هي، في اختصار شديد، احدى افضل دورات مهرجان "كان" منذ سنوات. اذ مند زمن طويل لم يجتمع في دورة واحدة كل هذا القدر من الأفلام الجيدة. وخصوصاً كل هذا القدر من افلام المخرجين - المؤلفين. وأكثر من هذا: منذ زمن لم تجمع دورة واحدة كل هذا العدد من ابرز المخرجين المحسوبين، اصلاً، على جيل "كان". ذلك ان هذا المهرجان الفرنسي - العالمي، العريق، صار له مع مرور الزمن، جيله من المخرجين، الذين يعتبر بعضهم اليوم من ابرز مبدعي السينما المستقلة وحتى السينما غير المستقلة وليس في اوروبا وآسيا فقط، بل كذلك في اميركا نفسها. فمخرجون من طينة وودي آلن ودافيد لينش وجيم جارموش وغيرهم ارتبط اسمهم بپ"كان" اكثر مما ارتبط بأي مهرجان آخر، ولا حتى - مثلاً - بمهرجان "ساندنس" المعتبر محطة السينما المستقلة في اميركا. مفاجآت طبعاً غاب دافيد لينش هذا العام, وكذلك غاب الأخوان كوين وألكسندر باين... لكي لا نذكر سوى الأميركيين، ولكن في المقابل حضر جيم جارموش ووودي آلن وروبرتو رودريغز... كما حضر اميركيون جدد، منهم من هو معروف كممثل فإذا به يجرب حظه في الإخراج: تومي لي جونز، ومنهم من هو جديد كلياً، مثل جيمس مارش "الملك". وميراندا جولي بفيلمها الأول "انا وأنت وكل واحد نعرفه" الذي فاز بالكاميرا الذهبية مناصفة مع فيلم سريلانكي. وفي المقابل، حضر طليعيو السينما الآسيوية بوفرة، ما يؤكد ازدهار هذه السينما التي من المؤكد انها تجنح اكثر وأكثر لتكون ظاهرة الربع الأول من القرن الحادي والعشرين... على ايدي كبار صانعيها الحاليين من الصيني شن كيفي، ومواطنه دجانع ييمو، وصولاً الى وانغ جيناوشياو، الى الياباني كوبا باشي، والتايواني هو هسياو هسيين... وغيرهم من تايلندا وسنغافورة... والهند. بل ان واحداً من هؤلاء الطليعيين، وهو هوهسياو هسين، فاجأ المهرجان بتحفة جديدة كان لها مفعول مفاجأة وونغ كارواي للعام الفائت بفيلمه "2046" حملت عنوان "ثلاث مرات" راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة. ولكن اذا كانت آسيا حضرت بهذه الوفرة، سواء عبر افلام عرضت، او عبر افلام مقبلة ملأ الإعلان عنها صفحات الصحف المتخصصة وواجهة الفنادق واللوحات الإعلانية مثلما حدث لفيلم "الموعودة" لشن كيجي، الذي سيعرض في "البندقية" المقبل. فإن الغياب الأوروبي - الغربي والشرقي - كان لافتاً، إذ عدا فرنسا وبلجيكا وعمل ايطالي لم يقنع احداً هو "طالما انك ولدت" لتوليو جوردانو - غابت، ما عدا في عروض ثانوية، وخصوصاً اوروبا الشرقية التي لم يكن لديها هذا العام، ما تقدمه. كبار المستقبل بيد ان هذه الغيابات جميعاً، لم تحرم دورة "كان" من اعمال كبيرة، الأساسي فيها هو ما حمل تواقيع كبار ابناء "كان" ولا سيما منهم من سبق لهم ان فازوا بجائزة او بأخرى فيها، بدءاً, طبعاً، بالدنماركي لارس فون تراير، وصولاً الى الأميركي غاس فان سانت، مروراً بجيم جارموش والأخوين داردين، وطائفة الآسيويين. بل ان لجنة التحكيم كانت برئاسة واحد من الذين ضربوا رقماً قياسياً بالنسبة الى تاريخ فوزه في "كان": امير كوستوريتسا، صاحب السعفتين الذهبيتين والجائزة الكبرى. فما الذي قدمه لنا هؤلاء جميعاً؟ وما الذي قدمه لنا غيرهم من اصحاب اسماء، بدت هذه المرة، جديدة على "كان"... ولكن منها من سيكون خلال السنوات المقبلة، من كبار السينمائيين؟ اولاً... وقبل أي شيء آخر، مواضيع قوية، وأساليب جديدة. لقد ندر من بين كبار "كان" هذا العام، من سار على نهج لارس فون تراير، في التمسك بأسلوب فيلمه الأخير. اذ ان "ماندرلاي" جاء سائراً على نهج سابقه "دوغفيل" - فالاثنان على أي حال هما الجزء الأول والثاني من ثلاثية "يو اس إي"، التي يستعير فيها فون تراير من بريخت وثورنتون وايلدر، اسلوبياً وفي المعنى ايضاً... في مزج بين المسرح وفن السينما خلاق ومدهش -. ولننظر الى هذا الأمر، بادئين بوودي آلن. في فيلم "ضربة المباراة" آخر اعمال هذا الفنان الكبير، والذي عرض في "كان" ولكن خارج المسابقة الرسمية، لديناصورات من ابداع وودي آلن بالتأكيد، ولدينا الإطلالة نفسها على الشخصيات والمواقف بالتأكيد... لكن ما لدينا ايضاً هو فيلم يجدد فيه الفنان شبابه تماماً. وموضوع يبدو اقرب الى مسرح اوسكار وايلد، منظوراً إليه بعيني مخرج من