الاحتلال الإسرائيلي يعتقل أكثر من 350 طفلًا فلسطينيًا    القبض على (13) مخالفًا في جازان لتهريبهم (234) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    الجمارك تسجل 1071 حالة ضبط للممنوعات خلال أسبوع    «الألكسو» تدعو إلى حماية المخطوطات العربية وحفظها ورقمنتها    الفنون البصرية تطلق غدًا "أسبوع فن الرياض"    دي بروين يستعد لخوض آخر ديربي في مسيرته مع مانشستر سيتي    محافظة حريملاء والبلدية تحتفلان بالعيد    الصين: سنواصل اتخاذ إجراءات حازمة لحماية مصالحنا    تعليم جازان يعتمد مواعيد الدوام الصيفي بعد إجازة عيد الفطر    قرار من جيسوس بعد خسارة الهلال أمام النصر    توماس مولر يكشف عن رحيله عن بايرن ميونيخ    التشكيل المتوقع للقاء الأهلي والاتحاد    موسم جدة يحتفي بخالد الفيصل في ليلة "دايم السيف"    «هيئة الطرق» و «وِرث» يُطلقان مبادرة لوحات «ورث السعودية» على الطرق السريعة    ارتفاع صادرات كوريا الجنوبية من المنتجات الزراعية والغذائية في الربع الأول من عام 2025    أمطار رعدية غزيرة وسيول على عدة مناطق في المملكة    «التعاون الإسلامي» تدين قصف الاحتلال الإسرائيلي مدرسة دار الأرقم ومستودعًا طبيًا في قطاع غزة    أسعار النفط تسجل تراجعًا بنسبة 7%    الشيخ أحمد عطيف يحتفل بزواج ابنه المهندس محمد    "كريستيانو رونالدو" يعلق على تسجيله هدفين في " الديربي" أمام الهلال    رونالدو يعزز صدارته لهدافي دوري روشن للمحترفين    "أخضر الناشئين"يفتح ملف مواجهة تايلاند في كأس آسيا    «سلمان للإغاثة» يوزّع سلالًا غذائية في عدة مناطق بلبنان    مدرب الهلال يعلن تحمل مسؤولية الخسارة    بعد رسوم ترمب.. الصين توقف إبرام اتفاق بيع تيك توك مع أميركا    رئيس هيئة الأركان العامة يستقبل قائد القيادة المركزية الأمريكية    "دايم السيف"... الإرث والثراء الخالد    محمد واحمد الشعيفاني يحتفلان بزفافهما بالقصيم    إمام المسجد الحرام: الثبات على الطاعة بعد رمضان من علامات قبول العمل    إمام المسجد النبوي: الأعمال الصالحة لا تنقطع بانقضاء المواسم    بلدية رأس تنورة تختتم فعاليات عيد الفطر المبارك بحضور أكثر من 18 ألف زائر    نهضة وازدهار    العماد والغاية    شكراً ملائكة الإنسانية    النوم أقل من سبع ساعات يوميًا يرفع من معدل الإصابة بالسمنة    بريد القراء    السعودية تدين وتستنكر الغارات الإسرائيلية التي استهدفت 5 مناطق مختلفة في سوريا    نفاذ نظامي السجل التجاري والأسماء التجارية ابتداءً من اليوم    المملكة تستضيف "معرض التحول الصناعي 2025" في ديسمبر المقبل    المملكة تدين اقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي للمسجد الأقصى    العثور على رجل حي تحت الأنقاض بعد 5 أيام من زلزال ميانمار    الجيش اللبناني يغلق معبَرين غير شرعيَّين مع سوريا    المملكة تحقِّق أرقاماً تاريخية جديدة في قطاع السياحة    ودعنا رمضان.. وعيدكم مبارك    أكثر من 122 مليون قاصدٍ للحرمين الشريفين في شهر رمضان    الملك وولي العهد يعزيان عضو المجلس الأعلى حاكم أم القيوين في وفاة والدته    مركز 911 يستقبل أكثر من 2.8 مليون مكالمة في مارس الماضي    الدول الثماني الأعضاء في مجموعة أوبك بلس يؤكدون التزامهم المشترك بدعم استقرار السوق البترولية    الأونكتاد: سوق الذكاء الاصطناعي يقترب من 5 تريليونات دولار    بلدية محافظة الشماسية تحتفل بعيد الفطر المبارك    أكثر من 30 فعالية في (٨) مواقع تنثر الفرح على سكان تبوك وزوارها    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة حتى الاثنين المقبل    وزارة الصحة الأمريكية تبدأ عمليات تسريح موظفيها وسط مخاوف بشأن الصحة العامة    ترحيب سعودي باتفاق طاجيكستان وقرغيزستان وأوزبكستان    محافظ الطوال يؤدي صلاة عيد الفطر المبارك في جامع الوزارة ويستقبل المهنئين    باحثون روس يطورون طريقة لتشخيص التليف الكيسي من هواء الزفير    جمعية " كبار " الخيرية تعايد مرضى أنفاس الراحة    الأمير سعود بن نهار يستقبل المهنئين بعيد الفطر    









