كانت الروزنامة المعلّقة فوق طاولة المطبخ، تشير إلى يوم الأحد، ولم يثر الأمر اهتمامي للوهلة الأولى، فهو يوم عادي جداً، حتى أنني دخنت سيجارة وفنجانين من القهوة المركزة، قبل أن أنتبه إلى أنه"يوم النكسة". الروزنامة نفسها، كانت تشير إلى مناسبة أخرى هي"اليوم العالمي للبيئة"، وهناك ملحق نصائح عن مضار التدخين. وبالنسبة الى التقويم الهجري، فأنا تحت مظلة"ربيع الثاني". كان عمري نحو سبعة أعوام، حين حدثت هزيمة حزيران يونيو، وقتذاك لم تكن تعني لي شيئاً، أكثر من أغان وطنية حماسية، لا تزال ترن في أذني إلى الآن، منطلقة من مذياع الجيران. وكان سعيد عبدالرحمن الذي يكبرني سناً، يضع المذياع قرب أذنه اليمنى، ليسمع بدقة كم عدد الطائرات التي أسقطها"المذياع"للعدو، ثم يهتف بحماسة، إلى أن وصلت جثة شقيقه إلى القرية، تحت شعار"شهيد". في ما بعد، كان علي أن أكتشف معنى الهزيمة، ومعنى أن تسقط مدينة القنيطرة، وأن تبتعد فلسطين إلى تخوم أخرى. هكذا قرأت"الراية المنكسة"لعلي الجندي، وپ"تلويحة الأيدي المتعبة"لممدوح عدوان، وپ"حفلة سمر من أجل 5 حزيران"لسعدالله ونوس، وشاهدت فيلم"العصفور"ليوسف شاهين، وخصوصاً مشهد محسنة توفيق وهي تهتف حنحارب، اضافة الى نصوص أخرى كثيرة، تحتفل ببلاغة الهزيمة. هذه الهزيمة دون غيرها، هي من أطلق نجومية جيل من المثقفينجيل الستينات، محمولة على الراية المنكسة للهزيمة. ولكن ماذا في شأن هزائمنا، هزائم جيلنا، وهي على أية حال، لا تقل وطأة عن تلك الهزيمة الأم، لماذا لم يحتف أحد بنصوصنا، ولماذا أهملها النقاد، وتعاملوا معها بخفة، وكأنها مشاتل ذابلة؟ هل لأن هزائمنا جاءت على مراحل، من سقوط بيروت إلى سقوط بغداد؟ وماذا في شأن هزائمنا غير المرئية، هل لأنها هزائم متشظية، وتصعب لملمة زجاجها المكسور في إطار واحد وپ"مانشيت"واحد؟ نصوص بالجملة تنتظر من يلقي التحية على عناوينها وبلاغة هزائمها الصغيرة، وتشظي عناصرها ومجازاتها، والاعتراف بشرعيتها. صحيح أننا"بكل أسف"لم نشهد هزيمة حزيران، كي نحتفل بقيمة الفاتورة الباهظة، إلا أننا نستحق التفاتة أو إيماءة عابرة، طالما إن خانة الهزيمة الكبرى في المفكرة العربية محجوزة لمصلحة ذلك الجيل المقدس، جيل الستينات، هذا الجيل الذي على رغم هزيمته وبسببها، لم يرفع راية الوصاية عن الثقافة العربية إلى اليوم، مثله مثل أي سلطة تعسفية أخرى. منذ أن اعتلوا المنابر للمرة الأولى بقصائد عالية النبرة، قصائد الصراخ والندب إلى حد التصفيق المدوي في قاعات المهرجانات، قصائد، حين أعود إليها اليوم، لا اشتمّ رائحتها، ولا أكتشف شيئاً من رحيقها الإبداعي، سوى أنها صراخ في برية. ربما علينا أن نتذكر أن"الخامس من حزيران"كان"اليوم العالمي للبيئة"أيضاً، وينبغي كنوع من الواجب المهني أن نقاوم "التلوث".