صحيح أن الاعتداءات الارهابية التي ضربت في أكثر من دولة، وكان آخرها لبنان، أدت الى خسائر اقتصادية تفاوت حجمها بحسب ضخامة الانفجار ومكانه. كما أدت الى تراجع الحركة الاقتصادية خوفاً من الأسوأ. لكن هذه التطورات فتحت المجال لقطاعات اقتصادية أخرى للعمل بنسب مضاعفة، إذ ازدهرت أعمال شركات الأمن والحماية الخاصة وتلك التي تصنع أو تبيع الأجهزة التلكترونية التي تستعمل لحماية المنشآت ولكشف العبوات الناسفة والأسلحة والمتفجرات. من الولاياتالمتحدة بعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول سبتمبر الى العراق بعد الحرب وصولاً الى بيروت، دخل عدد كبير من الشركات على خط الأزمة وأفاد منها وأخذ "بزنس" الحماية ينمو في سرعة الى درجة أن بعض الحكومات بدأ يخشى حصول مشكلة جديدة نتيجة أمكان تحول هذه الشركات الى مجموعات "مرتزقة" شرعية في حال استمرت في الانتشار في أعمالها ونشاطاتها على المستوى العالمي. بعد وقوع اعتداءات الحادي عشر من أيلول 2001 برزت الحاجة الى اتخاذ اجراءات حماية وأمن على المستوى التجاري في الولاياتالمتحدة. وقصة زيادة كلفة الحماية والاجراءات الأمنية التي تكبدتها الشركات الأميركية معروفة. فعدد كبير من المؤسسات الكبرى اضطر الى استدعاء شركات خاصة متخصصة في الحماية. وشكلت هذه الخطوة نوعا من توزيع الأدوار بين مهمة الأمن الفيدرالي التي تقوم بها الحكومة الأميركية والحماية الضيقة التي تتولاها الشركات الخاصة، من مدخل المبنى الى الموقف وصولاً الى الغرف والمصاعد. وزاد حجم سوق كاميرات المراقبة الى ما بين خمسة وستة بلايين دولار اليوم مقارنة بنحو بليوني دولار قبل هجمات 11 أيلول. وتشير الدراسات الى أنه سيزيد بمعدل 25 في المئة سنوياً. وارتفع الطلب على شركات الحماية الخاصة والتكنولوجيا الخاصة بهذه المهمات مثل الكاميرات المعقدة وأجهزة التحسس والفحص الالكتروني، وصولاً الى العناصر المتخصصة في هذا المجال. ودخلت الى الجامعات الأميركية مواد تعليمية تتعلق بالحماية الأمنية وسبل ادارتها. فأصبحت هذه الشركات جزءاً اساسياً من قطاع الأعمال المزدهر، ولم تعد مهماتها تقتصر على الحراسة بل أصبحت علماً عسكرياً موازياً للأمن العسكري والاستخباراتي يضم ضباطاً وجنوداً سابقين من السلك العسكري. وارتفعت نتيجة ذلك موازنة الأمن الداخلي على المستوى الفيدرالي في شكل كبير منذ أربع سنوات . ويطالب الرئيس جورج بوش باعتماد موازنة تبلغ 34.2 بليون دولار للعام المالي 2006 مقابل 31.9 بليون لهذا العام و29.9 بليون دولار لعام 2004. 600 مليون دولار لحماية البنية التحتية الاميركية ويشمل طلب الرئيس الأميركي جورج بوش لعام 2006 مبلغ 600 مليون دولار لبرنامج حماية البنية التحتية المستهدفة، بهدف مساعدة الحكومات المحلية في الحد من تعرض المنشآت الكيميائية ومراكز النقل للخطر. وتنظر الادارة الأميركية الفيدرالية والمحلية الى الموضوع الأمني من زاوية أوسع أصبحت تأخذ في الاعتبار، أضافة الى المخاوف الارهابية ، ازدياد التهور على الطرق وارتفاع معدل الجريمة فضلاً عن العديد من حوادث إطلاق الرصاص في المدارس التي تدفع الكثيرين الى زيادة المراقبة بكاميرات الفيديو في كل الأماكن العامة. وأصبح الأميركيون أكثر تقبلاً لفكرة مراقبة تحركاتهم بالكاميرات أينما كانوا. وأظهرت دراسة مسحية أجريت في اكتوبر تشرين الاول 2004 وشارك فيها 1030 اميركياً لحساب وحدة اي.دي.