الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة يرحب باعتماد الجمعية العامة قرار سيادة الفلسطينيين على مواردهم الطبيعية    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    هيئتا "السوق المالية" و"العقار " توقعان مذكرة تفاهم لتنظيم المساهمات العقارية    الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يدعو الدول الأعضاء إلى نشر مفهوم الحلال الأخضر    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    إصابات بالاختناق خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدة الخضر جنوب بيت لحم    «خدعة» العملاء!    جرائم بلا دماء !    الخرائط الذهنية    الرياض تستضيف النسخة الرابعة لمنتدى مبادرة السعودية الخضراء    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الحكم سلب فرحتنا    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    عاد هيرفي رينارد    لماذا فاز ترمب؟    علاقات حسن الجوار    الصين تتغلب على البحرين بهدف في الوقت القاتل    فريق الرؤية الواعية يحتفي باليوم العالمي للسكري بمبادرة توعوية لتعزيز الوعي الصحي    هاتفياً.. ولي العهد ورئيس فرنسا يستعرضان تطورات الأوضاع الإقليمية وجهود تحقيق الأمن    القبض على (7) مخالفين في جازان لتهريبهم (126) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    مركز صحي الحرجة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للسكري"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    انعقاد المؤتمر الصحفي للجمعية العمومية للاتحاد الدولي للخماسي الحديث    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    198 موقعاً أثرياً جديداً في السجل الوطني للآثار    أفراح النوب والجش    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة الى "ثلاثية" روائي لبناني كبير . يوسف حبشي الأشقر عاش الحرب ... وروى 1 من 2
نشر في الحياة يوم 07 - 05 - 2005

يوسف حبشي الأشقر 1929 - 1992 واحد من أكبر الروائيين العرب، ومن رتبة الروائيين الكبار في العصر الحاضر. سيّد فنه في تحريك بنيان الرواية"يبنيها، على اتّساعها كقصيدة، كمنظومة متكاملة بشخصيات راهنة متجذّرة في عمق تاريخي، حية متنامية ومجنّحة. إنه نحّات شخصيات تتبادل الإضاءة وتطرح الأسئلة وتتجاوز حصرية حضورها النصي، ترافقنا، تحاورنا وتقلقنا. شخصيات تواصل نموّها في الذاكرة وتلتقي أسلافها في الحكايات والملاحم وتشرب من نبع الأساطير.
روّض الحوار بلغة فصحى تلتقي بحيوية المحكية وتنبض بالصوت الحارّ. والحوار المتواثب في رواياته ينهض إلى حدّ كبير بمهمة السرد"إنه حوار يرسم الشخصيات ومواقفها بأمواج متلاحقة من رذاذ العناصر والألوان والإضاءات والاستعادات فتتقدم الشخصية مع توالي الحوار في اتجاه صورها المتنامية النابضة، وتتقلّب القضايا والمواقف في دوار ذلك الموج.
عشية إعادة طبع"الثلاثية"أختار الكلام على"الظلّ والصدى"1989، الرواية الأخيرة في هذه"الثلاثية"، والتي كانت في أحد أبعادها، جوابه على الحرب التي أوجعته.
كان يوسف حبشي الأشقر بدأ الثلاثية في الستينات ب"أربعة أفراس حمر"1964. وهي رواية تتبع حركة مجموعة من الأشخاص انطلقوا من قرية واحدة يسميها"كفرملات". ومع أنها شبيهة ببيت شباب في قضاء المتن - قرية الكاتب - فإن الروائي يغير الاسم ليكني بهذه القرية عن"القرية اللبنانية" أو جبل لبنان. علماً أن بقية الأماكن والأحياء عبر الروايات الثلاث تحتفظ بأسمائها المرجعية لأنها لا توظف توظيفاً رمزياً. يحرك يوسف حبشي الأشقر في هذه الرواية مجموعة من الشخصيات المشبوبة المتأزمة المهيَّمة بأفكار ومطلقات، المتطلعة إلى البعيد، الباحثة عن معنى وخلاص. يحركها بأحوالها وتواريخها الشخصية ومشكلاتها العاطفية وأزماتها الفكرية، على خلفية الجذور التاريخية والتطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية اللبنانية، وفي تفاعل أو صراع مع هذه الخلفية.
