قبل انتهاء جولته الرعوية للولايات المتحدة، رفع البطريرك اللبناني الماروني نصرالله صفير، حدة انتقاده لنظرية التنسيق بين مساري الدولتين اللبنانية والسورية، وقال ان الوصف يناقض الواقع على اعتبار ان الأولى هي صنيعة الثانية. وشكك البطريرك في جدوى الخطوة الاصلاحية التي أقدمت عليها الدولة لاقتناعه بأن لبنان عاجز عن اتخاذ القرارات المصيرية المهمة وحده. وعليه انتفت ثقة المغتربين بالقوانين والحكومة، وأصبح الاقتصاد في حكم البائد. ولما سألته "الحياة" عن الأسباب التي حالت دون استقباله في البيت الأبيض، وما إذا كانت الديبلوماسية اللبنانية نصحت بذلك، رفض الجزم بهذا الأمر، ولكنه أعطى الشك مساحة واسعة عندما قال: "ربما يكون هذا التفسير صحيحاً". لكن عبارات اللياقة لم تنجح في اخفاء مرارته وعتبه على المسؤولين اللبنانيين، كأنه متأكد من تدخلهم لدى الادارة الاميركية بهدف منع استقباله في البيت الأبيض. ويتردد في بيروت ان السفير الاميركي ساترفيلد حذر في تقاريره من الأثر السلبي الذي يحدثه لقاء البطريرك مع الرئيس بوش قبل زيارة الرئيس اميل لحود لواشنطن، خصوصاً وان صفير لمح في كل الخطب التي ألقاها خلال جولته، الى أهمية بحث تدويل المسألة اللبنانية، وضرورة اخراجها من قيود الطائف. وأعلن في ميامي عن رغبته في مراجعة الادارة الاميركية الجديدة في شأن الالتزام الذي وعد بتحقيقه الرئيس الأسبق جورج بوش الوالد عام 1988. يومها قال للبطريرك صفير انه يدعم استقلال لبنان وقراره الحر. ويبدو ان البطريرك كان حريصاً على اثارة موضوع الوجود السوري مع الرئيس بوش الإبن، مذكراً بالوعد الذي قطعه والده على نفسه قبل اثني عشر عاماً. وخشية ان يوظف البطريرك محادثاته مع بوش لتوسيع رقعة التيار المعارض لاستمرار الوجود السوري في لبنان، تدخل مسؤولون ممن عرفوا بعلاقاتهم الوثيقة مع بعض الوزراء الاميركيين، للحؤول دون تحقيق اللقاء في البيت الأبيض. علماً بأن السفير اللبناني في واشنطن فريد عبود يردد في مجالسه بأنه لا يجوز تحميل الديبلوماسية اللبنانية تبعات القرار الاميركي، وبأنه شخصياً سعى الى ترتيب الموعد، لكن الادارة اعتذرت بسبب انشغال الرئيس بقضايا داخلية ملحة. ويؤكد مرافقو البطريرك ان البيت الأبيض وعده بتحديد موعد لاحق، الأمر الذي يؤكد الرغبة في تأجيل اللقاء بدلاً من الإلغاء. يتذكر اللبنانيون المنافسات المتواصلة بين رؤساء الجمهوريات والبطاركة على الاحتفاظ بالدور المركزي لمرجعية الطائفة المارونية. ولقد أدى الخلاف بين كميل شمعون والبطريرك المعوشي الى نزاع مفتوح أيد فيه سيد بكركي خصوم الرئيس في ثورة 1958. وكان أنصار شمعون يطلقون عليه لقب "محمد المعوشي"، في حين واصل البطريرك تمثيل دور متوازن خوفاً من اهتزاز معادلة الوفاق الوطني والسقوط في لجة الفتنة الطائفية. ومع ان حال العداء بين الرئيس فؤاد شهاب والمعوشي لم تبلغ هذا المستوى من الخصام السافر، إلا ان البطريرك عارض موجة التجديد لشهاب، ونجح في اقناع الرئيس الاميركي جون كينيدي بمخاطر تكرار أزمة 1952. ولقد بلغ الخلاف السياسي بينهما حداً لم يكن بالمستطاع اخفاء مظاهره عن الناس. وحدث أثناء زيارة رعوية للولايات المتحدة كالتي قام بها صفير، ان نشطت الاجهزة الشهابية لمنع لقاء المعوشي والرئيس كينيدي. ولم ينفع تدخل الخارجية اللبنانية في نسف الموعد بسبب نفوذ البطريرك مع الكرادلة المحيطين بالرئيس الكاثوليكي. ولما فشل انطوان سعد، رئيس المكتب الثاني، في مهمته في واشنطن، وتأكد ان زيارة البطريرك ستتم في موعدها، طلب من السفير ابراهيم الاحدب حضور اللقاء بصفته الممثل الرسمي للرئيس شهاب. وكانت الغاية من حشر السفير في هذا اللقاء تفويت الفرصة على المعوشي، ومنعه من انتقاد الرئيس شهاب. واضطر البطريرك الى الاستعانة بالمترجم كميل نوفل لتأمين لقاء انفرادي يستطيع خلاله المعوشي الكشف عن مكنونات صدره. ولما انتهى الاجتماع استأذن كينيدي السفير الأحدب، وقال للبطريرك: "تفضل معي الى الحديقة لكي أريك المكان الذي اختير لغرس شجيرة الأزر التي حملتها لي كهدية من لبنان". وكانت الدقائق الخمس كافية لنسف مشروع التجديد لفؤاد شهاب، واقناع الرئيس الاميركي بأن لبنان مقبل على انفجار شبيه بانفجار 1958. ومع ان البطريرك الماروني خريش لم يكن مهتماً بسرقة دور المرجعية من زعماء الموارنة، الا ان وقوفه على الحياد في حرب 1975 عرضه لحملة