تي. للخدمات الأمنية التابعة لمؤسسة تايكو انترناشيونال، أن نحو 90 في المئة من المشاركين يوافقون على استخدام كاميرات المراقبة في المطارات والمؤسسات التجارية والمباني الحكومية. تقنيات حديثة وتتيح التقنية الجديدة للمراقبة التنصت على صورة مرسلة بالبريد الالكتروني على هاتف جوال وتسمح بتعقبه، وهو ما لم يكن ممكناً منذ عشرة أعوام فقط. كما أن الكاميرات المزروعة في المباني الاتحادية الحساسة والموانيء الكبرى والمحاور المرورية تستطيع التمييز بين الأشخاص والأشياء التي يحملونها. فاذا ترك شخص ما حقيبة في مصعد في وزارة الدفاع الاميركية البنتاغون على سبيل المثال فإن الكاميرا تبحث لتعثر على صاحبها وترسل صوره الى جهاز يحمله الحراس في أيديهم. التقنيات الامنية الاسرائيلية من اللافت اهتمام عدد من الشركات الاسرائيلية في هذا المجال، وابرزها شركة "نايس سيستمز" التي تصنع هذا النوع من التقنيات. وقد أدى الاقبال على شراء أجهزتها الى ارتفاع سعر سهمها بمقدار 50 في المئة ليصل الى 32 دولاراً في الأشهر الخمسة الماضية. وفي شباط فبراير ذكرت الشركة الاسرائيلية أن ربح السهم بلغ 47 سنتاً مقابل تسعة سنتات سجلتها في العام الماضي. وفي الوقت نفسه زاد صافي الارباح لسهم شركة فلير سيستيمز التي تنتج كاميرات الرؤية الليلية الحرارية باكثر من 60 في المئة عام 2004. وأدى النشاط غير العادي لهذه الشركات أضافة الى ارتفاع الموازنات المخصصة للحماية والأمن، على المستويين العام والخاص، الى جعل عدد من الشركات الصغيرة مثل "نايس" و"فيرنيت" و"فلير" أهدافاً واضحة للشراء من قبل الشركات الكبرى. ومن بين المتقدمين المحتملين لشرائها "هانيويل انترناشيونال" و"لوكهيد مارتن" و"جنرال الكتريك" وهي شركات عملاقة. العراق نقطة الجذب وأدى الوضع الأمني في العراق الى امتداد هذه الظاهرة الى منطقة الشرق الأوسط والخليج على نطاق واسع. ففي حين تضاعفت أجراءات الحماية في كل الدول الخليجية، اضطرت الحكومة الأميركية التي تتعامل مع الأوضاع الأمنية في العراق منذ نحو عامين الى الاستعانة بشركات حماية خاصة، مما شكل نوعاً من خصخصة للأمن. ويعمل اليوم عدد كبير من شركات الأمن الخاصة في حماية الشخصيات العراقية والأميركية ضمن تركيبة معقدة تجمع بين العمل الأمني الاستخباراتي البحت وعمل الحراسة والحماية بمفهومه العادي. وهناك من يصف اوضاع العاملين في هذه الشركات الخاصة بالمرتزقة لأنهم يحملون السلاح في مقابل المال خارج اطار السلك العسكري الشرعي. ويختلف عمل شركات الحماية في العراق تماماً عن الشركات الأخرى لأنه عمل أمني أقرب الى الأداء العسكري النظامي من كونه "بزنساً" عادياً. فقد عمدت شركات الحماية العاملة في العراق الى البحث عن جنود وضباط سابقين في الجيش للعمل ضمن شركاتهم لتدريب العناصر والقيام بمهام الحماية الخاصة والرسمية، مما يقتضي شراء الأسلحة والمعدات الحربية وتقديم خدمات أمنية معقدة. وساعدت الأوضاع الأمنية الصعبة في بعض مدن العراق في ازدهار هذه الشركات، وهي في معظمها أميركية، مما رفع فاتورة الحماية الى 40 في المئة من كلفة المشاريع. الأمن يشكل 40 في المئة من تكاليف المشاريع وكان مهدي الحافظ وزير التخطيط والتعاون السابق في العراق أعلن في حديث خاص الى "الحياة"17 نيسان 2005 أن قضية الأمن "ظاهرة مثيرة ترفع كلفة المشاريع لأن ما يصرف على أمنها يتجاوز 40 في المئة من كلفة المشروع، ويشكل هدراً وتبديدا للثروة لأغراض غير منتجة. فضلاً عن أن