ارتفاع أسعار الذهب إلى 2623.54 دولارًا للأوقية    بحضور وزير الطاقة الشركة السعودية للكهرباء و"أكوا باور" وكوريا للطاقة يوقعون اتفاقية شراء الطاقة لمشروعي "رماح 1" و"النعيرية 1" بإجمالي استثمارات 15 مليار ريال    مركز الملك سلمان للإغاثة ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة الأحد المقبل    سماء غائمة تتخللها سحب رعدية ممطرة على جازان وعسير والباحة    منتدى الرياض الاقتصادي يطلق حلولاً مبتكرة    «الجامعة العربية» تدعم إنشاء التحالف العالمي لمكافحة الفقر والجوع    دراسة: القراء يفضلون شعر «الذكاء» على قصائد شكسبير!    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية الأمريكي    التعليم: إلغاء ارتباط الرخصة المهنية بالعلاوة السنوية    «الثقافة» تحتفي بالأوركسترا اليمنية في مركز الملك فهد الثقافي    الأخضر في مهمة «نصر»    الأخضر «كعبه عالي» على الأحمر    المشعل.. في الصدارة والكل من بعده    الأخضر يختتم استعداده لمواجهة منتخب إندونيسيا ضمن تصفيات كأس العالم    الخليج يواجه الشباب البحريني في ربع نهائي "آسيوية اليد"    الأخضر السعودي تحت 19 يتغلّب على البحرين في ختام معسكر الشرقية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع حاكم إنديانا الأميركية    انعقاد أولى الجلسات الحوارية في المؤتمر الوطني للجودة    42 متحدثًا في الملتقى البحري السعودي الثالث    «عكاظ» تكشف تفاصيل 16 سؤالاً لوزارة التعليم حول «الرخصة»    «الشورى» يطالب التأمين الصحي بالقيام بمهماته وتحقيق أهدافه    9,300 مستفيد من صندوق النفقة في عام    كلب يقضي عامين بجوار قبر صاحبه    وزير الدفاع ونظيره الفرنسي يبحثان آفاق التعاون العسكري    العتودي الحارس الأخير لفن الزيفه بجازان    اتهامات تلاحق كاتباً باستغلال معاناة مريضة ونشرها دون موافقتها    بعد سيلين ولوبيز وكاميلا.. العالمي هوبكنز يعزف في الرياض    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    «الإحصاء»: السمنة بين سكان المملكة 15 سنة فأكثر 23.1 %    إصابات الربو في الطفولة تهدد الذاكرة    سعادة الآخرين كرم اجتماعي    بيع ساعة أثرية مقابل 2 مليون دولار    الثعبان في «مالبينسا»..!    الادخار والاستثمار… ثقافة غائبة    عودة للمدارس    وزارة العدل: 9300 مستفيد من صندوق النفقة خلال 2024    بهدف تنمية الكوادر الوطنية المتخصصة.. إطلاق برنامج تدريب المبتعثين في التخصصات الثقافية    الأمير سعود بن مشعل يستقبل مندوب تركيا    لبنان نحو السلام    مرحلة الردع المتصاعد    هل تجري الرياح كما تشتهي سفينة ترمب؟    الاختيار الواعي    صنعة بلا منفعة    (إندونيسيا وشعبية تايسون وكلاي)    رسالة عظيمة    أصول الصناديق الاستثمارية الوقفية بالمملكة ترتفع إلى مليار ريال    إدانة دولية لقصف الاحتلال مدرسة تابعة للأونروا    ChatGPT يهيمن على عالم الذكاء الاصطناعي    المملكة ومكافحة مضادات الميكروبات !    الاكتناز    البرتقال مدخل لإنقاص الوزن    حسام بن سعود يستقبل رئيس جامعة الباحة    محافظ محايل يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    سعود بن طلال يطلق كائنات فطرية في متنزه الأحساء    قائد القوات المشتركة يستقبل نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني    رئيس هيئة الأركان العامة يدشّن أعمال الملتقى الدولي الأول لضباط الصف القياديين    الكتابة على الجدران.. ظاهرة سلبية يدعو المختصون للبحث عن أسبابها وعلاجها    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية... من "الحركة التصحيحية" الى تصفية مراكز الجنرالات . "أزمة الحزب" كانت المدخل الى تبني برنامج الاسد في التنظيم الجماهيري والجبهة الوطنية والتضامن العربي 1 من 3
نشر في الحياة يوم 14 - 06 - 2000

بقي موعد افتتاح المؤتمر القطري التاسع لحزب "البعث" الحاكم ثابتاً في 17 من الشهر الجاري، لكن جدول القيادة القطرية اختصر الى أمرين: الحديث عن الرئيس الراحل حافظ الأسد، وانتخاب قيادة جديدة للحزب تعكس المتغيرات الحاصلة في السنوات الأخيرة، وتحديداً في الأيام الماضية.