استفزاز شنها المقاتلون ضده. ولما رفض زج بكركي في النزاع القائم، طلب منه بشير الجميل مغادرة كسروان والتوجه الى قريته في الجنوب. وهكذا عاش خريش هواجس الخوف من الاغتيال، خصوصاً بعد إلقاء قنبلة في ساحة بكركي، وتهديده من قبل إحدى المحازبات بالقتل ذبحاً. وعندما اشتدت الضغوط عليه، أصيب بمرض العزلة والانطواء والخرف المبكر! واجه البطريرك صفير تحديات السياسيين والعسكريين المطالبين باستئثار المرجعية المارونية، بدءاً بالعماد ميشال عون... مروراً بالرئيس الياس الهراوي... وانتهاء بالرئيس اميل لحود. واشتدت حدة الخلافات بينه وبين الرئيس الهراوي حول الموضوع السوري في لبنان، بحيث اصبح انتقاد الرئاسة والتشكيك بصدق مرجعيتها، لازمة تتردد في كل خطبه وعظاته. ويبدو ان الهراوي تحاشى افتعال ازمة مع بكركي، علماً بأنه كان ينتقد اداء البطريرك في عظات الاحد ويسمي خطبه "جورنال دو ديمانش" اي "جريدة الاحد". والملاحظ ان الرئيس اميل لحود يسعى جاهداً لامتصاص اصداء التشكيك بشرعية الدولة اللبنانية، وانزالها منزلة الدويلة الملحقة والتابعة للجمهورية العربية السورية. لذلك حرص على زيارة الفاتيكان واعلان موقف منسجم مع طروحات البابا، في وقت كان البطريرك صفير يخاطب جموع المغتربين في الولاياتالمتحدة ويقول لهم: "ان الدولة اللبنانية هي صنيعة الدولة السورية"، اي انه نزع عنها رداء الشرعية الوطنية، واتهمها بتزوير القرار الحر المستقل. ومع ان تعليق الرئيس اميل لحود على هذه الاتهامات لم يكن مباشراً، الا ان القراء فهموا الغاية من انكاره العلني لأي تدخل سوري في الشأن اللبناني، كما فهموا المعاني المستترة من وراء كل دعوة تربط الانسحاب السوري بالانسحاب الاسرائيلي. وحدد الرئيس لحود موعد انسحاب القوات السورية مع موعد تنفيذ مشروع السلام الشامل، وقال ان من يطالب اليوم بانسحاب سورية من لبنان، انما يطالب بعودة الاحتلال الاسرائيلي. واعترض البطريرك على ربط الطروحات المفيدة للبنان بالموقف المفيد لاسرائيل، وقال ان المطالبة بضرورة معاملة لبنان كدولة مستقلة، لا يجوز ان تصنّف في خانة العمالة او السياسة الجاهلة. سئل البطريرك صفير عما اذا كان مستعداً للانتقال الى دمشق اثناء زيارة البابا لسورية، فأجاب بأن هذا الامر لا يزال قيد البحث. والسبب في رأيه، ان البحث جاء لمعرفة الوقع السلبي او الايجابي الذي ستحدثه الزيارة لدى الرأي العام اللبناني. وواضح ان هذا الجواب الغامض يحتمل تأويلين: اما ان حاضرة الفاتيكان تدرس وقع هذه الزيارة من خلال تأثير انعكاساتها على المجتمع المسيحي في لبنان... او ان بكركي تدرس من جهتها مدى الفائدة التي يجنيها الموارنة من وراء زيارة مفروضة على البطريرك صفير لم يسبق لدمشق ان رحّبت بها. ويستفاد من طبيعة الحوار الذي اجراه الرئيس لحود في الفاتيكان، انه رحّب بزيارة البابا لسورية معتبراً انها تكملة لزيارة لبنان، في حين سجل البطريرك تحفظه على الزيارة لئلا تستغل من قبل النظام السوري لتحسين موقعه السياسي في لبنان. يقول احد وسطاء الخير بين بكركي ودمشق ان الرئيس الدكتور بشّار الاسد يعرف جيداً القيمة المعنوية التي يتمتع بها البطريرك الماروني، ولكنه من موقع القيادة في نظام علماني لا يستطيع ان يخصه بدعوة لزيارة سورية. ومثل هذا الكلام ردده مراراً عبدالحليم خدام الذي انتقد البطريرك لانه زار المسيحيين في دولة جنوب افريقيا قبل ان يزور المسيحيين في سورية. والثابت ان نظرة سورية الى بكركي تختلف عن نظرة سائر الدول اليها بما في ذلك الدول ذات النظام العلماني مثل الولاياتالمتحدة وفرنسا. والمعروف تقليدياً ان البيت الابيض لا يخص رجال الدين باستقبالات رسمية. ولقد أُعطي البطريرك الماروني ميزة استثنائية نظراً لما يمثله نحو طائفته من مرجعية سياسية مُضافة الى المرجعية الدينية. وعلى هذا المستوى تعامل البيت الابيض مع المطران مكاريوس، بصفته رئيساً سياسياً لبلاده لا زعيماً روحياً فقط. وبما ان سورية لا تعترف بالصفة السياسية التي توليها الطائفة المارونية للبطريرك، لذلك يبقى صفير في نظرها مرجعية روحية لا مرجعية سياسية مثل الرئيس اميل لحود. الاستثناء الوحيد الذي ميزت به دمشق رجل دين عن سائر اقرانه من المسلمين والمسيحيين، كان السيد حسن نصر الله، لأن قاعدة التعامل بالنظام العلماني، تسقط امام قاعدة التعامل بالموقف المعادي لاسرائيل! * كاتب وصحافي لبناني.