متطلبات أمن المشاريع تقتضي وجود أكثر من 20 ألف رجل أمن يعملون لشركات أجنبية تتولى هذه المهمة وغالبيتهم من الأجانب". وأدرك عدد كبير من الشركات الأجنبية حجم هذا القطاع خصوصاً أن الوضع الأمني في العراق يوحي بأنه سيستمر على حاله في المدى المنظور على الأقل. ولكي تستمر الحياة ويتحرك الاقتصاد يجب أن تتمتع الاستثمارات بالحد الأقصى للحماية. شركات الحماية اللبنانية نمت بنسب تخطت 40 في المئة في شهر واحد بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 شباط الماضي انتقلت ظاهرة طلب الحماية الخاصة الى بيروت بقوة. ففي ظل الخطر الأمني المرتفع تراجعت الحركة في الأسواق والمحلات التجارية. وخلت المطاعم والمؤسسات السياحية من روادها فأصيب الاقتصاد اللبناني بالجمود وتكبدت القطاعات التجارية خسائر كبيرة في ظل تكرار هذه الانفجارات لفترة أسابيع قبل توقفها. ونتيجة لذلك أضطر عدد كبير من المؤسسات السياحية والشركات والمراكز التجارية والمباني، الى اتخاذ اجراءات حماية ذاتية داخلية لحماية المنشآت من التخريب من جهة، ولتوفير مناخات آمنة للمتسوقين أو للزوار. وبين ليلة وضحاها وفي خلال أسبوع واحد ارتفع الطلب على شركات الحماية في شكل فاق التوقعات. ويقول السيد عبدو أبو خليل صاحب احدى شركات الحماية السبع الأساسية في لبنان، إن مؤسسته استقدمت 150 موظفاً جديداً في خلال شهر نيسان فقط، وهذا رقم مرتفع بالنسبة الى السوق اللبنانية وحجم شركات الحماية فيه. ويقدر أبو خليل أن حجم هذا القطاع ارتفع بنسبة 40 في المئة في فترة قصيرة وذلك تبعاً لحجم الشركة وعدد العاملين فيها. وقابلت شركات الحماية الارتفاع في الطلب بحذر كبير خوفاً من حصول تراجع مفاجىء، خصوصاً أن الاعتداءات التي حصلت بدت ظرفية وفي غير محلها بالنظر الى السياق السياسي العام. وتحمس عدد من رجال الأعمال اللبنانيين لتأسيس شركات جديدة، فيما تحضر عدد آخر لتوسيع أعماله وتقديم خدمات حماية أمنية متطورة تشبه تلك التي تقدم في الخارج. وتظهر في الصحف اللبنانية اعلانات يومية لشركات تبيع أجهزة وألكترونيات حماية متطورة برسم المؤسسات التجارية وشركات الأمن الخاصة. ويشير بعض الاحصاءات الى ان التطورات الأمنية الأخيرة في لبنان لم ترفع الطلب على المعدات المعقدة الذي اقتصر على مطافىء الحريق 50في المئة والمعدات التي لا تفوق قيمتها خمسة آلاف دولار. أما كاميرات المراقبة والتسجيل الرقمي فقد شهد الطلب عليها ارتفاعا بنسبة 100 في المئة . مسؤولية هذه الشركات وتطرح في لبنان كما في الخارج قضية المسؤولية القانونية لشركات الحماية وطرق الرقابة التي تمارس عليها. فالبعض منها يحصل على تراخيص لحمل السلاح وهذه مسؤولية في حد ذاتها أذا كانت العناصر غير مدربة أو واعية للمهمة التي تتولاها. وتمارس وزارة الداخلية اللبنانية رقابة مشددة على هذه الشركات اذ تتلقى شهريا كشوفات بأسماء العاملين فيها ونسخاً من أوراقهم الثبوتية والكثير من الأوراق التي تتولى الشركات ارسالها الى الوزارة. وهي تشترط ان يكون موظف الحماية الجديد لبنانياً منذ أكثر من عشر سنوات وذلك منعاً لأن تتحول هذه الشركات الى مؤسسات مرتزقة. وفي هذا الاطار استدعت المديرية العامة للأمن العام اللبناني منذ مدة أصحاب وممثلي شركات الحماية في لبنان، الى أجتماع أبلغتهم فيه عدم الموافقة على توسيع أعمال شركاتهم الى العراق بعدما بلغها أن بعض هذه الشركات بدأ يستعد للدخول الى هذه "السوق