المؤلفات العديدة في عصر التدوين مثل «مجاز القرآن» لأبي عبيده وكتاب «معاني القرآن» للفراء وكتاب «نظم القرآن» للجاحظ وتتابعت المؤلفات فظهرت كتب عدة تناولت إعجاز القرآن من هذا الجانب، وكتب تناولت التفسير كله وأولت البيان عناية كتفسير «الكشاف» للزمخشري، واعتنت كتب بالمناسبات وهى من أوجه البيان ك «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» وكتاب السيوطي «تناسق الدرر في تناسب السور»، غير أن اعتبار التفسير البياني من اتجاهات التجديد في التفسير في العصر الحديث يرجع إلى أمرين: الأول إن هذه الدراسات القديمة كانت وسيلة وليست غاية، بمعنى أن المفسر كان الأصل عنده الاعتناء بالمفهوم القرآني وإبراز معانيه في أبهى صورها البيانية، وكان يتخذ الكشف البياني وسيلة له في الكشف عن هذه المعاني والمرادات القرآنية، أما الدراسات البيانية في عصرنا الحديث فتدرس النص القرآني وقصدها الأول أدبي محض صرف غير متأثر بأي اعتبار وراء ذلك. والثاني أن المؤلفات القديمة لم توصل هذا المنهج ولم تحدد معالمه، بمعنى أن تصوغه في إطار محدد المنهج والضوابط والمعالم وإنما تناول كل منهما جانباً أو جوانب معدودة، من دون أن يكون له منهج عام وواضح. ويشير المؤلف الى أن من الإنصاف ذكر أن هذا المنهج البياني يشكل أول دعوة واضحة محددة في تاريخ التفسير تدعو إلى تفسير القرآن على أساس موضوعاته، إضافة إلى أن هذه المدرسة لفتت الأنظار والعقول والقلوب إلى حلاوة القرآن وعذوبة معانيه والتعرف الى بلاغته وفصاحته، فإن من الناس من لا يتعظ قلبه ولا تطمئن نفسه بوعد الله، ولا تخشع لوعيده إلا إذا عرف معانيه وذاق حلاوته وعاش معه أناء الليل وأطراف النهار متفكراً متدبراً. التفسير الاجتماعي: حينما أصاب الأمة الضعف، وتسلل إليها التمزق، وتفشى الانحلال، اتجهت طائفة من المفسرين يعتنون بالنظر إلى القرآن الكريم من زاوية الإصلاح الاجتماعي، وكيف أن القرآن يصلح ويزكي المجتمعات ويطهرها من دنس المعاصي والانحرافات، فأخذوا يتوسعون في تفسير القرآن، طالبين علاج مشكلات مجتمعاتهم، فينظر المفسر إلى مجتمعه نظرة الطبيب الفاحص يلتمس داءه، ويتعرف الى علته، حتى إذا عرفه نظر في القرآن يطلب الدواء والعلاج، فإذا وجده توسع في شرحه وبيانه، وحث قومه على التزامه، فنشأ بهذا لون من ألوان التفسير وهو تفسير الإصلاح الاجتماعي. وذلك من خلال اتجاه هدائي يرشد فيه المفسر الناس إلى فهم مراد القائل من القول، وحكمة التشريع في العقائد والأخلاق والأحكام، على الوجه الذي يجذب الأرواح ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام ليتحقق فيه معنى قوله (هدى ورحمة)، وهو اتجاه إدراك المحدثون قيمته حين عرفوا أن ضعف اهتداء الناس بالقرآن في عصور التخلف والانحلال لم يكن إلا نتيجة خلو تفسيره من تطبيق عقائده وأحكامه على أحوال الناس وشؤونهم، ومن هذا كان فضل رواد التجديد في التقسيم وجهدهم بارزين في النهوض بالفكر الإسلامي إلى عصور ازدهاره السابقة، والعودة بالقيم القرآنية إلى مكانها الفعلي من حياة الناس العلمية، بعد أن عاش المسلمون قروناً طويلة يحسبون القرآن وسيلة للعبادة والحياة الروحية فحسب وليس صراطاً مستقيماً إلى معالجة شؤون الحياة، فأكثر المسلمين هجروا القرآن وباتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية، وقوة سياسية وحربة، وثورة وحضارة. يجهلون أن له تأثيراً صالحاً في حياتهم المعيشية والمدنية والسياسية. وليس من الغريب أن يجد الباحث في التفسير محاولات متعددة يحاول خلالها رسم مثل عليا للمجتمع الذي يعيش فيه واستنباط معان هادفة يلح على توضيحها، فإن الصلة بين النص القرآني وبين الإصلاح الاجتماعي قديمة قدم القرآن في الناس، وفى القرآن من الآيات ما يسعف على إقامة مجتمع مثالي، ولقد كان المفسر المحدث أكثر تنبيهاً إلى واقع مجتمعه خلال تفسيره، بحيث نستطيع أن نقول إن التفسير الحديث أدى دوراً رئيساً في الخدمة الاجتماعية بمعناها الواسع، ويجب أن نشير الى أن هذا الاتجاه الإصلاحي الذي اتجه إليه فريق من المفسرين لم يكن بدعاً من الأمر واستحداثاً لمنهج لم يكن موجوداً من قبل، فمن المؤكد أن المفسر القديم كان يتعرض في تفسيره للآيات ذات الطابع الأخلاقي والاجتماعي ولكنه كان يمر عليها مروراً عارضاً ومن دون طول توقف أمامها، وذلك أن عوامل الانحراف الاجتماعي والأخلاقي في الأزمنة الأولى – إذا ما قيست بزماننا – لا تكاد تذكر، أو أنها لا تعد ظاهرة اجتماعية شرعية تمثل إشكالية علمية في التفسير، لينقطع المفسرون أو المصلحون للنظر والتأمل فيها، أو لم يكن الأمر ليحتاج أن يصاغ له قالب منهجي جديد في التفسير؟ غير أن الأمر اختلف في زماننا هذا، فكان لا بد لمن يتناول تفسير القرآن الكريم في واقعنا المعاصر من أن يقف عند الآيات ذات الطابع الأخلاقي والاجتماعي ويطيل الوقوف أمامها ويربط بينها وبين ما هو سائد في المجتمع ليشخص الداء ويصف الدواء، وأن يبين للناس الأخلاق السامية، والصفات الحميدة التي يجب على كل فرد أن يتحلى بها، وأن يكشف لهم ما هم عليه من المنكرات والبدع ويشرح لكل فرد من أفراد أمته الحقوق التي شرعها الله له، وأن يقرن هذا البيان القرآني بالبيان النبوي ليتضح المعنى وتتحدد الأهداف. وقد نسب هذا الاتجاه إلى مدرسة «تفسير المنار» بعد أن قدموا التفسير للناس بصورة جديدة تعالج أوضاع الأمة الإسلامية فدعوا إلى الوحدة الإسلامية، وتوجهت إليها أفكارهم وطالبوا بوحدة إسلامية جامعة شاملة لكل المسلمين، كما دعوا إلى الحرية بمفهومها الإسلامي، وانطلقوا منظرين لمنهج إصلاحي شامل للأمة الإسلامية، فتحدثوا عن الإصلاح التعليمي والتربوي والاقتصادي. وأشهر تفاسير الاتجاه الاجتماعي: «تفسير المنار» لمحمد عبده ومحمد رشيد رضا و«تفسير المراغي» للشيخ مصطفى المراغي و«تفسير القرآن الكريم» لمحمود شلتوت.