ولعلّ الكاتب لم يخطط انطلاقاً لكتابة ثلاثية. لكنّ الأسئلة الجذرية التي طرحتها الرواية الأولى، وهي أسئلة المطلق والمعنى المخلّص الله، الحبّ، الفنّ، العقيدة السياسية والالتزام الحزبي هذه الأسئلة على مركزيتها في الرواية، لم تُستكمَل أو لم تُقفَل على يأس وانسداد أفق أو على كشف أو جواب، وظلت ملحّة وشاغلة بل تحريضية. بل إنّ الرواية الأولى تنتهي بطرح تساؤل إشكالي على سائر شخصياتها: إذ مات يوسف الخرّوبي الشخصية المركزية"لكن مصائر الشخصيات وأسئلتها وتأملاتها في دوافع موت البطل وتطوّر مصائرها وأفكارها حول"مطلقاتها"وأحوالها وعلاقاتها بعد ذلك، قد فاضت عن حدود العمل الواحد ووقفت كأسئلة ومشروعات بحث عن المعنى والمصير. وهو ما يقدّم للرواية الثانية.
"لا تنبت جذور في السماء"1972 تقدّم اسكندر - الكاتب، وأنسي - العقائدي المحازب، وهما من شخصيات الرواية الأولى في وضع تأمّل لمعنى موت يوسف الخروبي في"أربعة أفراس حمر"ودوافع ذلك الموت والتباساته، وما إذا كان بطولة وفداء أم هرباً من رهاب عائلي نفسي، وهل كان موته فعل تفانٍ ومحاولة إنقاذ، يعرف مسبقاً عقمها وعجزه عن تحقيقها، أم كان انتحاراً؟ وإذا كان انتحاراً، فأي تساؤلاته المصيرية وأي مشكلاته ووقائع حياته العائلية قادته إلى ذلك؟
هذا التأمّل يصل بالشخصية الرئيسة في الرواية الثانية، أي اسكندر، إلى مناقشة جذرية للمعاني التي يسمّيها"الشرح"أي مسوّغات الوجود، ولمعنى الكتابة من حيث هي"شرح"أو"خلاص"أي بما هي فعل تفكير ورؤية ومسؤولية والتزام أو مستوى من وعي الوجود، بل صيغة وجود. فينتهي إلى قرار اللاكتابة فيما هو، بصورة غير معلَنة، غارق عملياً وحياتياً في قضايا الكتابة وخصوصيتها وأسئلتها وفاعليتها"وهو ما تمثّل في الرواية نفسها.
بينما أنسي، الشخصية الرئيسة الثانية في هذه الرواية، يراوح بين"المطلقات"أو ما يسبغ عليه موقع المطلق، مطلق الله و"مطلق"الحزب و"مطلق"الحبّ، ويفشل في بلوغ الخلاص عبر أي منها ليعود في كلّ مرة مكسوراً خائباً يعيش هزيمته.
أمّا ميرا الغنية ابنة المدينة، الباحثة عن الحب بعيداً من أسئلة المطلق، والتي كان بيتها ملتقى عصبة الأصدقاء، فلا تحظى مساءلاتها ومشروعاتها إلا بالالتباس وتنتهي إلى الاستسلام لعبث المصادفات.
