يجمع الدكتور معروف البخيت، رئيس وزراء حكومة"الأمن والإصلاح"الجديدة في الأردن، مواصفات الشخصية العسكرية/السياسية الوطنية القوية، والتي قد تعين على مكافحة تحدي الارهاب، وتحفيز وتيرة الإصلاح سياسة واقتصاداً، وكذلك الانفتاح الذي أصبح ضرورة وليس ترفاً، بعد تفجيرات فنادق عمان مساء 9/11/2005، لكن بعكس الرئيس"الجديد والمختلف"، جاءت تشكيلة الحكومة، التي أدت اليمين يوم الاحد، دون مستوى التوقعات التي رافقت تكليفه. جاءت خالية من التعددية السياسية المطلوبة في هذا الظرف المحلي الصعب، تقليدية بامتياز، لم تعزز الانطباع بجدية التغيير، على رغم بعض اللمسات والشخصيات هنا وهناك. فالتغيير بدا كأنه تعديل وزاري، وان مسّ شخص الرئيس هذه المرة. إذ أبقي على أفضل الوزراء السابقين، وجيء ببعض المخضرمين، وبعض الاشكاليين، وبعض الوجوه الجديدة، بسبب ضعف آلية تشكيل الحكومات بطريقة أكثر ديموقراطية، وعلى أساس برنامج حكومي تقره الغالبية. لذلك يخشى ان تفقد هذه الحكومة سريعاً وهجها وبريقها، لتبدأ السير في حقل الألغام الاقتصادية والسياسية، وتواجه شغب ألسنة نخب عمان السياسية الشرسة. الثابت الوحيد ان هناك فرصة سانحة تلوح في الأفق، بعد العمليات الارهابية، لتكريس الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مفهوماً ومعنى، ومحاربة خطر الإرهاب، والفكر التكفيري الذي تتوفر له بيئة حاضنة، ممارسة وثقافة. هذا يتطلب إعادة النظر في سياسة الإعلام، وما يقال على منابر المساجد، وما يقرأ في كتب المدارس. فالخطاب الرسمي، وحاضنات تشكيل الرأي العام، لم تساعد المواطن على تفريق مفاهيم المقاومة المشروعة والإرهاب الذي يقتل الأبرياء، بصورة المتداخلة والتي ساهمت في زيادة ضبابيتها سياسات الاحتلال الأميركي والإسرائيلي في العراق وفلسطين. عمليات تنظيم"القاعدة"في العراق بقيادة الأردني الطريد أبي مصعب الزرقاوي، أظهرت ضرورة الابتعاد عن سياسات الإبقاء على الأمر الواقع، التي لن تأتي إلا بالمزيد من العنف والارهاب. سحبت البساط من ثنائية الفقر والبطالة، الهم الأكبر شعبياً، باتجاه ضرورة مكافحة ثقافة الغلو والتكفير. وتزامنت مع احتدام الجدل الداخلي حول تعثر مسيرة التحديث، التي أطلقها الملك عبدالله عقب توليه الحكم عام 1999، بسبب سياسات المراوحة، وغياب أدوات تنفيذية مقنعة شعبياً، ووطأة الهواجس الأمنية بسبب تردي الأوضاع السياسية في العراق وفلسطين. على الدكتور البخيت انجاز قوانين مهمة، للأحزاب، وللانتخابات النيابية المقبلة على اسس النسبية السياسية صوت للدائرة، وصوت للوطن، وتشريعات أخرى للبلديات، ولمكافحة الفساد، ولصد الإرهاب واصلاح مدارس التكفير. إلا ان إقرار قانون الانتخاب سيكون المهمة الأصعب التي تواجه الحكومة، نظراً الى أنها ستوسع تدريجاً قاعدة تمثيل الأردنيين من أصول فلسطينية نصف المجتمع حالياً في البرلمان في عملية كانت حتى الآن مضبوطة من خلال قوانين فضلت الدوائر ذات الثقل العشائري، بانتظار الحل النهائي للقضية الفلسطينية لحسم مسألة الولاء السياسي. وهنا يأتي الرهان على شخصية الرئيس، ابن عشيرة شرق أردنية، قريب من نبض الشارع، مشهود له بنظافة اليد، وليست له ارتباطات مثيرة للشبهة مع مصالح نخب المال والأعمال، ولديه أفق سياسي وفكري قربه الى يمين الوسط، أو ما يسمى"بالمحافظة المستنيرة". هذا قد يساهم في تقليل مخاوف الإصلاح السياسي، ويعطي جدية لنيات الإصلاح، في بلد اختلط فيه الكثير من مفاهيم التجارة والحكم أخيراً، في غياب رغبة مجتمعية واضحة باتجاه التغيير. فالبخيت يؤمن بالإصلاح، لكن بطريقة تدريجية وتراكمية، بدلاً من التغيير السريع الذي طالب به من يسمون"بالليبراليين الجدد"من الشباب الذين تصدروا مشهد الحكم في الأردن في السنوات الثلاث الماضية، بدعم من الملك، لكنهم لم يراعوا كثيراً الواقع، والممكن، ولم يتفهموا تركيبة موازين القوى، ومعادلة الديموغرافيا. وبإمكانه استيعاب قوى الشد العكسي، وأصحاب النفوذ من المحافظين المتشددين، الذين يتمتعون بامتدادات شعبية داخل الجهاز البيروقراطي، والبرلمان، والأجهزة الأمنية، والذين تكالبوا لإحباط التغيير. وسيكون اكثر قدرة على ضبط إيقاع اللعبة السياسية الداخلية مع البرلمان، الذي دلت استطلاعات الرأي إلى أن الشعب غير راض بصورة كبيرة عن أدائه السياسي والتشريعي والرقابي. ويقف البخيت في منتصف الطريق، بين المعسكرين المتناقضين