ويُتوقع أن تسفر الانتخابات عن تسلم الفريق الدكتور بشار الأسد منصب الأمين العام للحزب ومقعداً في القيادة القطرية تمهيداً لإعداد القيادة القطرية كتاباً رسمياً لترشيحه الى منصب الرئاسة، وعرضه على مجلس الشعب البرلمان في 25 الشهر الجاري. ويقتضي الدستور أن يعرض البرلمان ترشيح الفريق الأسد على استفتاء عام يحدد موعده في الجلسة المرتقبة بعد أيام.
وكان البرلمان عقد جلسة طارئة في 10 الشهر الجاري عدّل بموجبها المادة 83 من الدستور وخفض العمر المطلوب لرئيس الجمهورية الى 34 بدلاً من 40 سنة، لفتح الباب أمام ارتقاء الدكتور بشار الى الرئاسة.
وأقر نائب الرئيس السيد عبدالحليم خدام بمراسيم تشريعية ترفيع الدكتور بشار من رتبة عقيد الى فريق، وترؤسه قيادة الجيش والقوات المسلحة وتعديل الدستور. وجاء ذلك بناء على اقتراح القيادة القطرية وموافقة "اللجنة العسكرية" التي تضم وزير الدفاع العماد أول مصطفى طلاس، ورئيس الأركان العماد علي أصلان، وقادة الفيالق والوحدات العسكرية الكبرى.
وقال مسؤول سوري كبير ل"الحياة" ان القيادة القطرية قررت ترشيح الدكتور بشار الى الرئاسة لكن الكتاب لم يعد بعد، فيما قال رئيس مجلس الشعب، السيد عبدالقادر قدورة، ل"الحياة": "ليس شرطاً أن يكون الرئيس عضواً في القيادة القطرية، جرت العادة على ذلك، لكن الدستور يشترط فقط أن يأتي الترشيح من القيادة القطرية لمن تراه مناسباً".
وسيكون هذا الموضوع أساسياً في اجتماع مؤتمر "البعث" يوم السبت المقبل. وقال قدورة أن القيادة القطرية قررت خفض أيام مدته الى ثلاثة أيام للحديث "عن مناقب الأسد وشخصيته التاريخية والتأكيد على استمرار نهجه بانتخاب الفريق بشار الى الرئاسة"، لافتاً الى أن: "الأسد ترك مؤسسات قادرة على نقل السلطة بسلاسة". وكغيره من المؤتمرات القطرية سيجري المؤتمر التاسع في ظروف حساسة جداً، ذلك أن المؤتمر الثامن عقد بعد الاضطرابات التي سعى رفعت الأسد الى اقتفعالها، والمؤتمر السابع في خضم الصراع مع "الأخوان المسلمين"، والسادس جرى عشية دخول الجيش السوري الى لبنان وبعد حرب تشرين الأول اكتوبر 1973.
وكانت عملية السلام وحرب الخليج أرجآ انعقاد المؤتمر التاسع مرتين، في عام 1990 وفي عام 1995، كون اتخاذ موقف من الحدثين أمراً معقداً، لكن انغلاق باب السلام في آذار مارس بعد رفض رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك التزام الانسحاب الكامل من الجولان، جعل الرئيس الراحل يعمد الى التركيز على "ترتيب البيت الداخلي"، فكان التغيير الحكومي، والتركيز على مكافحة الفساد واصدار مراسيم التطوير الاقتصادي، و"شرعنة" ذلك حزبياً في المؤتمر القطري، مدار الاهتمام.