وأمّا مارت الفرنسية فهي لم تأت من الرواية الأولى بل جاءت في سياق الأحداث والعلاقات المعقدة التي نشأت بعد موت الخروبي. جاءت مع اسكندر، من بار باريسي، أملاً في شاطئ للحب والسلام"وستبقى ممزّقة بين الإيمان والرجاء وبين التأمل في حدود الخطيئة والخلاص، وكان عليها أن تنتظر الأمل طويلاً"تنتظر عودة اسكندر من معضلاته النفسية والفكرية ومن قصة الحب التي تسربلها أفكاره بالتحريم. ف"مها"التي أحبّ كانت حبيبة يوسف الخروبي، الأب الروحي للشلة، أو كما كانوا يسمّونه،"سقراط"الشلة الباحثة عن نفسها عبر مطلقاتها. وظلّ طيف يوسف كأب روحي حائلاً بينه وبين مها"لكنه لم يستطع نسيان هذا الحب كما لم يستطع التحرر للقاء مارت.
هذه الشخصيات الواقعة في شباك علاقاتها الشخصية، الممزقة بين النعمة والخطيئة، المأخوذة بالمطلق والقضايا المصيرية تصل مع أواخر الستينات، في رواية"لا تنبت جذور في السماء"1974 إلى نهايات أسئلتها. تنتهي إلى ضياع أو إلى الانكفاء واعتزال البحث"تتخلى عن محاولة العثور على أجوبة من دون أن تتخلى عن مواقعها ومنطلقاتها. ترابط عند أحلامها الأولى، أو أطلال أحلامها الأولى، على يأس من الجواب ومن التحقق في الواقع:
اسكندر الشخصية الرئيسة تهبط عليه ثروة يرثها فينميها ويحاول أن يجد في التملك بديلاً من أحلامه ومثله، بل يوهم نفسه أنه يعيش جمالية الأشياء وأنه"دونجوان الأشياء"ويفتنّ في هندسة حديقته وبيته وفي تملّك التحف الفنية والأثرية استيهاماً بتواصل إبداعي.
أنسي الذي أصبح خارج الحزب يرفض الاستفادة من ثروة أبويه كأنما وفاء لانتمائه الطبقي الفكري"وينكفئ على حيرته وإحباطه إزاء مونا التي يريدها معنى متعالياً وتريده جسداً.
بقية شبان الشلة يتخلون عن أحلامهم الأدبية أو السياسية، يهربون إلى الشراب أو الزواج الفاشل وبعضهم إلى الانتحار.
ميرا تيأس من تحول علاقتها بأنسي إلى حب حقيقي وارتباط وتصل إلى اللاعلاقة.
وحدها مارت تبقى في الرواية الثانية مساوية لنفسها لأنها منذ البداية لم ترفع سقف أحلامها.
هذه الشخصيات المتأزمة، أو من لم يمت منها، والتي جاء معظمها من بيئة واحدة أساساً، بخلفياتها الثقافية وتواريخها الشخصية، تجد نفسها أمام الحرب الأهلية اللبنانية وتحدّياتها، وهذا ما يحرك وقائع الرواية الثالثة"الظلّ والصدى". وفي الحرب ستواجه أسئلتها وأحلامها وصدقيتها، وكذلك يأسها، امتحاناً مختلفاً يعيد لها فاعليتها الروائية. كما ستواجه جيلاً مختلفاً من الشخصيات هي التي ستنخرط في الحرب. وهكذا تنتعش ظلال التطلعات الأولى لتلك الشخصيات وتتمسك بأشلاء أحلامها الخائبة حين تواجه امتحان الحرب"بينما تبني الشخصيات الجديدة مسارها وصراعاتها بانقطاع عن مسارات الشخصيات الأولى. لكن لتتشابك طرقها بعد ذلك.