من الوطنيين، لهم حجج مقنعة، ومخاوف مشروعة، يجب الالتفات إليها، وأخذها في الاعتبار. بين الخندقين تقع الغالبية الصامتة، وهي تطمح إلى قيام دولة ديموقراطية حديثة قائمة على المساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة في توزيع الموارد، بغض النظر عن الأصل والفصل، وقضاء مستقل، ومناخ من الانفتاح السياسي وحرية التعبير، ونظام تعليمي حديث. هؤلاء لا يزالون يبحثون عمن يقودهم. السيرة العلمية والعملية للرئيس البخيت تمزج بين منهجية التفكير العلمي في جامعات أميركية وبريطانية، وعمق استراتيجي كسبه في الجيش ودائرة المخابرات العامة، كللها بخبرته في مجال السياسة: كمنسق عام لمفاوضات السلام الأردنية - الإسرائيلية، ولاحقا كسفير لبلاده في تركيا، وفي تل أبيب، التي عاد إليها سفيراً قبل ستة أشهر، بعد تردٍ في العلاقات الثنائية عقب اندلاع الانتفاضة. وربما كانت مهمته الأصعب، لكنه تعامل بجدية وجرأة ووضوح مع أكثر الملفات تعقيداً. وعلاقاته جيدة مع الاوساط السياسية في اميركا واسرائيل. بعدما أمضى ستة شهور في اسرائيل، كان البخيت يتردد خلال عطلته الأسبوعية على عمان لرسم استراتيجية عمل لوكالة الأمن القومي الجديدة مطبخ صنع الاستراتيجيات الأمنية والسياسية داخل الديوان الملكي، عينه الملك عبدالله نائب مدير الوكالة، ومديراً لمكتبه الخاص بالوكالة. وبسرعة كسب ثقة الملك، العسكري التكوين. ساهم كثيرا في بدء تغيير انطباعات عامة تكونت بفعل بعض القرارات السياسية التي اتخذت، وخلقت انطباعات سلبية حول تردد وازدواجية في السياسات، والإقصاء السياسي لبعض رموز السياسة من المشهود لهم بخبرتهم. وساهم في صياغة ملفات التغييرات السياسية الداخلية الأخيرة، التي كانت تلوح في الأفق، والصدفة وحدها استبقتها بالعملية الإرهابية، بطريقة راعت اعتبارات سياسية واجتماعية أساسية افتقدتها محاولات التغيير منذ عام 1999. وهذا ما رفع سقف التوقعات الشعبية حيال خروجه بحكومة أقطاب قوية. الملك عبدالله، علق الجرس، وبدأ بمكتبه ليدلل على نياته، من خلال إعادة ترتيب الديوان الملكي، عبر إقالة ثمانية من كبار مستشاريه، منهم المشير سعد خير، المدير العام لدائرة المخابرات العامة السابق، الرجل الإشكالي، والأقوى خلال السنوات الثلاث الماضية، من خلال تدخله اليومي في أدق تفاصيل مشهد الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد. وسمى الملك مجلس أعيان جديد، أعاد إليه رؤساء الوزارات السابقين الذين كانوا أقصوا عنه، وعين فيه أعضاء يمثلون تعددية أكبر وخبرة أوفر، وكانت التشكيلة السابقة للمجلس افتقدت مثل هؤلاء، حتى لو زاد عدد الأعضاء من المتقاعدين العسكريين. وسلمت للملك الأسبوع الماضي توصيات لجنة الأجندة الوطنية، التي حددت سياسات التحديث التعليمي والسياسي والإعلامي والاستثماري لعام 2015، إضافة إلى توصيات أخرى قدمتها لجنة تنمية الأقاليم، لتعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار. ثم جاءت الحكومة الجديدة، التي يطالبها المواطنون باعتبار الأمن ورغيف الخبز أولوية، ومواءمة القول بالفعل، وهناك تحدي الارهاب الزرقاوي القادم من العراق، محفزاً بانعدام الأمن تحت الاحتلال الأميركي، ومدعومة بقاعدة شعبية تسير باتجاه التشدد. من الآن فصاعداً، لن يكفي أن يعيد المسؤولون نمو التطرف الى القوى المتشددة التي خطفت مبادئ الدين الإسلامي الحنيف. عليهم إعادة النظر بمخاطر التحالف مع أميركا، في منطقة تبدي غالبية شعوبها مشاعر مناوئة لسياسات واشنطن، وتشكو من الفساد وغياب المساءلة، وضآلة فرص العدالة الاجتماعية، والمشاركة في صنع القرار. معركة الإصلاح صعبة وحساسة، خصوصاً أن عليها المواءمة بين الضرورات الإصلاحية، والامنية من دون عزل التيار الإسلامي المعتدل برئاسة الإخوان المسلمين، ومن دون التحول إلى دولة بوليسية. وأيضا لأن المعركة هي معركة صراع النخبة السياسية الجديدة والقديمة على النفوذ والمواقع والمصالح. البخيت وضع نفسه في موقف صعب بعد التشكيلة الاخيرة، وستثبت الايام والاسابيع المقبلة صدقية النيات الرسمية حول ضرورة انطلاق قطار التحديث، اليوم قبل الغد. وقد يمنحه الشارع والساسة، والنخب بعض الوقت، مراهنين على مزاياه الشخصية، وامكانات بعض الوزراء في فريقه. لكن هناك مخاوف من ان تنحسر موجة التغيير التي بدأت في الديوان والأعيان أمام دار الرئاسة. كاتبة وصحافية أردنية.