من السابق لأوانه التكهن بشأن جدية نيات الاردن في خوض غمار تجربة جديدة لأصلاح المؤسسات الامنية واعادتها الي حجمها الطبيعي، بعد سنوات من تنامي نفوذها، وتداخله في تفاصيل المشهد السياسي العام للمملكة، كما هي الحال في الدول العربية كافة. وتتزامن بدايات التحول التدريجي والمدروس هذا، مع بدء مسيرة إصلاحات داخل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في دول عربية أخرى مثل لبنان والعراق وفلسطين، لتوحيد مرجعيات المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، وتعزيز دورها الاساسي في حماية البلاد من تهديدات خارجية و داخلية في عالم متغير ومضطرب، يواجه استحقاقات تحدي الإصلاح السياسي والاقتصادي، وعولمة قضمت جزءاً كبيراً من السيادة التقليدية للدول. قبل بضعة اسابيع عين الملك عبد الله الثاني مديراً عاماً لدائرة المخابرات العامة خلفاً لمستشاره وصديقه الحميم الفريق اول سعد خير، الذي رفع الي رتبة مشير، بعد حوالي خمس سنوات من اعتلائه هذا المنصب المهم، ساند خلالها بقوة انضمام الاردن الي الحملة الاميركية على الارهاب عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، اذ أجهض عشرات المحاولات التخريبية التي قيل إنها تستهدف أمن واستقرار المملكة الواقعة بين آتون النار المشتعل في فلسطين والعراق. وعهد الملك عبد الله الى المشير خير إنشاء مجلس للأمن القومي داخل أسوار الديوان الملكي على غرار النموذج الأميركي، يشرف من خلاله على سياسات الأجهزة الأمنية الثلاثة - المخابرات والأمن العام والاستخبارات العسكرية - في بلد يحاول جاهداً ان يدخل اصلاحات واسعة على المؤسسة العسكرية لزيادة حرفتها القتالية والدفاعية، وضبط النفقات من خلال توحيد غالبية مزودي الأسلحة والآليات والذخائر، وتسريع آلية اتخاذ القرار، كل ذلك لتقليص نفقات الموازنة السنوية وتحويل الفائض إلى مشاريع تنموية، إضافة إلى محاولة خلق نموذج ريادي للإصلاح في للمنطقة.. وكمعظم زملائه العرب، فإن المشير خير لم يكن يتصرف بمحض إرادته ويقرر الأمور لوحده، وإنما كان يتماشى مع المرجعيات بحكم الدستور أو القانون، ومع المعطيات التي يوفرها مرؤوسوه. وهؤلاء تنعكس عليهم أيضاً سياسات التردد في اتخاذ خطوات نحو الإصلاح الشامل الذي باتت المنطقة بحاجة ماسة إليه، وان اختلفت أهواء غالبية القادة السياسيين والأمنيين. فمعظم قادة الأجهزة الاستخبارية هم"رجال الظل"- لأنهم غالباً ما يتحكمون بخيوط اللعبة السياسية وأحياناً كثيرة باللعبة الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى تدخل الأجهزة الروتيني في الأعلام والأحزاب والمدارس والجامعات، والنشطاء السياسيين، ومنظمات المجتمع المدني. وفي أحيان أخرى وصفوا بأنهم"قوى الشد العكسي"لأن حساباتهم اختلفت عن توجهات الساسة. لذلك، فإن مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي لن يكتب لها النجاح إذا لم تواكب بدء عملية تحديث هذه الاجهزة الامنية وتحديد دورها، واخضاعها لمساءلة قضائية وبرلمانية. وبغض النظر عن الاختلاف السائد في وجهات النظر داخل المجتمعات العربية حول دور هذه الأجهزة وإمكانات تحديثها بطريقة لا تعرض الأنظمة السياسية للخطر، إلا أن أصوات كثيرة بدأت ترتفع حول ضرورة تلازم كل مسارات الاصلاح - الاقتصادي والسياسي والامني. ولكي يخرج الحديث عن ضرورات إجراء إصلاحات واسعة في القطاع الأمن والمخابرات بنتيجة، لا بد من اعادة النظر في موقع هذه الأجهزة في هيكل الهرم السياسي للدولة ودورها الاقتصادي في المجتمعات، لأنها كلما كبر حجمها كلما ضاقت المساحات المخصصة للقوى الأخرى. التغيير في الأجهزة الأمنية في لبنانوفلسطين والعراق والاردن سيفضي بالتأكيد الى ازالة التابوهات المترسبة في مجتمعاتنا بخصوص هذه الاجهزة، وسيفتح الباب على مصراعيه للحديث عن هذا القطاع المهم ودوره في تسريع او ابطاء عملية الاصلاح. فالدول العربية التي تبنت مسيرة الإصلاح الشامل كهدف استراتيجي خلال القمة العربية الاخيرة في