التقي الرئيس الأميركي جورج بوش حليفه العربي الأول العاهل الأردني الملك عبدالله يوم الاثنين في البيت الأبيض، وسط متغيرات محلية وإقليمية ودولية قد لا تكون بعد الآن في صالح مملكة كانت تطرح نفسها ولسنوات نموذجاً للإصلاحات السياسية التي ترغب أميركا في فرضها على العالم العربي. الواضح أن بوش يبدو أكثر إصراراً هذه المرة على أن سياسة واشنطن في الشرق الأوسط لم تعد تستهدف دعم الأنظمة الشمولية بحجة الحفاظ على الاستقرار، في ظل تشديده على أن"الأنظمة القمعية والبوليسية لن تكون جزءاً من المستقبل، بل هي جزء من ماض فقد مصداقيته". قبل بضعة أسابيع أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقريرها السنوي عن الأردن ووجّهت فيه انتقادات حادة"للانتهاكات الحكومية لحقوق الإنسان، وتراجع حرية التعبير المكفولة في الدستور". وأردنياً، فجرت الأزمة الحادة بين الحكومة والنقابات المهنية جدلاً داخلياً واسعاً حول ملف ووجهة الإصلاحات السياسية التي طرحها الأردن عام 1989 كمنارة للديمقراطية للمنطقة التي كانت تغط في ظلام الأنظمة الدكتاتورية. ووضعت هذه الأزمة برامجه الإصلاحية في اختبار حقيقي وأظهرت الازدواجية الحادة بين النظرية، والتطبيق على الأرض. صحيح أن الملك عبدالله الذي استلم الحكم عقب موت والده عام 1999 قد بدأ ثورة بيضاء لتحديث الاقتصاد ورفع قدرته التنافسية إقليمياً ودولياً، وأصبح العالم يتغني بالإصلاحات الاقتصادية التي انعكست أيضاً أرقام نمو اقتصادي داخلي ممتازة مقارنة مع واقع المنطقة. لكن أية خطوات وسياسات واضحة لم تتخذ من جانب الملك والحكومات المتلاحقة لتعزيز نهج العودة الى مسيرة الديموقراطية التي بدأها الملك الراحل الحسين عقب اندلاع تظاهرات مناوئة للحكومة في الجنوب العشائري، المعقل التقليدي للموالاة. ولم يبد الحماس والمتابعة الحثيثة لملف الدمقرطة والحريات مقارنة مع الجهد الذي بذل باتجاه تعزيز مسيرة الانفتاح الاقتصادي والتعليمي، وظلت الحلقة الكلية تدور بتقاطع وتناقض. فعامل الوقت الآن لم يعد في صالح هذ النهج لأن معطيات الزمن تتغير تحت سياسات بوش، وبفعل التغيرات الجديدة التي شهدها العالم العربي من انتخابات في العراقوفلسطين، وهما بلدان لا يزالان تحت الاحتلال، وخطوات نحو بدء المشاركة السياسية في مصر والمملكة العربية السعودية، وتظاهرات المعارضة والموالاة حول الوجود السوري في لبنان بعد اغتيال الحريري. وإذا سارت الأمور على ما يرام في فلسطينوالعراق فقد تتحول هذه الدول تدريجاً الى أمثلة للتعددية السياسية وإذا أقامت سلاماً مع إسرائيل، قد تتحول الى نماذج عربية للموالاة للغرب بمعايير واشنطن السياسية الضيقة. والحبل على الجرار بالنسبة الى تداعيات نظرية الدومينو الممكنة على الإقليم الذي يعاني عجزاً حاداً من ناحية الحريات والحاكمية الرشيدة وحق تقرير المصير وضعته بعد دول أميركا اللاتينية ودول جنوب شرق آسيا حسب تقرير التنمية لعام 2004 التي ستصدره الأممالمتحدة عن العالم العربي قريبا. ولن يكون باستطاعة المملكة أن تستمر في لعبة تغيير التكتيك والسياسات المزدوجة والمتناقضة وإنصاف الحلول، فالأردن خسر الكثير في موقعه وقوته التنافسية على مستوى الشرق الأوسط من ناحية مسيرة الإصلاحات السياسية والعودة إلى الديموقراطية. فالاصلاحات التي بدأت بعد توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل تباطأت بفعل ضرورات إسكات المعارضة، وأطلقت عليها رصاصة الرحمة بعد بدء حملة بوش على الإرهاب وعلى نظام صدام حسين، بينما كانت المواجهات الإسرائيلية - الفلسطينية على اشدها، ما انعكس على الساحة الداخلية التي لم تحسم أمر الهوية الوطنية بعد وسط تنامي الشعور المعادي لأميركا وإسرائيل، وأعاد المعادلة الداخلية لصالح أولوية الأمن. وبعد مرور 15 عاماً على تحرك القطار نحو الديموقراطية في الأردن انتهت الصورة الى ما هي عليه اليوم: تحويل المملكة إلى"أوتوقراطية ليبرالية"ذات اقتصاد منفتح، بدلاً من تعميق نهج الملكية الدستورية الكاملة التي يتم فيها تداول السلطة بين حكومات منتخبة لها أجندات وسياسات محددة، على سبيل المثال لا الحصر، وتتقلص فيها مسؤوليات الملك وإن كان الدستور قد منحه إياها. وربما سارت وتيرة الإصلاح المنشود بسرعة اكبر عن عوامل التغيير المطلوبة لتعزيزها ومنها عدم اللجوء إلى اختيار أدوات تنفيذية لإيجاد النقلة التقدمية الممكنة، وهيمنة