"المؤتمر القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي في سورية"... التعبير يقع اليوم على الأذن والعين وقعاً غريباً، فكما لو أننا أمام لوحة كولاج سوريالية تلصق صورة على صورة وزمناً على زمن، فيما تكون الأحلام وأضغاثها وعديد الرغبات المقموعة مصدر اللصق والتركيب. ولقائل أن يقول بحق إن الوجهة العربية الأخرى، التي يصفها البعض بالانتخابية، وبعض آخر بالديموقراطية، لا تزال مُلبّدة غامضة يحفّ بها من الاحتمالات، كبيرها وخطيرها، ما يحفّ بها من دعائية سقيمة. بيد أن ما لا يرقى الشك اليه ان الوجهة التي يرمز اليها"المؤتمر القطري..."غدت لزوم ما لا يلزم. ذاك ان الحزب الذي تأسس في 1947 غيّر جلده مرات عدة لمجرد البقاء على قيد الحياة. فالمجموعة الطلابية التي تحلقت حول ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، والتي كانها البعث عند ولادته، غير الحزب الشعبي الذي صاره لدى الاندماج بزعيم حماة أكرم الحوراني. والبعثان غير البعث الثالث الذي نجم عن الانقلاب العسكري في 8 آذار مارس 1963، ليعاد تأسيسه مرة أخرى إبان انقلاب البعث الأكثر عسكرية على البعث الأقل عسكرية في 1966. والبعوث تلك، بدورها، غير البعث الذي استولى على السلطة في 1970 بقيادة وزير الدفاع حافظ الأسد. وفي هذه الغضون تغيرت المسألة المركزية للحزب الذي ابتدأ مهموماً بالشأن السوري واستعادة لواء الاسكندرون الذي احتلته تركيا، وغازل الاتحاد الهاشمي العراقي - الأردني قبل أن يعطي قلبه للوحدة مع مصر الناصرية، ثم للانفصال عنها، ثم للسلطة في سورية والعراق والصراع مع عبد الناصر، ثم للنزاع مع بعث العراق، انتهاء بتوطيد القبضة في لبنان. وأهم من ذلك ربما ان انهيار المعسكر السوفياتي لم يُضعف قدرة الجيش البعثي فحسب، مانعاً عليه مصادر تسليحه، ولا أطاح، تالياً، تعهدات حافظ الاسد ببناء"توازن استراتيجي"مع اسرائيل. فما ترتب، فوق هذا، انهيار المرجعية، المعتقدية والتنظيمية، لطريقة في الحكم والسلطة والأداء الاقتصادي المركزي معاً. وهنا قد يكمن المصدر الأبرز لهذا التفارُق بين"المؤتمر القطري لحزب البعث..."وبين زمننا الراهن. فقبلاً، كانت الأصوات تتعالى مطالبة لبنان"الانعزالي"و"الرأسمالي"بالاقتراب من سورية"القومية"و"الاشتراكية". أما أحد أسئلة المراقبين اليوم فيدور حول قدرة سورية الحالية على الاقتراب من لبنان، على رغم غموض الأخير والتباسه. وهي مهمة في مصلحة السوريين واللبنانيين بطبيعة الحال. وقبلاً، كان من المسلّم به، بهذه الدرجة من الصراحة أو تلك، أن سورية معذورة اذا ما استبد حكمها بشعبها، وتردّت اقتصادياً وتعليمياً، وأغلظت وصايتها على لبنان والفلسطينيين، ما دام ان لها أرضاً محتلة في الجولان. واليوم، يتسع النقاش لحجة مفادها ان التعددية والحرية، إن لم يكن الديموقراطية، وتعاطي سورية مع نفسها كدولة بلا امتداد امبراطوري، يرفعان فرصة استعادة الجولان، أو أقله يتسببان في إحراج السلوك الإسرائيلي والأميركي على نحو لا يتوافر الآن. وهي، على العموم، مسائل لم يعد يمكن الرهان لحلها على تغييرآخر للجلدة التي حفّت وأصابها اهتراء لا يخفى على عين ناظرة. فإما أن يصار الى توديع البعث بما استدعاه ذلك من ألحان جنائزية، ولو جاء العزف بطيئاً متقطّعاً، وإما... الطوفان.