تونس، لن تستطيع الاستمرار في الحديث عن نيات انفتاح شامل، اذا بقي اصلاح الاجهزة الامنية وتحديثها خارج هذا الاطار. فهذا المسار لا يمكن فصله عن الهدف الأكبر للعملية التي تهدف إلى حماية الأمن الوطني، وأمن المواطن، والاستقرار الداخلي والمنجزات المتحققة، لتعزيز مسيرة التنمية والتحديث بطريقة متوازنة تحفظ مصالح الحاكم والمحكوم. حال الطوارئ المفروضة على معظم العالم العربي منذ عقود، لم تعد تجلب الأمن والاستقرار، وإنما ساهمت وتساهم في تفكيك المجتمع وتنميط المواطنين، وخلق ردة فعل عكسية تجاه السلطة قائمة على الحقد والكراهية والانتقام وغياب الاندماج الوطني وهو تحد ممكن ان تستعمله القوى الخارجية، أميركية أو غيرها. بل ساهمت حال الطوارئ عن الغاء الدساتير، وتجميد القوانين واعطاء اجازة للقضاء المدني، وأدت الى تغوّل الاجهزة الامنية على القطاعات كافة، والى اضعاف الحركات السياسية والسيطرة على الاعلام في محاولة لتوجيه عقل المواطن، كما أدت الى هيمنة ثقافة الخوف على عقول الناس وافرزت خراباً أخلاقياً ونفسياً وانهياراً للقيم، في ظل تحييد المراقبة البرلمانية . هذا الموضوع الشائك كان محور ندوة مغلقة ومهمة نظمت في عمان قبل بضعة شهور بالتعاون بين مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية ومركز جنيف للسيطرة الديموقراطية على القوات المسلحة. ساهم هذا المعهد غير الربحي في إدخال إصلاحات أمنية في روسيا بعد تفكك الاتحاد. ركزت الندوة على مفهوم جديد يروج له المعهد الأوروبي ويتمحور حول"تمدين الأمن والعسكر"، أي تغليب الصفة المدنية على هذا القطاع الأمني الواسع، لأن ذلك يساعد على زيادة الشفافية والمساءلة للميزانيات السرية وغير الخاضعة لرقابة الحكومة اوالبرلمان. فاستمرار هذا النهج يساعد على استشراء ثقافة التواطؤ والسرية داخل الأجهزة، والتي قد يرتكب باسمها كل أشكال وأنواع ممارسات الفساد وخرق حقوق الإنسان، واستعمال منطق القوة والقمع. يقول المعهد إن ذلك التحول ضروري للدول التي تقف على أبواب مراحل تغيير وتحديث، لأنه في الأنظمة العالمية الديموقراطية يفترض ان يتخذ الساسة وليس العسكر القرارات المصيرية مثل اعلان الحرب او اقرار معاهدة او تغيير اولويات الاجندة الداخلية. ويسير ذلك بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية التي تكون رافعة وقوة لضمان استرار الديموقراطية وسيرها على هذا النحو. كل ذلك الحديث الشيق والحساس والمسؤول جرى بين المعهد وعدد محدود من المسؤولين الأمنيين الأردنيين السابقين والحاليين من رتب عالية، وممثلين عن المجتمع المدني في مناقشات جرت داخل حرم جامعة حكومية في ظاهرة يقول د. حمارنة إنها ربما تكون الأولى في العالم العربي. والمؤمل أن يعكس الأردن روحه الريادية والمبادرة وان يتحرك وربما يعلن مبادرة عربية على شكل رسالة حول ضرورة بدء الحديث عن الاصلاحات الامنية في العالم العربي، على غرار رسالة عمان الاخيرة التي دعت الي الوسطية والاعتدال الديني بوجه الارهاب الذي بات يمارس أحياناً كثيرة باسم الدين ويشوّه صورة العرب والمسلمين أينما كانوا. وقد شهدنا في الايام الاخيرة ممارسات غير مسبوقة في الاداء الامني: كأن يقوم مدير الامن بزيارة"كشك ابو علي"بعد ايام من دهمه ومصادرة كتب منه، أو أن يلتقي المدير الجديد للمخابرات مع لجنة الحريات في البرلمان في حوار هادئ، أو يتبادل المدير الجديد رسائل التهاني مع نقيب المحامين... هذه ممارسات تنم عن سعي الى شيء من الأنسنة التي افتقدها الامن. باستطاعة مبادرة كتلك التكلم عن خطوط عريضة لإدخال إصلاحات خلاقة ومفاهيم لحصر دورها بالمسؤوليات الأمنية الأساسية، ومحاولة توطيد التعاون والتكامل بين الاجهزة بدل من التنافس، وفك التشابك بين الأمن من جهة والاعلام والتربية والتعليم. فمع ازدياد القدرات القمعية للأجهزة والقائمين عليها، لا بد ان يكون هناك من يهجس بالمجتمع المدني والتحديات التي يفترض الاعتماد عليه ايضاً في مواجهتها. صحافية وكاتبة من الأردن.