الأسباب التي دعت الكنيسة المارونية الى التردد في اتخاذ قرار نهائي بصدد قيام البطريرك نصرالله صفير بزيارة دمشق الى جانب البابا ليست من الأسرار الكنسية. البطريرك غير راض عن السياسة السورية في لبنان، وهو يسعى الى تغييرها. وحيث ان قيام الشخصيات اللبنانية بزيارة دمشق اكتسب معنى الموافقة على سياستها في لبنان، فإن البطريرك صفير امتنع، منذ اختياره رأساً للكنيسة المارونية، عن ولوج هذا الطريق. في الآونة الأخيرة، بات لهذا الموقف دلالة أكبر حيث ان البطريرك انتقل من المعارضة شبه الصامتة لسياسة دمشقاللبنانية الى المعارضة الصريحة لها، وهي معارضة تلاقت مع تحركات سياسية وشعبية قام بها المعارضون المتشددون لهذه السياسة. في مثل هذا الظرف تبدو الزيارة في غير وقتها، فلو جاء توقيت زيارة البابا الى سورية قبل سنة أو اكثر، أي عندما كانت معارضة البطريرك الماروني السياسة السورية أقل وضوحاً لكان من الأسهل اتخاذ القرار بصدد الزيارة، أما الآن فإنه ليس من السهل على الكنيسة ان تبدو وكأنها تراجعت عما اتخذته من مواقف متكررة تجاه العلاقات مع دمشق خلال الأشهر الأخيرة. من هذه الزاوية، فإنه يمكن فهم دقة الحال التي تواجهها الكنيسة المارونية، وصعوبة اتخاذ قرار حاسم وسريع في قضية الزيارة. إلا ان هناك اعتبارات اخرى كان من المستحسن مراعاتها عند النظر في مسألة من هذا النوع. هناك أولاً طابع الزيارة العام. البطريركية أعلنت ان فكرة الزيارة تعرضت الى التسييس، ومن هنا كان القرار بصرف النظر عنها. والحقيقة ان الذي تعرض الى التسييس ليس الزيارة فحسب، بل الامتناع عن الزيارة أيضاً. وسيكون من الصعب جداً على البطريركية إقناع الذين عارضوا الزيارة لأسباب سياسية وتمنوا على البطريرك الامتناع عن تنفيذها، انهم لم يحققوا كسباً مهماً في الصراع الدائر بينهم وبين دمشق عندما أعلنت البطريركية ان الزيارة لن تتم، كما انه سيكون صعباً جداً إقناع المعنيين من اللبنانيين ان الزيارة لم تتم لاعتبارات رعوية. فضلاً عن ذلك، فان الفصل الصارم بين الرعوي والسياسي أمر مستحيل تقريباً، والظلال السياسية تلحق بأي زيارة يقوم بها مرجع ديني بارز. ولو أراد البابا التخلص من مثل هذه الظلال لكان بقي على الأرجح في روما وامتنع عن زيارة معظم الدول التي خصها بالزيارة والبركة. والزيارة الى دمشق تندرج في سلسلة من الزيارات التي يقوم بها البابا الى دول ذات أنظمة وسياسات متنوعة ومتعددة. من المؤكد ان البابا لا يشاطر فيدل كاسترو رأيه في الدين وفي الكنيسة وفي مصادرته ممتلكاتها والحد من حرياتها في كوبا، كما انه لا يشاركه نظرته الى الحريات الفردية والعلاقات الاجتماعية، ولا هو من محبذي النشاطات التي قام بها الزعيم الكوبي لتصدير الثورة الى مجتمعات اميركية اخرى. وإذا كان في الكنيسة من يتعاطف بعض الشيء مع ما يمثله كاسترو من سعي الى المساواة الاجتماعية، فإن البابا ليس واحداً من هؤلاء، بل انه، على العكس من ذلك، أقرب الى مناهضي كاسترو في ميامي وفلوريدا منه الى النخبة الثورية الحاكمة في هافانا. على رغم ذلك كله قام البابا بزيارة كوبا وفي ذهنه وأذهان مهندسي تلك الزيارة الوصول الى ملايين المواطنين من معتنقي الدين المسيحي الذي يعيشون في الجزيرة الاميركية اللاتينية. المقارنة قد لا تكون دقيقة هنا. كوبا بلد تعتنق أكثرية سكانه المسيحية، وسورية يعتنق اكثرية سكانها الاسلام. الفاتيكان لا يشعر انه طرف في مشكلة مباشرة مع هافانا أو دمشق. الأمر مختلف، اذن، بالنسبة الى الكنيسة المارونية. هذا الاختلاف يرجع الى ان الكنيسة المارونية تشعر بأنها معنية بالدرجة الأولى بالشأن اللبناني طالما انه توجد علاقة وثيقة بين الموارنة ولبنان. هذا صحيح، ودور الكنيسة في لبنان وصلتها بقيام الدولة اللبنانية ليستا موضع جدل. ولكن هل الكنيسة المارونية لبنانية فحسب؟ هذا ما يطرح الاعتبار الثاني الذي يتصل بموضوع زيارة البطريرك صفير الى دمشق أو الى أي بلد عربي آخر. وهو الاعتبار المتعلق بهوية الكنيسة المارونية وبدورها في المنطقة. ان الكنيسة المارونية هي لبنانية وسورية ايضاً. هذا ما يقوله التاريخ. هذا ما تقوله الآثار الحضارية الكثيرة التي نثرتها الكنيسة المارونية في الأراضي السورية خصوصاً بين القرنين الرابع والسابع ميلاديين. والكنيسة المارونية هي ايضاً كنيسة شرقية وعربية. وهي ليست كنيسة عربية عادية وإلا لما أصبح البطريرك عريضة في منتصف الثلاثينات "حبيب الله" عند المصلين في جوامع دمشق، ولما أصبح البطريرك المعوشي في منتصف الخمسينات "بطريرك العرب". هذه التوصيفات جاءت في ضوء مواقف سياسية محددة اتخذتها البطريركية المارونية، ولكنها عبرت ايضاً عن معطيات لا تستهلكها الاحداث العابرة والمواقف الطارئة. ان العلاقة المثلثة بين الكنيسة المارونية ولبنان والمحيط العربي اعطت البطريركية موقعاً مرموقاً ومميزاً في حياة المنطقة الروحية. ومن هنا كان لوثيقة الإرشاد الرسولي الذي دعا فيه البابا الكنيسة الكاثوليكية الى التفاعل والتكامل مع محيطها نكهة خاصة في لبنان. ومن هنا كانت ردة فعل البطريرك صفير عندما سئل في مقابلة تلفزيونية عن موضوع العزلة عن الجسم العربي، فرد على محدثه بشيء من الحدة قائلاً: كيف تحدثني عن العزلة ونحن من أكثر الطوائف انتشاراً في المحيط العربي؟ كيف نكون دعاة عزلة بينما لنا في كل بيت عربي أكثر من أثر؟ في ضوء الوضع اللبناني والعربي معاً للكنيسة المارونية فإن النظر في مسألة زيارة دمشق قد يكون مدخلاً الى مناقشة ما يتعدى الحدث العابر الذي ينتهي مفعوله بعودة البابا الى الفاتيكان والبطريرك الى بكركي. انها قد تكون مدخلاً مناسباً للبحث في دور البطريركية المارونية في المنطقة العربية وفي أوجه تنشيطه وفي تعزيز التفاعل الانساني والروحي بين ديانات المنطقة المختلفة. ولا ريب ان البطريركية المارونية تستطيع ان تفعل الكثير على هذا الصعيد. فقبل اسابيع قليلة نظمت الجزائر ملتقى دولياً حول القديس اوغسطين الذي "تُذكر شخصيته بالمزج الهائل بين الاجناس والثقافات التي عرفته العصور القديمة"، وكذلك "بالوحدة العميقة التي طبعت العالم المتوسطي... الذي نشأت فيه الديانات الثلاث التوحيدية"، كما جاء في كلمة الافتتاح التي ألقاها الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة. لقد غابت الكنيسة المارونية عن هذا الاحتفال ذي المعاني الروحية والسياسية المهمة الذي كرم رجل دين انبتته الأرض الجزائرية فكان واحداً من أهم مفكري الكنيسة الكاثوليكية وابعدهم أثراً في تطور الفكر السياسي عموماً. ولو شاركت الكنيسة المارونية في هذا الاحتفال لافادت من فرصة مهمة للتأكيد على تنوع المنطقة العربية روحياً وحضارياً، ولجسدت بصورة ملموسة المعاني التي لمح اليها الرئيس الجزائري في كلمته. وغير الاحتفال بذكرى القديس اوغسطين، هناك ما لا حصر له من القضايا التي تستحق ان توليها الكنيسة المارونية الاهتمام تجاوباً مع ما جاء في الإرشاد الرسولي ومع مكانة الكنيسة المارونية في بنيان المسيحية الشرقية. هناك في فلسطين قضية القدس ذات الحجم الانساني العظيم، وقضية قريتي اقرت وكفر