لوْ أنّ البشر يعيشون من أجل اللحظة
نشر في الحياة يوم 04 - 04 - 2012

بعد روايتين متميزتيْن: «دنيا زاد» و «هليوبوليس»، تطالعنا مي التلمساني برواية عميقة الدلالة، ممتعة ومشوقة، هي «أكابيللا «(دار شرقيات،2012 ). وتحيل كلمة العنوان في القاموس الإيطالي على الصوت المنفرد الذي يؤدي أغنية من دون مُرافقة آلات موسيقية، وهو عنوان يوحي بالظلال الكثيفة التي ترتادها الرواية لاستجلاء الكامن، الغامض، المثير لأسئلة مقلقة نحاول تجنُّبها، لكنها تنجح في أن تجرف السدود المصطنعة التي نتمترس خلفها، فيتدفق ذلك الصوت المنفرد جاهراً بالمكبوت والمُتواري خلف المواضعات. وأول ما يستوقفنا في الرواية بناؤها المعتمد على شخصيتي امرأتيْن متعارضتين في السلوك والرؤية والعلاقة بالجسد، ولكن نوعاً غريباً من الصداقة يجمعهما، وسط شلّة من أربعة رجال يجذبهم سحر عايدة الرسامة المتحررة، المغامرة، وحضور «ماهي» الساردة، المتزوجة، المحافظة على وفائها لزوجها، والمسرورة بهذه العلاقة التي توفر لها سهرات تعوضها عن رتابة الحياة الزوجية.
وفي الواقع، علاقة الساردة بعايدة الملتبسة والمتوترة، هي المسألة التي تسعى «ماهي» إلى فهمها واستيعابها، بخاصة أن عايدة فاجأت الشلة بموتها المفاجئ وهي في عزّ شبابها، مخلفة يوميات متفرقة كتبتها في فترات متباعدة، واستطاعت الساردة أن تختلس بعضها في حياة عايدة وأن تأخذ الجزء المتبقي بعد موتها. ما كان يهمّ الساردة، في البداية، هو أن تتعرف على حقيقة مشاعر عايدة تجاهها، لكن اليوميات تكشف لها ولنا، جوانب من غرامياتها ورؤيتها الحياتية، وتقييمها لأصدقاء الشلة المكونة من أسامة زوجها الأول، وحسام آخر عشيق لعايدة، وكريم الروائي المعروف، والطبيب عادل الذي يحاول الكتابة في أوقات فراغه: «أسامة وحسام ليسا متزوجيْن، كريم وعادل متزوجان وزواجهما عاطل من البهجة رغم الأولاد والاستقرار المادي «ص9. كل واحد من الرجال الأربعة منجذب إلى عايدة التي تمتلك إشعاعاً لا يُقاوم، وتعرف كيف تضفي على الحياة اللمسات التي تكسر رتابتها، وتفتح نوافذ على فضاء الانتشاء والتحرر من القيود. وما تفعله الساردة، انطلاقاً من يوميات عايدة الغائبة، هو أن تعيد كتابة مسار حياتها مُزاوجَة بين ما ورد في اليوميات والتفاصيل التي عاشتْها معها ومع شلة الأنس. إلا أن الساردة لا تفعل ذلك بحيادٍ وتباعُد، بل هي تستحضر ذاتها وأسئلتها ورؤيتها الحياتية، فيغدو شكل الرواية ثنائي الصوت والرؤية، عبْرَ جدلية متعارضة بين شخصيتيْ عايدة المغامرة، المتحدية للقيم السائدة، والساردة المتمسكة بالأخلاق العامة والباحثة عن مسرّات لا تزعزع وضعها الزوجي المستقر: «...التقيتُ عايدة والتصقتُ بها كما يلتصق الغريق بطوْق النجاة، وهي النقيض الكامل لي، ثم انزلقتُ بعيداً عنها كأنني فضلت الغرق الدائم في حياتي على الطفُوّ الموقت في مداراتها. هل كنتُ أحافظ على وَهْم ِالاستقرار وألفَة الأخلاق الرشيدة، أم كنتُ أحاكمها حتى أثبت لنفسي أني الأفضل، الأعقل، الأنجح، الأكمل؟ أدرك الآن بعد وفاتها، أن عالمي كان مصقولاً كحجر أملس، وكانت عايدة وسيلتي للخروج من هذا العالم والتشبث بخشونة عالم آخر يَعِدُني بمشاعر جديدة ليس من بينها الملل وعدم الرضا.» ص 44.