قوى الشد العكسي والبيروقراطية القاتلة، وصعوبة اختراق وتغيير العشائرية السياسية والجهوية وحسابات الجغرافية وضعف الأحزاب والمجتمع المدني وغياب آليات الرقابة. بالاضافة الى ذلك، لم يكتمل التوافق على الهوية السياسية خصوصاً أن استمرار الصراع العربي - الإسرائيلي لم يمكن العديد من الفلسطينيين في الأردن من حسم مسألة الانتماء والولاء وتعمق هاجس ضرورة الحفاظ على الهوية الأردنية. وعلى رغم إلغاء وزارة الإعلام قبل عامين، شددت السلطات الرقابة على كل الصحف العامة والخاصة، وتم تشديد كل القوانين"الناظمة"لحرية الإعلام وحقوق الاجتماع العام والانتخابات البرلمانية، والانتخابات البلدية ومجالس طلبة الجامعات الرسمية، وكل ذلك لإسكات المعارضة، التي يسيطر عليها الإسلاميون. وباتت الصحف اليومية المملوكة للقطاعين العام والخاص متشابهة، وغالباً ما تظهر على هيئة واحدة عندما يتعلق الأمر بأي نشاط ملكي سواء كان روتينياً أو استقبالاً لشخصيات عربية وعالمية مهمة. وباتت هذه السياسات المتناقضة في الحملة الأخيرة والتي تحاول من خلالها الحكومة فرض"مبدأ الصوت الواحد"على الانتخابات النقابية، بدلاً من التمثيل النسبي الأكثر توافقاً لكي تفتت صوت المعارضة لسياسات الأردن مع أميركا وإسرائيل في وقت تشهد الساحة المحلية احتقاناً بسبب الفقر والبطالة وممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والأميركي في العراق وغياب فرص الأمل. وأعيد الاعتبار لمسلسل الإغراءات المالية والاعطيات والتعيينات في المناصب الرسمية العليا لكسب الولاء والانتماء بعدما كانت قلصت كثيراً عندما اعتلى الملك عبدالله العرش وعادت الى السطح مطالب بضرورة التفريق بين الحكم والتجارة بعدما أثارت مخاوف جديدة ناتجة عن "تلزيم"سلسلة من العطاءات الرسمية بملايين الدولارات لرجل أعمال أردني على علاقة وثيقة بمراكز القوى جميعها. كل ذلك في ظل الإضعاف المتعمد لدور رئيس الوزراء منذ أكثر من عام، إذ تحول هذا المنصب السيادي إلى إداري يُعنى بشؤون الفريق الوزاري، وأصبح الملك يشرف بنفسه على إدارة العديد من السياسات وبرامج الوزارات، ما أزاح قوة الغطاء العازل بينه وبين الشعب في حال سارت الأمور بعكس المرغوب فيه، وأعطي دور أكبر للأجهزة الأمنية في الإدارة السياسات الداخلية والخارجية أسوة بما هو الواقع في سورية ومصر وفلسطين. وفي المشهد السياسي، بدا أن الملك الشاب الذي تلقى جل تعليمه الأكاديمي في الغرب، حسم أمره، ولو مرحلياً، لصالح تحول القوى التقليدية والمحافظة بعدما كانت كفته تميل لصالح وجوه شابة اختيرت لتجديد شباب الدولة ونشر الهوية الجديدة للأردن القائمة على مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة والديموقراطية والحرية والمساواة في ظل اقتصاد سوق. فهؤلاء الشباب، وغالبيتهم من التكنوقراط، لم يستطيعوا التعامل مع القوى السياسية القائمة ومع الواقع، وأصبحوا عبئاً على النظام. وتدريجاً، عكست الصورة لصالح المدرسة القديمة والمحافظة وفكرها المستمر حتى بين أوساط الشباب الذين هم استمرار لهذه الذهنية. إزاء هذه التطورات، لا تزال هناك إمكانية لتحول كبير في إعادة العمل على خلق توافق وطني حول مسيرة التحول السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر صياغة الأجندة الوطنية للعقد المقبل، وعبر مشروع تقسيم المملكة إلى ثلاثة أقاليم والعودة إلى القواعد الشعبية. وربما كان هذان المشروعان والمتوقع الانتهاء منهما في أيلول سبتمبر المقبل"حبل خلاص الأردن"من ضغوط أميركا المرتقبة لتعزيز نهج الإصلاح السياسي. اذ يمكن هذين المشروعين ان يحددا الوجهة الجديدة للأردن على أسس علمية وسياسات يرتبط تنفيذها بتوفير المخصصات اللازمة في كل ميزانية، كما انهما سيساعدان الملك على أن يجد التوازن المناسب بين تطلعات الأردنيين والسياسات التي يفرضها الواقع لخلق توافق وطني وتجسير الفجوة بين ما يسمى بالحرس القديم والجديد حول هوية الأردن الجديدة. وعندما تنتهي اللجنتان المكلفتان درس هذين الملفين سيكون بامكان الملك اختيار حكومة جديدة ببرامج تحول واقعية لتعزيز نهج الإصلاحات عن طريق أهداف تستطيع استقطاب أدوات التغيير والتجديد بدلاً من الاستمرار في لعبة الكراسي والوجوه القديمة والاستمرار في التناقضات والتردد، خصوصاً أن رياح الإصلاح السياسي ستقرع كل أبواب العالم العربي من الآن وصاعداً. صحافية اردنية.