وسيحضر المؤتمر 1150 شخصاً بينهم 950 عضواً أصيلاً، كان انتخب "البعثيون" 650 عضواً منهم. وكانت السنوات ال15 شهدت تغييرات حزبية عبر عنها تقرير تنظيمي أعد الى المؤتمر.
وتنشر "الحياة" هذه الحلقات عن المؤتمرات السابقة وظروف انعقادها.
إبراهيم حميدي
لا يمكن فهم قيام الحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970 بمعزلٍ عن فهم ما سمي في الحوليات البعثية ب"أزمة الحزب". على رغم ان بعض اصول هذه الازمة قد يعود منذ البداية الى ملابسات قيام حركة 23 شباط فبراير 1966 التي تردد اللواء حافظ الاسد - وكان يومئذ قائداً للقوى الجوية وعضواً في القيادة القومية - حتى اللحظة الاخيرة بالمشاركة فيها، فإن بوادرها ظهرت إثر نكسة الخامس من حزيران يونيو 1967 في شكل "خلاف" ما بين الفريق حافظ الاسد وزير الدفاع واللواء صلاح جديد الامين القطري المساعد حول كيفية استعادة الاراضي العربية المحتلة. ولم تتضح موضوعات الخلاف وقضاياه وتتبلور الا في المؤتمر القطري السوري الرابع 26 ايلول/سبتمبر - 7 تشرين الاول/اكتوبر 1968.
من "أزمة الحزب" الى "الحركة التصحيحية"
وإذا كانت "الازمة" الخطيرة الاولى التي واجهتها حركة 23 شباط 1966، وادت الى انشقاق سليم حاطوم او ما يعرف ب"مؤامرة الثامن من ايلول 1966"، قد حكمتها دوافع طائفية جهوية في الصراع حول السلطة، فإن الازمة الجديدة لم تكن حول السلطة بل حول استراتيجيتها السياسية العامة في مرحلة ما بعد الخامس من حزيران، وكانت عواملها الاساسية سياسية بحتة. الا ان مضاعفاتها تخطت حدود "التوتر" الى "اجراءات تصادمية" نسبية ما بين جناحين حزبيين هما جناح الاسد وجناح جديد. وأدت هذه "الاجراءات" وفق منطقها الى حال نقية من حالات "ازدواجية السلطة" ما بين الجناحين، ظهرت تبعاً لموازين القوى الفعلية الميدانية في شكل استقطاب حاد ما بين الجهاز الحزبي العسكري الذي يدين بالولاء للأسد وبين الجهاز الحزبي المدني الذي يدين بالولاء لجديد، من دون ان ينفي هذا الاستقطاب وجود ركائز نفوذ معينة لكل من "القائدين" في جناح الآخر.
وبكلام آخر افضت مجريات "الازمة" الى نوع من استقلال فعلي للجهاز الحزبي في الجيش عن الجهاز الحزبي المدني الذي يسيطر عليه جديد. ومن هنا حاول صلاح جديد ان يوازن فقدانه الفعلي للجيش بتعزيز منظمة "الصاعقة" وتضخيم دورها، وهي كانت تأسست اصلاً كذراع فدائي للحزب في اطار "استراتيجية الحرب الشعبية" التي اعتبرت "بديلاً ثورياً" من "استراتيجية الحرب النظامية".
