لا تقل مفاجأة الجمهور او"الشارع العربي"بالدور السياسي الذي يلعبه رجال الدين في لبنان، عن مفاجأة سابقة وحديثة العهد، بمثل هذا الدور لرجل مثل السيد علي السيستاني، ولدور اقل لهيئة مثل"هيئة علماء المسلمين"في البلد نفسه. ففي الوعي الجاري ان رجال الدين هم رجال افتاء يحللون ويحرمون، ولا ينغمسون في عالم السياسة مثل اهلها"المحترفين". وعدا عامة الناس الذين ترتسم في اذهانهم صورة لبنان، باعتباره بلداً للسياحة والمقاومة، فإن كثرة من معلقين سياسيين لا يبتعدون عن هذا التصور، وفي ديار عربية يوصف اهلها هنا وهناك بأنهم مسيسون حتى العظم، وقد يفاجأ لبنانيون ان البطريرك الماروني نصرالله صفير، ليس معروفاً خارج بلده سوى بصفته اللاهوتية، وبالمحددات الدينية لهذه الصفة. اما السيد حسن نصرالله، فإن صفته كقائد للمقاومة تحجب مركزه الديني، فيصبح مستعصياً على الفهم ان ينخرط البطريرك الماروني في السياسة، او ان يخوض السيد حسن نصر الله في المعترك الانتخابي بدلاً من التفرغ لجولات جديدة من النشاط المقاوم. اما السيد السيستاني في العراق، فيبدو كشبح على رغم انه يستكمل نشاطاً مماثلاً بدأه السيد الخميني في سبعينات القرن الماضي في النجف. وقبل وقت غير بعيد فقد فوجئ الجمهور او"الشارع العربي"حتى بوجود شيعة في العراق. اجل، هكذا، فقد كان الظن ان هناك شعباً عربياً واحداً متحداً في بلاد الرافدين، وهي صيغة تغلب على ما عداها وقد تجب سواها. ذلك ان تسييس الجمهور يقوم على التحشيد والتعبئة لأهداف كبرى فقط، وهذه الأهداف لا تتسع للانشغال بفروق وتفاصيل صغرى، من قبيل إدراك ان هناك سنّة وشيعة في العراق، الى جانب اعراق ومذاهب اخرى. اما في لبنان، فيكف الوقوف عند المعلومة"الخطيرة"، بأن النظام في هذا البلد طائفي، وأن هناك بعدئذ زعامات وطنية لبعض الطوائف، بل ان هناك طائفة وطنية او اكثر، كما تردد ذات مرة في ادبيات يسارية، ومعقد القضية بالطبع هو مناوأة اميركا وإسرائيل فحسب. وقبل نحو عقد من الزمن اطلق شيخ من عرب 1948 فتوى سياسية تجيز المشاركة في انتخابات الكنيست، وبفضل هذه الدعوة التي اطلقها الشيخ عبدالله نمر درويش، بدأ نواب إسلاميون"يأخذون"مقاعد لهم في الكنيست، وقد عرفت منذ ذاك الحركة الإسلامية التي رفض جناح آخر منها المشاركة في اللعبة الانتخابية، وعلى رغم ان المشاركة اتت بجديد في توسيع المشاركة في الحياة السياسية، إلا ان ما استقر في الأذهان هو رفض المشاركة، ونسجت حركة حماس على هذا المنوال في اول انتخابات تشريعية أجريت في العام 1996، قبل ان تكتشف ان الحلال والحرام في هذه المسألة ليس بيناً، وأن ثمة فسحة للاجتهاد قد تجيز، وقد اجازت، المشاركة في الانتخابات النيابية المقررة لهذا العام. وعلى هذا النحو، يتقدم رجال الدين الى المضمار السياسي ويملأون فراغاً، ساهموا هم بهذا القدر او ذاك في صنعه. فرجال الدين او الطوائف في لبنان، هم زعماء سياسيون وبامتياز كما يقال في هذا البلد، ولكن من دون التأثير الكافي في جمهورهم، نحو القناعة بأن السياسة هي تدبير بشري، وأن أتباع الطوائف هم مواطنون وشركاء مع سواهم بهذه الصفة، مما تنتفي معه الحاجة الى تحشيد طائفي. وفي العراق إذ نجح السيستاني في ان يختط طريقه الى خريطة طريقه لمقاومة الاحتلال، فإن نجاحه هذا اصطدم بالفرز الطائفي الذي تولاه في اول انتخابات عامة، وذلك عبر وضع قوائم طائفية صافية. على ان مثل هذا المأخذ لا يحجب الظروف العراقية الخاصة، المتمثلة في الاختزال القسري والقهري على مدى عقود والذي حرم المكونات الاجتماعية والطائفية من التعبير عن وجودها، وحرمانها حتى من اداء طقوسها وشعائرها. وأدى التعميم وعملية التجهيل، الذي بثته ثقافات سياسية شعارية وتبسيطية، الى ان يصطدم"الشارع العربي"بما يعز على الأفهام: الشيعة يقاتلون الاحتلال ببسالة في لبنان، ويمالئونه في العراق! وليس هناك من سبيل لإبراء هذا الجرح في"الوعي"سوى العودة الى التصنيفات الأولى بين من يقاومون ومن يستنكفون، ودعك من حديث الطوائف والملل والنحل التي تشرذم الصفوف وتشوش الرؤية. وفي المحصلة، فإن سياسة رجال الدين اياً كانت الملاحظة عليها تظل متقدمة على سياسة مريديهم. اذ ان الخلط القديم العهد بين ما هو دعوي وما هو سياسي حرم الجمهور من تدبر معاني السياسة، حتى حين يخوضها رجال دين بل زعامات دينية. فجمهور"حماس"يستعد لمعاضدة رموزه وتغليبهم على حزب فتح العلماني، ولا يتأهب للخوض في حق المشاركة وبناء حياة سياسية دستورية متطورة. ومؤيدو قائمة"البيت الشيعي الموحد"خاضوا المعركة صفاً موحداً تلبية لنداء المرجع، وليس بالضرورة من اجل عراق حر موحد لجميع ابنائه. اما في لبنان فحتى المتنورون"المتفرنجون"يرفعون رايات طائفية، من اجل ضمان الفوز وكسب القلوب، وليس من اجل تجديد النظام السياسي في بلدهم، فما بالك ببقية الناس. وهكذا فإن فكرة هذه المقالة تقوم على ان مشاركة رجال الدين في النظام السياسي، هي خطوة محمودة، بما تشتمل عليه من اعتراف بهذا القضاء كمجال للمنازعة والتداول السلمي على السلطة وإشراك المتدينين في الحياة العامة، غير ان هذه الخطوة لا تقترن بخطاب سياسي بل ديني وهنا وجه المغالطة، التي تؤدي الى ابقاء الجمهور في اطار مفاهيم ذهنية سابقة، على خوض المعترك السياسي ومفترقة عنه، فلا يطرأ تغيير يذكر على الثقافة المتداولة مع تديين السياسة، وذلك بدلاً من عقد مصالحة وبناء جسور بين المجالين السياسي والديني، ثم وقف الخلط بينهما. * كاتب اردني.