المثقف في الحرب
يتّضح أنّ شخصيات"الظلّ والصدى"القادمة من الروايتين السابقتين"مثقفة"موقفاً وتعريفاً"لكن ستتعرّى وتنكشف عطالتها وهزيمتها وتفقد صدقية تعريفها حين تفاجئها الحرب وتفقدها الفاعلية في ميدانها. تبدو شخصيات تعيش تناقصها أو انهيارها الاجتماعي وبُعدها الفاعل. والرواية هي في أحد مستوياتها مسيرة هذا الانهيار. وفي كل فصل أو مرحلة تفقد شيئاً من أحلامها، من تطلّعها، من تواصلها، من إيمانها، من أملها وقدرتها ومن مقوّمات انتمائها، إلى أن تُحبَط أسئلتها نهائياً. هكذا تخرج من صناعة الحدث، وحتى من القدرة على رواية الحدث، لتصير موضوعاً للرواية أو"مرويّاً عنها"في شكل شبه كامل. لقد دُمِّرت نفسُها كعلامة على دمار صورتها في عالمها. دُمِّرت صورة الذات الفاعلة المتفاعلة القادرة على الحوار، فانحبس المعنى وانعزل المثال. لذلك توجب أن تفقد هذه الذات المنغلقة العاجزة عن الحوار فاعلية الرواية أو السرد"تفقد حتى رؤية الأحداث أو التأمل فيها. وتصبح الذات موضوعاً كما حصل بالنسبة الى اسكندر طارح الأسئلة الكبرى، صانع الأحلام والمشروعات في الماضي والصامت المنسحب المتقوقع في الحاضر.
الحرب بإشكالياتها وتناقضاتها سترغم اسكندر، الكاتب المعتزل أو فاقد الرهان على الكتابة، أي على جدوى البحث عن معنى، كما ترغم كل مثقف، ليس فقط على إعادة طرح الأسئلة القديمة والتأمل فيها في ضوء الواقع الجديد، بل أيضاً على مواجهة أسئلة جديدة أكثر اتّصالاً بالواقع التاريخي، أي على إعادة صوغ الأسئلة. يظهر المثقف المنشغل بأسئلته وقد ابتلعته موجة الحرب فراح يقلّب ويحلل ليفهم، ويبحث عن منفذ أو وسيلة لاختراقها بأسئلته ورؤيته أو لمنعها. ولكن منطقها غير منطقه"وهي إما أن توظّفه، أو تسحقه كعدوّ. تضعه أمام خيارين: أن يهرب أو أن يغدو أداة. أسئلة المثقف في الحرب ورؤاه تفقد مناسبتها ومقوماتها ويتعطّل دورها ويتوقّف تدبّرها على الأقلّ في بيئات المنخرطين في أنشطة الحرب وتجارتها، ولا سيما أولئك الذين لا يموتون فيها. في الحرب لا أسئلة"هناك طاعة وأوامر. هناك خطوط كبرى قسرية باتّة وعصبيات عمياء لا ترى ولا تعترف بتلاوين وفروق. من يطرح الأسئلة ويحاكم الأفعال يخرج من منطق الحرب. هذا ما سينقلب إليه وضع يوسف فيخرج من الحرب عندما يبدأ تساؤله عن معنى ما فعل.
ومع نهاية الأسئلة يتحول اسكندر في"الظلّ والصدى"إلى موضوع يرويه يوسف، قاتله، عبر تسعة عشر فصلاً. بينما اسكندر هذا، رائي الماضي والحاضر، والمعترِض المستنكف، القادم من الروايتين السابقتين المؤسستين للثلاثية، بل بطل الرواية الثانية في الثلاثية، لا يحصل هنا على دور الراوي الرائي إلا في عشرة فصول. وروايته فائتة لأنها قائمة على التذكُّر والتأمّل والتدرّج في اليأس أكثر مما هي رؤية وإخبار عن زمن يتحرك إلى الأمام. الذي يروي بصيغة الحاضر هو يوسف. لم يستول يوسف على مارت امرأة اسكندر ويقتله وحسب، بل قفز إلى الكلام عنه واحتل دور الراوي الشاهد الذي يقرر المصائر ويقررها ويوزعها على المروي عنهم ويأمل ويتحوّل ويرجو"الخلاص".