وعكست "الاجراءات التصادمية" نوعاً من "حرب مواقع" ما بين الجناحين، وتم بحدود 25-28 شباط 1969 تجريد جناح جديد من الاعلام، وسيطر الاسد على التحرير في الصحيفتين الرسميتين والاذاعة والتلفزيون، ما ارغم جناح جديد على تعويض ذلك باصدار جريدة "الراية" من بيروت. وكان طبيعياً ازاء ذلك ان يعترف الجناحان بتحول "الازمة" ما بينهما الى "ازمة شاملة تتعدى نطاق الحزب لتصبح ازمة وطنية وقومية" تستقطب الاطراف السياسية الاخرى خارج الحزب. وكانت علاقة هذه الاطراف متوترة مع صلاح جديد خصوصاً، وقيادة 23 شباط عموماً. فقد طالبت عشية نهاية حرب الايام الستة البعث بتشكيل جبهة تقدمية في البلاد، واعلنت في ايار مايو 1968 عن تشكيلها تحت اسم "جبهة القوى والعناصر الوطنية والتقدمية"، وفتحت عضويتها حتى امام البعث نفسه في ما اذا وافق على ميثاقها. غير ان الاجهزة "الشباطية" ردت على ذلك بحملة اعتقال شاملة لكوادرها، لم تتوقف عند اطراف هذه "الجبهة" بل شملت سائر المعارضين. من هنا - باستثناء الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش الذي كان ممثلاً بوزير في الحكومة بصفة فردية وليس حزبية، وكانت تسيطر على قيادته كتلة راديكالية يسارية متعاطفة مع المزاج اليساري لصلاح جديد - فإن سائر الاطراف الاخرى عموماً ايدت الاسد في صراعه مع جديد، لا سيما ان تشكيل "الجبهة" كان من ابرز مواضيع الخلاف ما بينهما.
وشكل احتدام "الازمة" ما بين الجناحين وبالاً على تماسك التنظيم القومي للحزب في الوطن العربي ووحدته. اذ مثل اهم العوامل الدافعة لاستقلال منظمات منطقة الخليج والجزيرة العربية تنظيمياً وايديولوجياً عن الحزب، وتبني الطبعات اليسارية الجديدة غير "المسفيتة" للماركسية اللينينية، على غرار المنظمات اليسارية الجديدة التي انبثقت قبيل هذا الوقت عن تلاشي حركة القوميين العرب.
تمت في ظروف هذا الانحلال دعوة المؤتمر القومي العاشر الى دورة استثنائية في تشرين الثاني نوفمبر 1970 في دمشق، لبحث "الازمة" وايجاد حل جذري لها. وقد اعتبر جناح الاسد هذه الدعوة "المفاجئة"، على حد تعبير الجناح نفسه، تحدياً سافراً له، يفسخ "الهدنة" الهشة التي تم التوصل اليها في المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي 21-31 آذار/مارس 1969، ويستقوي بالتنظيم القومي الذي يسيطر عليه جديد ضده، في حين برر جديد انعقاده بأن خلافه مع جناح الاسد هو خلاف "استراتيجي"، من حق المؤتمر القومي وحده ان يبت فيه بوصفه اعلى سلطة قومية في الحزب تحدد استراتيجيته. من هنا كان هذا المؤتمر منذ البداية تعبيراً "يائساً" عن اكتمال الانقسام في النخبة البعثية السورية المسيطرة على الحزب والدولة ووشك نهائيته.
جدد الاسد امام المؤتمر القومي "برنامجه" الذي يتلخص في ان المرحلة التي تمر بها سورية هي مرحلة "تحرر وطني" لاسترجاع الاراضي العربية المحتلة، ويتحدد تناقضها الاساسي في التناقض بين "الامة العربية" و"اسرائىل". من هنا تغدو جميع التناقضات الاجتماعية والايديولوجية والسياسية الاخرى ثانوية. ويتطلب ذلك وضع المهمات التالية بما يخدم بالضرورة هذه المهمة الاولى، وفي حال تعارض مهمة لاحقة مع هذه المهمة الاولى تلغى ولا تنفذ. ويعني ذلك على مستوى المواجهة نفسها ان "العمود الاساسي" لعملية التحرير يقوم على "الجيوش القادرة والفاعلة والمجهزة بمختلف الاسلحة"، اي على "الجيوش النظامية"، في حين ان عمليات حرب التحرير الشعبية هي مجرد "عمليات تخدم العمليات الحاسمة والاساسية لهذه القوات النظامية".