الأمنية". صلاحية رجل الأمن الخاص اما لناحية صلاحية رجل الحماية الخاصة، فهو لا يتمتع بحماية قانونية خاصة. ويقتضي واجبه التبليغ عن أي خطر فقط. وبالتالي هو رقيب مدني لا يستطيع اطلاق النار او التعرض لأحد بل عليه التبليغ والتنظيم. وهذا يعني انه في حالات السرقة أو الاعتداء الارهابي المباشر فان عناصر هذه الشركات لا تتمتع بصلاحية الاشتباك بل تبليغ السلطات المختصة. وهذا ما يميز شركات الحماية في لبنان عن الشركات العاملة في الخارج وخصوصاً في العراق، حيث تتسلح عناصر الحماية الخاصة بأحدث انواع الأسلحة الفردية لأن عملها يقتضي مواجهة مسلحين مؤكدين او مجموعات قتالية. وهذا ما يعطي العمل في هذه الشركات صفة المرتزق. أزمة بعد تخمة؟ اليوم ومع غياب الاعتداءات وأنسحاب سورية من لبنان كيف تتعامل هذه الشركات مع احتمال تراجع الطلب؟ وما هي آفاق هذا القطاع؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك الى تشريد عدد من العاملين أو الى اقفال عدد من هذه الشركات؟ ينفي المسؤولون عن هذه الشركات احتمالات اصابتها بأزمة نتيجة تراجع الطلب لأسباب تتعلق بطبيعة التوظيف فيها مما يحميها ويحمي الموظفين لديها من البطالة. ففي لبنان يتم التعاقد مع شركات الحماية لفترة قصيرة لا تتخطى الشهرين، وانطلاقاً من هذا الواقع يتم التوظيف لفترة قصيرة لا تتخطى الشهرين أيضاً. ويعتبر العدد الأكبر من موظفي هذه الشركات وظيفة الحماية متمماً لوظيفة ثانية يعمل فيها ويملأ بواسطتها وقتاً ضائعاً لزيادة دخله، كما يمكن أن يكون طالباً يحتاج الى وظيفة بدوام جزئي تساعده في دراسته. ويعتبر أبو خليل أن معظم شركات الأمن يجري حساباته معتبراً أن هذه المرحلة عابرة من حيث المبدأ وهي قد تمتد حتى انتهاء الانتخابات النيابية المقبلة والمتوقعة في أيار مايو الجاري. استمرار ارتفاع الطلب على نظم الحماية لكن مهما تم تبسيط الأمور فإن الطفرة التي شهدها قطاع الحماية ستؤدي الى بعض الخسائر المباشرة في حال تراجع الطلب، علماً أن الشركات ترى أن مسألة الحماية الأمنية لا يمكن أن تتوقف وأن كل الدراسات الأوروبية والأميركية تشير الى استمرار ارتفاع الطلب على نظم الحماية. وأصبحت هذه الأجراءات مادة أكاديمية تعلم في الجامعات وتستفيد من الثورة التكنولوجية والرقمية الحاصلة ومن قدرات الكومبيوتر. فعلى صعيد الخسائر المباشرة تسجل الشركات كلفة عالية للعنصر الأمني لناحية التجهيز والتدريب. فحتى لو التحق لأسبوع واحد فإن الشركات تتولى تدريبه كما تمنحه اللباس الخاص بها. وتقدر كلفة اللباس وحده بمئة وعشرة دولارات للعنصر الواحد من دون احتساب التدريب أو الرسوم التي تدفعها الشركة عن موظف الحماية الجديد. لكن تعتقد هذه المؤسسات في المقابل ان خصخصة الحماية هي مسألة مطروحة وتنمو على نطاق واسع في العالم وفي الولاياتالمتحدة خصوصاً. وأستناداً الى ذلك بدأ عدد من الشركات اللبنانية بالتخصص في نظم الحماية المتكاملة بحيث تستطيع التقدم بدراسة استشارية للمؤسسات الكبرى حول حاجات منشآتها لتأمين حماية قصوى تمتد من الأعمال الأرهابية الى السرقة والحريق. فضلاً عن تجهيز المؤسسات بالكاميرات والأجهزة الألكترونية المتطورة للتفتيش والرصد. لكن الخبراء في هذا المجال يؤمنون بأن الأمن في لبنان هو سياسي بالدرجة الأولى وبالتالي إن عمل شركات الحماية لن يقدم الكثير على هذا المستوى بخلاف عملها في الولاياتالمتحدة، بحيث تعتبر رديفاً للأجهزة الأمنية الرسمية.