ولكن فيما يتواصل انهدام الشخصية المثقفة وانهزام خطابها وفاعليتها تنبني بانوراما خراب عبثي تتحول فيها المعاني إلى كلمات خاوية وتفقد فيها الأشياء رموزها ومعانيها وأبعادها العاطفية والتاريخية: بيت اسكندر في كفرملات - الذي بناه على صورة البيت العائلي الذي كان له بمثابة الرحم والجذور - وأثثه بالصور والذكريات وبالأثاث القديم نفسه ليستعيد عبره الطفولة وحضن الأبوين، هذا البيت بات هيكلاً بلا روح يعجز عن منح صاحبه الدفء والمعنى"وكذلك الحرج الذي استنبته. والمتحف الذي بناه قطعة قطعة وحاوره سيحجّب قطعه ويسلمها للغبار والنسيان"الطبيعة التي هام بها، مشهد البحر في نهاية الحديقة كبوابة على المجهول ومعبر لسفر الخيال، الشوارع التي حضنت تأملاته، هذه كلها يسلمها للإهمال ويقطع معها الأواصر. الوالدان يموتان في نهاية الوقائع وقبيل موت اسكندر"المدينة تتحول إلى ركام بشر وحجارة، البحر يصير ماء عكراً ويفقد لغته ويصمت نداؤه. وعبر تحوّل تلك المشاهد نحو خواء معانيها وانهيار الآمال التي تمثلها تنبني لوحة أبوكاليبتية غروبية لذلك العالم، لوحة خراب وعبث تؤطر حركة اسكندر ككائن حي ينوء تحت ثقل الذكريات والأحلام الخائبة وأيضاً كمثقف أو أنقاض مثقف.
القطب المقابل لاسكندر ول"المثقف"في"الظلّ والصدى"هو قطب الشرّ الممثَّل باثنين أو طرفين، أحدهما شر مطلق هو أسمر تاجر السلاح الذي من أجل أن يبيع السلاح يتشدّق بالشعارات ويستدرج الآخرين إلى القتل ويموّله ويغري به ويتاجر به وبالمسروقات ويزداد بذخاً وتباهياً، لكنه لا يتورط في الفعل بل يغسل يديه دائماً من دم الضحايا. أما الذي يلوث يديه بالدم يوسف فهو قوة عمياء مسيّرة أو جنون، لكن غير هالك، بما أنه حين يواجه الضحية - الأب اسكندر ويرى ما فعلت يداه ويعي الهوة التي انحدر إليها، يهبط جحيم الندم ومواجهة الذات في مسيرة صراع ملحمي للنهوض من الخطيئة"وهذا الصراع هو من أركان هذه الرواية.
هكذا تقدم الروايات الثلاث، عبر ألف وخمسمئة صفحة، تأزم الرؤى لدى فئة مثقفة، وتؤرخ لتطلّعاتها وتطوراتها الفكرية، لتصل في"الظلّ والصدى"مع الحرب إلى موت المصلح والطوباوي والكاتب المؤمن بقوة الإبداع وفاعلية الفكر والحوار، وتصوّر خيبة المثقف الملتزم كما تصوّر صعود المقاتل الميليشياوي"لكنها لا تقفل الباب أمام التماس طريق الخلاص. وفي تصوير ذلك الصراع وذلك السقوط، تُستنفر قيم وتستعرَض حكايات وأحلام"وفي خلفية الأحداث تُرسَم تمزّقات وتحوّلات تمتدّ خلفياتها عمقاً بين ثلاثينات القرن التاسع عشر وثمانينات القرن العشرين، تُروى على لسان جرجي الحماني والد اسكندر، الكاتب والنهضوي"وعبر الوقائع يتكشّف الاختلال في مقومات عالم كامل: تترسم الحكايات أحوال ثقافة مهددة أمام حروب وهروب جماعي، تحكي عن الهجرة ونداء عالم جديد، تحكي عن التحوّل وضياع ثقافة وقيم وجذور، وصعود عائلات وأفراد"يتداخل ذلك بقصص حب وآلام وولادة أجيال جديدة وأحلام جديدة، وعبر ذلك كله نهوض معايير جديدة. وفي هذه اللوحات الشاسعة تتلامح تشكيلات تنهض إلى الرمز والأسطورة، تتداخل حيناً أو تتجاور، تفتح الأحداث على أبعاد ورؤى فلسفية وقيم دينية تعطي الشخصيات حضورها كوعي متأزم، وتبطنها بغنى دلالي.