وتبعاً لقومية المعركة من حيث ان المعركة هي ما بين العرب برمتهم وبين اسرائىل فإنه يجب تحقيق "تضامن عربي فاعل"، حدده الاسد ب"خطوات وحدوية" مع الدول العربية التقدمية، خصوصاً الجمهورية العربية المتحدة مصر، وضرورة تجاوز الخلافات العقائدية والسياسية مع العراق، وحتى مع الاردن، لبناء "الجبهة الشرقية" ولو "من وجهة نظر عسكرية وجغرافية بحتة" كما يتطلب ذلك على المستوى الداخلي في سورية توجيه التنمية "على ضوء ضرورات الدفاع وحاجات الشعب الاساسية"، والتحرر من الطابع اليساري المغلق للحزب، واعلان دستور يضمن المشاركة الشعبية في السلطة ويؤطرها بانتخاب مجلس شعب، وتشكيل جبهة وطنية تقدمية تعزز الوحدة الوطنية من كلمة الاسد في المؤتمر. اما جناح جديد فجدد شرح "نظريته" اليسراوية في ان "للعدوان الخارجي هدفاً داخلياً هو اطاحة النظام التقدمي والثوري في سورية ومصر، وان البرنامج الذي يقترحه الاسد ليس سوى التنفيذ العملي للشق الداخلي من العدوان" محمود صادق: حوار حول سورية.
لم يستطع الطرفان ان يتوصلا الى تفاهمات مشتركة حول حل اشكالية العلاقة ما بين التناقض الاساسي والتناقض الثانوي في مرحلة "التحرر الوطني"، بحكم الفجوة الكبيرة ما بينهما حول مضمون هذه المرحلة. ورأى جناح جديد ان مفهوم الاسد لهذه المرحلة ليس مجرد تكتيك او اسلوب لتحقيق استراتيجية الحزب، بل هو خروج عنها الى استراتيجية نقيضة تمرر القرار 242 الصادر عن مجلس الامن الدولي في 22 تشرين الاول 1967، وتقوم على التحالف مع الانظمة والقوى اليمينية الداخلية والبعثية العراقية والعربية، وتخلياً عن الاندماج ما بين مهام التحرر الوطني ومهام الثورة الاجتماعية والاشتراكية، وخروجاً عن استراتيجية حرب التحرير الشعبية.
اما الاسد فرفض رفضاً قاطعاً هذا الوصف، واكد ان خلافه مع جديد خلاف تكتيكي بحت، ليس حول "الاهداف الاستراتيجية" وتقييم "الرجعية العربية" و"انظمتها العميلة المستغلة" و"تحرير الاراضي العربية قديمها وحديثها" و"التصدي للامبريالية" بل "حول السلوك المؤدي لتحقيق استراتيجية الحزب، المؤدي لتحقيق هذه الاهداف". من هنا، ما ان اتخذ المؤتمر قراراً غير واقعي يقضي باعفاء "الرفيقين" حافظ الاسد ومصطفى طلاس من مناصبهما، وتكليفهما مهام حزبية تحددها القيادة، حتى باتت القطيعة نهائية فتم اعتقال قيادة جناح جديد، وتشكيل قيادة قطرية موقتة اعلنت، في 16 تشرين الثاني 1970، عن قيام الحركة التصحيحية. وكانت ثالث قيادة قطرية موقتة في تاريخ الحزب، بعد القيادة الاولى التي تشكلت إثر المؤتمر القومي الخامس ايار 1962 لاعادة بناء الحزب، والقيادة الثانية التي تشكلت إثر حركة 23 شباط 1966. فلم تكن القيادة القطرية الموقتة بالتالي بدعة في تاريخ الحزب.
وجد الاسد ترحيباً وطنياً شعبياً وسياسياً عاماً، لم يحظ به اي حاكم سوري في تاريخ سورية الحديثة، على قدر ما انكشف الحزب الذي بناه صلاح جديد، سنوات طويلة وب"بيوريتانية" راديكالية عالية، عن "شلة يسارية مغلقة". فباستثناء تظاهرة احتجاجية محدودة ومشتركة ما بين الشيوعيين والموالين لجناح جديد اقتصرت على دمشق دون غيرها من المحافظات على ما يذكر عمر القشاش، تميزت ردود افعال الجهاز الموالي لجديد في الحزب او في المنظمات الشعبية التي لم تكن سوى اجهزة متفرعة عنه بالمحدودية والضعف. وزاد من ارتباكها ان بعض الكوادر البارزة المعروفة بولائها المتصلب لجديد كانت في عداد القيادة القطرية الموقتة، مثل الكادر العمالي اليساري عبدالله الاحمد والكادر اليساري عبدالله الاحمر. لا سيما وان "الحركة التصحيحية" لم تعتبر نفسها "انقلاباً" على حركة 23 شباط 1966 اليسارية بل "تصحيحاً" وانقاذاً لها مما سمي ب"عقلية المناورة والتسلط" والعبارة اصبحت منذ ذلك الوقت وحتى الآن نسبياً تستخدم مجازياً للدلاله على جناح جديد.