ومن خلال لجوء الكاتبة إلى تقنية «إعادة الكتابة» التي تُستعمَل عادة لتبرير تحوير الحكايات والأساطير واليوميات والسّيَر...،استطاعت الساردة أن تتملّك دفّة الحكي، وأن تجعل التجربة مستمرة حتى بعد موت عايدة التي كانت هي مركز الثقل ومدار الأفعال. لم تتوقف التجربة لأن الساردة مُصرّة على أن تتبيّن موقعها، مُقارَنة بعايدة التي تجسّد «حالة قصوى» في التحدي وخفّة السلوك: هي امرأة لا تتورع عن الكذب، لا تتردد في أن تسرق أشياء نفيسة وملابس من منازل صديقاتها ومن المحال التجارية، وتستجيب بسهولة لنداء جسدها، وأيضاً لعاطفة الحب الجارف وعذاباته. ولتبرير إقبالها على مغامرات العشق المكررة، تورد في مذكراتها رأي أوسكار وايلد: «في كل مرة يحبّ فيها المرءُ، تكون هي أول مرة يحب فيها. اختلاف المحبوب لا يغير شيئاً من تفرّد العاطفة؛ يجعلها أكثر كثافة فحسب. لا يمكننا أن نعيش تجربة حب عظيم سوى مرة واحدة على الأكثر، وسر الحياة هو إنتاج هذه التجربة كلما أمكن ذلك.»ص 73. على هذا النحو، جعلت عايدة من الحب المتعدد عنصراً ضرورياً لحماية الحياة من الملل والاستقرار البليد.
وعندما التقتْ حسام بعد ثلاثين سنة مضت على لقاءاتهما الطفولية، عاشت معه تجربة حب ملتهبة، عبّرت عنها في يومياتها من خلال ست رسائل كانت ترسلها إلى الحبيب، رجل الأعمال الناجح المتنقل بين عواصم العالم. ولم تستطع الساردة أن تحافظ على نظرتها إلى ضرورة الوفاء لبيت الزوجية؛ بدأت تحس أن آراء عايدة تتسرب إلى أعماقها، وأنها لم تعد مقتنعة بعقلانية زوجها المحافظ: « يقول زوجي إن القلب السليم يتشاور مع العقل السليم ويصلان معاً إلى قرار صائب، والقرار الصائب من وجهة نظره يتعلق بالبُعد عن الشبهات سواء كانت شبهة الحب أو شبهة الانجذاب العاطفي، كأنه يقفلُ باب النقاش في حديث لا يدري عواقبه. وأقول مرددة آراء عايدة: مهما كانت العواقب، تظل خفقة القلب هذه بلا ثمن. من حق كل إنسان أن يخفق قلبه مرات، أن يقع- لو أراد- مرة أو مرات، والإرادة عليها المعوّل في قياس حجم الوقعة ومداها وإمكانية مُداواة الألم الناتج منها.» ص72. وتحكي لنا الساردة، أن كريم الروائي كان هو مَنْ يغازلها من بين أفراد الشلة، وكانت تصدّه لأنه يبحث عن مغامرات عابرة، ويبني علاقاته على أساس من مصالح مادية. وذات سهرة، فاجأها بتقبيلها عنوة أمام الآخرين، وهو حادث وجدت صداه في يوميات عايدة التي كانت تعتبر كريم من ضمن عشاقها، وأن الساردة استمتعت بالقبلة على رغم تمنُّعها واحتجاجها. ولم تكن ملاحظة عايدة مُجانبة للصواب، لأن الساردة قررت شراء الشقة التي كانت عايدة تسكنها وتجعل منها ملتقى لسهرات الشلة، وعندما أنهَتْ إعادة كتابة اليوميات، عرَضتْها على كريم الذي بدأ يتردد بانتظام على الشقة، وامتد الحوار بينهما، ليكتشفا أن الوحدة غول يتربص بهما وأن لا مناص من أن يلتحم الجسدان، وأن تستمر لقاءات الشلة لمقاومة الرتابة وتكلّس العلاقات.