فالشخصية في ثلاثية يوسف حبشي الأشقر وفي الرواية الثالثة يخاصة، معمّقة بأبعاد"وإذ تحمل تاريخها، فإن عبر هذا التاريخ يضاء رواق طويل من العلاقات وحركة الأفكار وتقلّب الأوضاع والظروف. وهكذا فالشخصيات في الظل والصدى ليست هي ما كانت عليه في ماضيها في"أربعة أفراس حمر"أو"لا تنبت جذور في السماء"لكنها غير منقطعة عن ذلك الماضي. إنها شخصيات بنيت وتنامت وتعمقت واختزنت الأبعاد والدلالات في تيار حركة الحدث. فالشخصية تحمل ماضيها وتحاوره، تتذكره أو تنتقم منه أو تحاول أن تمحوه وتتحرر منه. بل إن يوسف حبشي الأشقر يستعيد في الرواية الثالثة مقاطع من الرواية الأولى في نوع من تذكّر بحيث يُجبَه القارئ بالمسافة التي قطعتها شخصية اسكندر في تحولاتها ويكاد اسكندر نفسه ألاّ يتعرّف على صورته تلك. مثل ذلك تبدو تطورات أنسي المنتمي اللامنتمي، أو الملتزم المتفرّد - واختباراته المتوالية وعلاقاته المعقدة المتأزمة بدءاً من قصة أبويه إلى تاريخه الذاتي العاطفي والحزبي وهي جميعها مسيرة ترسم توالي الفشل وخيبة المثل، وفي الوقت نفسه ترسم مسيرة طبيعية لطوباوية استنفدتها الاصطدامات المتوالية بالوقائع، فجاء الهرب منفذاً وحيداً أو خلاصاً وحيداً من السقوط الأخير.
في"الظلّ والصدى"يُبنى موت الكاتب أو انهيار حضوره كمثقف في نماذج متعددة، إذا أدخلنا في الحساب شخصيات غير فاعلة روائياً. إذ تقدّم الرواية موت المفكر المستقلّ، وتوظيف المثقف المنتمي، وسقوط الكاتب الفنان، وتحويل المثقف الحزبي إلى أداة في الحرب"تصوّر الموت المجاني للكاهن المصلح والمعلم، واعتقال الكاتب المحايد على الحواجز وقتله. وعبر هذه الصور تنهض لوحة شاسعة لدمار وشائج وثقافة وتبدد أحلام، وغروب عالم وصعود شطارات وشطّار وتجار أسلحة وحروب.
غير أنّ هذه الصور، بخلاف ما يوهم به العرض والتلخيص، لا ترد مباشرة تقريرية بل تحتلّ مواقعها في عمل هائل العمق رفيع التركيب"إذ تبنى تلك المقتلات في سياق نص متعدد الأبعاد وتجيء في ثنايا أحداث وصور وآلام أوديبية والتباس أدوار وتبادل أقنعة ومواقع بين فادٍ ويوضاس"حيث يوضاس هذا سيصعد بدوره طريق"الجلجلة"عبر الاعترافات ومواجهة الذات، لأنّ"حبة الحنطة"لا تموت ولأنّ الفينيق لكي يبعث من الرماد لا بدّ من أن يحترق.
تقدم الرواية شخصية اسكندر في تمزقها بين يوسُفين: يوسف الخروبي"سقراط الشلة"زمن الشباب والحلم، ويوسف خليل مارون الذي ولد يوم موت يوسف الخروبي عام 1959 مع نهاية الاضطرابات الدامية لعام 1958 وسمي على اسمه. هذه المسافة بين يوسف الخروبي الذي مات ليخلص غيره - وإن لم ينجح في ذلك - وبين يوسف ابن خليل الذي انتقم من الأبرياء وصولاً إلى المشاركة في قتل اسكندر - الأب المعنوي - هذه المسافة بين الحدّين هي ما رفض اسكندر فهمه أو"شرحه"أو حتى رؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.