جماعة "السينما الحرة"، اكثر مما لدينا وودي آلن صافياً ونقياً. بهذا يبدأ وودي آلن ما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية، حيث يبدو كل مخرج وكأنه يستعير اسلوب زميله، جيم جارموش، في "زهور محطمة" يذكر بسينما ألكسندر باين صاحب "عن شميت" و"دروب جانبية" اكثر مما يذكر بأفلام سابقة لجارموش نفسه مثل "شبح كلب" و"الرجل الميت". فنحن هنا امام سينما واقعية جديدة تسبر غور الإنسان الأميركي المعاصر من طريق التنقل في الأماكن، وزيارة الماضي عبر الحاضر... او توقع وصول الماضي إلينا بعدما كان خيل لنا انّا دفنّاه. بل يمكننا ان نقول ان وجود بيل موراي... وأسلوب ادائه في "زهور محطمة"، وضعنا مباشرة امام سينما صوفيا كوبولا في "ضاع في الترجمة". ما لدينا هنا جارموش كبير... لكنه جديد ومفاجئ يأتي اشبه بخلاصة وتطوير لكل السينما الأميركية المستقلة. الثنائي يتفكك والأخوان داردين، صاحبا "السعفة الذهبية" بفضل "الطفل" الذي لم ينل إجماعاً على أي حال راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة، بديا هنا امينين لأسلوبهما البؤسوي الذي يعتمد حركة كاميرا عصبية دائمة التأرجح... لكن فيلمهما هذا - والقول نفسه ينطبق على السابق "روزيتا" الذي ايضاً فاز بسعفة ذهبية قبل سنوات - يبدو اقرب الى سينما الإنكليزي كين لوتش، الكلاسيكية في تعاطيها مع قضايا المهمشين والبائسين. اما النمسوي مايكل هاينكه، الذي اكسب فرنسا جائزة "افضل اخراج" عن فيلمه "خفيّ"، بعدما كان اكسبها ايضاً قبل سنوات عن فيلم "مدرسة البيانو" جائزتي افضل ممثل وممثلة، فإنه يبدو شديد البعد في فيلمه الجديد، عن رائعته التي اطلقته قبل اكثر من عقد "فيديو بيني" كما عن "الاسم السري". انه هنا اقرب الى سينما فرنسية يحققها دومينيك مول، الذي كان الافتتاح في هذه الدورة له، بفيلمه الجديد "ليمنغ" الذي حمل واحدة من اهم الموضوعات التي عولجت في سينما "كان" لهذا العام: "تفكك حياة الثنائي" بفعل عنصر خارجي. فحياة الثنائي كانت هذا العام موضوعاً اثيراً في "خفي" كما في "ليمنغ" ولكن ايضاً في "تاريخ من العنف" لدافيد كروننبرغ، ثم خاصة في "ثلاثة اشياء". اما آتوم اغويان الذي اعتاد ان يكون ابناً مدللاً لپ"كان" فإنه هنا خرج تماماً عن كل ما عهدناه، وبدا اقرب الى الكلاسيكيين، من اوتو بريمنغر الى بيلي ويلدر في "سانت بوليفار" مع إطلاله على عالم دافيد لينش في "مالهولاند درايف"، فموضوعه، وإن كان يطل على الماضي الذي لا يريد ان يمضي، يسير ضمن خط التحقيق الكلاسيكي مع التفاتة الى تطور "الميديا" وتأثيرها فينا. فيلم اغويان عنوانه "حيث تكمن الحقيقة"، ولكن من يراه بالكاد يصدق انه لصاحب "ارارات" او "رحلة فليتشيا" او حتى "اكزوتيكا". فماذا نقول، اذاً، في هذا السياق نفسه عن دافيد كروننبرغ، الذي بالكاد ايضاً يمكننا ان نخمن ان "تاريخ من العنف" هو فيلم له؟ اننا هنا بعيدون جداً عن سطوة الجسد ودماره كما في "سبايدر" او "اكزستانس" او عن العنف الداخلي والميكانيكي كما في "كراش" او لعبة التبدل كما في "الذبابة"...ومع هذا، لو دققنا النظر سنجد كل هذا حاضراً... ولو في الباطن، من خلال قصة فرد يعيش حياته هادئاً مع اسرته، مبشراً بعالم لا عنف فيه. لكن العنف يطرق بابه. على شكل حكاية اجرامية عادية، لكن هذه الحكاية توقظ كل ماضيه. رد الجميل حسناً... في امكاننا طبعاً ان نسترسل في هذا حتى النهاية، ذلك ان ما لا يقل عن عشرين فيلماً في "كان" هذا العام تجبر على مثل هذا النوع من الملاحظات... لكننا نفضل ان نترك الكلام عنها في معالجة كل فيلم على حدة. اما هنا فحسبنا التأكيد مرة اخرى على اننا بالنسبة الى دورة "كان" الأخيرة، الدورة الثامنة والخمسين، عدنا لالتقاط انفاسنا امام سينما تجدد نفسها، بتواقيع كبار مبدعيها. تجدد نفسها الى الأفضل. وكان قد حان الوقت لذلك، حيث ان الدورتين السابقتين لپ"كان" كانتا احاطتا هذا المهرجان بالخطر الحقيقي، امام منافسة قوية برزت في "البندقية" مرة وفي "برلين" مرة. وكان من الطبيعي ان يتنطح لإنقاذ المهرجان الفرنسي العريق، كل اولئك الذين لطالما اعطاهم المهرجان مكانتهم... وها هم يردون الجميل اليوم... حتى ولو خرج معظمهم غاضباً ليلة الختام... كما يحدث في كل مرة طبعاً.