صيرورة الأضداد
أعتقد أن شكل رواية «أكابيللا» المبني على شخصيتيْن متعارضتي الاتجاه والرؤية، هو ما سمح بتجسيد دلالات غنية تنطوي على أكثر من مستوى للقراءة والتأويل. ذلك أن سيرورة الجدلية الكامنة وراء السرد تقترن بزمنيةٍ مفتوحة، تتقبّل التحولات الطارئة على الشخصيات وعلى الرؤية إلى العالم المتحدّرة من دلالة الرواية. ومن هذا المنظور، يمكن أن نبرز دلالتيْن لافتتيْن: أولاهما، تتصل بحرية المرأة في مجتمع ذكوري لا يسمح للنساء بما يسمح به للرجال في مجال العشق المُتعدد، والبوْح بالعواطف، وإرواء الجسد. بعبارة ثانية، لا يمكن للمرأة، في مجتمعاتنا العربية أن تمارس حريتها في شموليتها الوجودية والميتافيزيقية التي تجعلها هي أيضاً نهباً للقلق والنزوات والاشتهاء والتمرد على المواضعات... وهذا وضع يعود إلى الإطار الذي يسجن المرأة داخل سياج الزواج والأمومة والحفاظ على الشرف والأخلاق الموروثة. من ثمّ تبدو شخصية عايدة شاذة ومقلقة لأنها تبيح لنفسها أن تحب متى تشاء، وتُعطى الأسبقية للإحساس المباشر، وتُقبِل على لحظات البهجة والانتشاء. وفي المقابل، نجد شخصية «ماهي» الساردة التي اكتشفت قيمة الحرية من خلال سلوك عايدة المتحايلة على المجتمع، فقررت السير على طريقها، تفادياً للرتابة والوحدة والعيش في ظلّ الغباء.
والدلالة الثانية يمكن أن نخمنها من خلال تأويل بعض الإشارات وربطها بإشكالية كبيرة، طرحتْها تطورات المجتمعات الحديثة المتسارعة، والتي تتعلق بالوضع الاعتباري للعائلة اليوم. بتعبير آخر، هل الزواج وتكوين أسرة شكل ضروري لاستمرار المجتمعات التي طبعتْ أفرادها باللااستقرار والعلائق العابرة، والعواطف الموقتة؟ هو تحول وارد، تزكّيه أشكال التنظيم الاجتماعي في المدن العملاقة التي تُحبذ التمرد على مؤسسة الزواج، وتيسر أسباب المتعية الجسدية، والعيش من أجل اللحظة التي لا تشبه غيرها...
إن رواية «أكابيللا» تكتنز إيحاءات كثيرة، وتستثير عند القارئ أفكاراً وتأملات عميقة ومتشعبة، تبدأ من الذات لتلامس أسئلة متجذرة في الكينونة وصيرورة الأضداد التي لا تعرف حدوداً مسبقة. وكل ذلك يصلنا عبر شكل محكم، ولغة رقراقة دقيقة، خالية من الحشو والثرثرة، وخلفية ثقافية تجمع بين الأدب والتشكيل والسينما... فعلاً، هي رواية أشبه بأغنية يُنشدها صوت منفرد، تدعونا إلى أن نعيد التأمل في ثوابت تُقلّص حريتنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.