وهي وجهت، من خلال محاكمة ميشيل عفلق وامين الحافظ مع حوالى مئة من كوادر البعث "القومي" المرتبط بالقيادة القومية في بغداد، والحكم عليهم بالاعدام، في آن واحد رسالة الى الكوادر البعثية باستمرارية الحركة التصحيحية كامتداد لحركة 23 شباط، والى بغداد في انه "لن يتم تحمل اي تدخل من العراق ولن يتسامح مع اي ولاء لعفلق داخل الحزب السوري". على قول باتريك سيل. وهذا ما طمأن ايضاً المنظمة العراقية "اليسارية" التي تمثل ثقلاً اساسياً في التنظيم القومي للحزب، الى ان القيادة الجديدة مضادة لعفلق. وربما يفسر ذلك ان هذه المنظمة هي التي بادرت، ازاء سلبية قيادات المنظمات القومية الموالية يومئذ في معظمها لجديد، الى تشكيل لجنة تحضيرية، تضطلع بمهام قيادة قومية موقتة، وتحضر لعقد مؤتمر قومي، يمنح "الحركة الصحيحية" شرعية حزبية في التنظيم القومي، في مواجهة الاصرار الطبيعي لمن تبقى من قيادة صلاح جديد بتمثيل الشرعية في الحزب.
من منظمة الكادر الى الاقتراب
من منظمة جماهيرية
كان الحزب في المرحلة "الشباطية" نوعاً من منظمة طليعية مغلقة تميزت، تبعاً لصرامة "الترفيع" من مرحلة الى مرحلة اعلى، بالفجوة الكبيرة ما بين عدد الاعضاء العاملين الذي يشكلون نخبة الحزب ويحق لهم الترشح والانتخاب وبين عدد المؤيدين والانصار. وفي كل فرع كان عدد الاعضاء العاملين عادة مئات محدودة، في حين كان المؤيدون والانصار بالآلاف. وتبعاً لراديكالية الخطاب الشباطي، وسياسته المنهجية في تحطيم السيطرة السياسية التقليدية للمدينة السورية، تم "ترييف" الحزب. فكان معظم الجهاز الحزبي، على مختلف مستوياته، ينحدر من الريف او من المحافظات النامية بشكل يمكن فيه القول ان الحزب في الستينات كان اقرب الى المنظمة الريفية منه الى المنظمة المدينية. من هنا كان الحزب ضعيفاً بشكل خاص في اكبر مدينتين سوريتين، وهما حلب ودمشق. وانعكس ذلك في عدم وجود اي عضو قيادة قطرية من هاتين المدينتين في القيادة القطرية خلال فترة 1966-1970.
بهذا المعنى كانت الشرائح الحزبية التي تسهم فعلياً في انتاج السلطة وتداولها في الحزب، واستطراداً في اجهزة الدولة، مقصورة على نخبة الاعضاء العاملين. من هنا عملت القيادة الجديدة، في الفترة الانتقالية، على ما يمكننا تسميته باعادة بناء الحزب. وقد ارتبط بها، في فترة وجيزة، مجمل الجهاز الحزبي المدني الذي كان موالياً للقيادة السابقة، باستثناء ما يقرب من 150 عضواً هرب معظمهم من سورية او سجن وفق تقديرات مصطفى دندشلي. ولا ينفي ذلك ان تنظيم صلاح جديد اعاد بناء نفسه لاحقاً في الجيش والقطاع المدني. الا انه تعرض لضربات متوالية، ثم انشق ويكاد ان يتلاشى اليوم. ويفسر ذلك ان القيادة الجديدة قررت "فرز" كل الحزبيين الذين "اخرجوا منه عام 1957 ولم يعودوا الى الحزب"، بمن فيهم المفروزون والمفصولون.