برعم ذات الصلة الوثيقة بحقوق الموارنة التي حرمتهم اسرائيل منها، وفي العراق مسألة العقوبات التي تدعو الكنيسة الكاثوليكية الى وضع حد لها، وفي السودان مساعي المصالحة الدينية والسياسية. كل ذلك يستحق مراجعة لوضع الكنيسة في المنطقة تبدأ عند النظر في مسألة الزيارة الى دمشق، ولكنها لا تتوقف عندها ولا تنتهي بها. ثم ان الزيارة الى دمشق، وهنا الاعتبار الثالث، لا تعني تبدلاً في المواقف ولا تغييراً في المعتقدات ولا تراجعاً عن مطلب ولا تنازلاً في غير موضعه. انها تظهر رأي البطريركية والبطريرك في اطار يميزه عن العداء لسورية وللسوريين كشعب صديق - وهذا ما طفا احياناً على السطح خلال التظاهرات التي تناولت قضية الوجود السوري في لبنان - وتضعه في اطار العمل النشيط على تغيير سياسة الحكومة السورية تجاه الأوضاع اللبنانية فحسب، ووضع حد للأخطاء التي ترتكب على هذا الصعيد. وهذا ما يسعى اليه البطريرك تحديداً. بمقدار ما كانت الزيارة الى دمشق مناسبة لإعادة النظر في علاقات الكنيسة السورية والعربية، فإنها كانت ايضاً مناسبة لكي تعيد دمشق النظر فيها بسياستها اللبنانية. المعروف والشائع في هذه السياسة ان سورية تعارض حتى الآن الافراج عن سمير جعجع، كما تعارض ايضاً عودة بعض المبعدين السياسيين ومنهم ميشال عون. ان اعادة النظر في هذا الموقف وفي بعض أوجه السياسة السورية الأخرى تخدم الوضع في لبنان، ومن ثم فإنها لا تضر بسورية. النظرية القائلة بأن عودة جعجع وعون الى ساحة العمل السياسي ستؤدي الى القضاء على الزعماء الموارنة المتحالفين مع سورية لا تستند الى اساس دقيق. الشخصيات اللبنانية التي تتحالف أو تتعاون مع سورية هي على نوعين: الأول له شرعية سواء دعمته سورية أم لا، والثاني يعتمد أولاً وأخيراً على الدعم السوري له. النوع الأول لا يضعف بعودة جعجع وعون الى الحياة العامة، ولا يخسر باستعادة اللعبة السياسية مناخها العادي والطبيعي. ان عودة جعجع وعون الى الحياة العامة يساعد على تخليص الحياة العامة من الاحتقانات ومن التطلعات الخلاصية غير الواقعية. هذا المنحى لا يضير من هو جزء من النسيج العادي للحياة السياسية اللبنانية. انه يضر النمط الثاني من الشخصيات اللبنانية الذي لم يكن يملك يوماً ولا استطاع ان يبني أية قاعدة له في أوساط اللبنانيين، بل يعتمد كلياً على الدعم الخارجي للبقاء. كثير من هؤلاء من يسبب الضرر لدمشق بمقدار ما يسبب الضرر للبنان. فإذا كانت عودة عون الى لبنان وخروج جعجع من السجن يؤدي الى غياب البعض من النمط الثاني من الاشخاص فإنه يفيد دمشق ان تستعجل هذه العودة وان تشجعها. واذا سارت دمشق على هذا الطريق، وإذا فهم ان هذا الموقف على انه من باب الرد على زيارة البطريرك وعلى نقده التشنج لدى الخوض في قضية العلاقات مع سورية وتأكيده بأن اللبنانيين يحملون في قلوبهم الهموم المشتركة مع سورية ومنها قضية الجولان، اذا كانت زيارة البطريرك الماروني للعاصمة السورية مدخلاً الى مراجعة دمشق لسياستها اللبنانية، فإن هذه الزيارة تكون قد حققت نتائج تخدم لبنان وسورية والكنيسة المارونية. لقد أعلن بيان البطريركية ان البطريرك صفير لن يزور دمشق. واذا كان ثمة مجال لمراجعة هذا الموقف، واذا كان ثمة مجال لكي ينضم البطريرك الى البابا في زيارته الى دمشق فان منافع الزيارة تستحق تراجعاً من جانب البطريركية. هذا التراجع لن يكون سهلاً، وقد يسبب للكنيسة المارونية بعض الحرج، ولكنه سيلقى من التجاوب ما يذهب بسلبيات التراجع ويبقي على حسناته وميزاته. * كاتب وباحث لبناني.