وقد شمل ذلك المؤيدين للقيادة القومية اليمينية واليساريين كادر حزب البعث العربي الاشتراكي اليساري السابق والمفصولين في اثناء الفترة الشباطية، لا سيما في محافظة السويداء إثر ازمة حاطوم الاولى "مؤامرة الثامن من ايلول 1966"، وبذلك تم فتح باب العودة امام الذين طاولتهم حملات "التطهير". وقد تمت اعادة هؤلاء المفصولين "كأفراد لا كمجموعات او كتل" تقرير المؤتمر القطري السوري الخامس. غير ان "عوامل انتخابية ومحلية"، اي "كتلوية"، تحكمت الى حد بعيد باعادتهم، ما شكل اساس وزن الكتل الحزبية اللاحقة، التي ستعلب دوراً اساسياً في الانتخابات الى المؤتمر القطري.
تعرض الحزب اذاً الى عملية بناء او هيكلة حقيقية حاولت ان تتخطى شكل منظمة الكادر الى شكل يتطلع على المدى القريب للاقتراب من شكل المنظمة الجماهيرية. وقد فرض هذا التحول احساس الحزب بضعف قاعدته، بالقياس الى الاحزاب الاخرى المنافسة له. وقد سميت اعادة هيكلة البنية الاجتماعية للحزب، وتعديل شكله "الريفي" تنظيمياً، ب"اعادة التوازي بين بنية الحزب وتركيبه الاجتماعي وبين بنية المجتمع". فتم في عام 1974، حين لوحظ عدم وجود اي دمشقي في قيادة فرع دمشق، اتباع سياسة "دمشقة" الحزب التي تم تعميمها على الفروع الاخرى في اطار سياسة انعاش الدور السياسي للمدينة في حياة الحزب، وتعزيز مشاركتها فيها. غير ان ذلك اثار شبه انقسامات تكتلية حزبية جديدة ما بين الريفيين والمدينيين في المدن.
لقد تضاعف في المرحلة الانتقالية 1971-1974 الحجم العام للجهاز الحزبي من 65398 عضواً 57406 انصار و7992 عضواً عاملاً الى 184373 عضواً 161825 نصيراً و22548 عاملاً بحسب وثائق الحزب. فتضاعف هذا الحجم، حتى نهاية عام 1974، حوالى ثلاث مرات، او ما يعادل نسبة 1،5 في المئة من عدد الذين هم في سن التنسيب من السكان 387،607،3 نسمة. وكان هذا الحجم متفاوتاً في المحافظات. فكانت نسبته الادنى لما تزال في حلب 2 في المئة ودمشق 7،2 في المئة في حين بلغت في السويداء 9،9 في المئة بتأثير طي الرئىس الاسد لصفحة العلاقة المرة السابقة ما بين الحزب والمدينة خلال فترة 23 شباط، وزيارته لسلطان باشا الاطرش في مقره، وفتح الباب امام "المفصولين" للعودة الى الحزب.
يمكن القول ان حوالى 7،77 في المئة من الحجم العام للحزب تألفت، على مستوى البنية العمرية، من فئات السن 15-34 سنة، كما كانت اعظم نسبة مئوية من مجموع التنظيم هي الفئة 15-19 سنة.
كان يغلب على الحزب بهذا المعنى في الفترة الانتقالية اذاً طابع الحزب الشاب، بل يمكن تبعاً لوزن نسبة الطلاب 5،24 في المئة والمعلمين فيه 3،26 في المئة اي ما يعادل 8،50 في المئة من مجمل الذين هم في سن التنسيب القول ان الحزب قد اصبح قوة مهمة في القطاع التربوي الذي احتكر العمل السياسي فيه بوصفه اطار اعداد ما سمي ب"الجيل العقائدي". وكان عدد الفلاحين كبيراً نسبياً في الحزب 46278 عضواً، الا ان نسبتهم الى عدد من هم في سن التنسيب من الفلاحين كانت محدودة ولا تتعدى نسبة 2،5 في المئة. كما كان عدد العمال 19544. الا ان نسبتهم الى مجموع من هم في سن التنسيب من العمال لم تتعد نسبة 4،3 في المئة. وكانت اعلى نسبة للأميين في الحزب، بمن فيهم الملمون بالقراءة والكتابة، بين اعضائه الفلاحين والعمال. فمن اصل نسبة الاميين في مجمل الجهاز الحزبي، بلغت نسبة الحزبيين الاميين، الفلاحين والعمال في اواخر عام 1974، 2،32 في المئة، وشكلت قاعدته الاكثر شعبوية.
برنامج "جناح الاسد"... في السلطة
حكم الحزب خلال المرحلة الشباطية عارياً من اي غطاء دستوري حتى ولو شكلياً. ولم تضع القيادة القطرية دستوراً موقتاً الا في الاول من ايار 1969، تحت ضغط جناح الاسد في المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي آذار 1969. من هنا تحددت وظيفة المرحلة الانتقالية بترجمة "البرنامج" الذي طرحه الاسد في "ازمة الحزب" الى خطوات عملية مؤسسية تنتقل بسلطة الحزب من مرحلة الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية. وكان مدخل هذا الانتقال تشكيل حكومة ائتلافية وطنية "جبهوية" في 21 تشرين الثاني 1970، اي بعد خمسة ايام على قيام "الحركة" برئاسة الاسد، وضمت ممثلين عن الاحزاب الخمسة المدعوة للتحالف في اطار "الجبهة" وهي: البعث والحزب الشيوعي السوري خالد بكداش، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي جمال الاتاسي، وحركة الوحدويين الاشتراكيين فايز اسماعيل، وحركة الاشتراكيين العرب عبدالغني قنوت، بمعدل وزيرين لكل حزب من احزاب الجبهة، ما عدا البعث الذي ضَمِن لنفسه الاكثرية.
قامت الحكومة الجديدة للتو بترجمة مفهوم الاسد ل"التضامن العربي" الذي كان احد محاور الخلاف الحاد مع جناح جديد في "ازمة الحزب". فانضمت سورية، في 26 تشرين الثاني 1970 الى "ميثاق طرابلس"، وتم تشكيل الاتحاد الرباعي ما بين سورية ومصر وليبيا والسودان. كما وقعت في 17 نيسان 1971 على اعلان "اتحاد الجمهوريات العربية" بين سورية ومصر وليبيا. اعلنت سورية، في مواجهة الضغوط العراقية لابعادها عن التحالف مع القاهرة، ان دولة الاتحاد هي قاعدة اي عمل وحدوي عربي، وان دستورها هو المستند في علاقة دولة مع اي دولة عربية اخرى تطلب الانضمام الى هذا الاتحاد.
وقام الاسد، في شباط 1971، بزيارة موسكو على رأس وفد حزبي وحكومي لتعزيز التعاون الاقتصادي والفني والعسكري ما بين موسكو ودمشق، وتنفيذ الخطة الخمسية الثالثة السورية التي اعلن عنها في 31 كانون الاول ديسمبر 1971. وكان من اهم محاور التعاون اعلان السوفيات "تدعيم القدرة الدفاعية السورية"، الذي سيكون له دور حاسم في حرب تشرين عام 1973. كما شكلت القيادة القطرية الموقتة الاطر المؤسسية للمشاركة السياسية، وعينت مجلس شعب موقتاً 173 عضواً لوضع دستور دائم للبلاد نشر في 31 كانون الثاني/يناير 1973 وتم الاستفتاء الشعبي العام عليه في 12 آذار 1973، اي اضطلع فعلياً بمهام جمعية تأسيسية. وكان اول اعمال المجلس الموقت ترشيح الاسد الى رئاسة الجمهورية، واجراء الاستفتاء الشعبي العام عليه في 12 آذار 1972، ليحمل لقب "قائد المسيرة" الذي اقره المؤتمر القطري الخامس، كشعارٍ تلتف "حوله الجماهير" في اطار القيادة الجماعية الحزبية.
* كاتب سوري
فصل من مجلد "الاحزاب والحركات القومية العربية في القرن العشرين"، الذي سيصدر عن المركز العربي للدراسات الاستراتيجية في دمشق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.