العمليات الانتحارية، بعد كثرة استخدامها في أغراض مشبوهة الهدف، المباشر والبعيد المدى، موضوع أسئلة حقيقية. وتصبح الإجابات عنها قضية راهنة لا تقبل المراوغة ولا تحتمل التأجيل. وقد مضى زمن كان المعترضون عليها من الناحيتين المبدئية والسياسية - وأنا منهم - مكرهين على تأجيل الجهر بمواقفهم في شأنها - باستثناء الموقف من العمليات ضد المدنيين في اسرائيل - وذلك احتراماً لمعركة وطنية، في لبنان وفلسطين، تتصل بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي الغاشم لأراضي البلدين، في ظروف كاد العالم فيها يتجاهل حق الشعبين في الحرية والتحرير والاستقلال. اليوم أصبحت الصورة مختلفة. فقد تحرر لبنان من الاحتلال الاسرائيلي. وانتقل النضال الفلسطيني الى مرحلة جديدة، مختلفة أشكاله وأدواته واستهدافاته المباشرة. وباتت العمليات الانتحارية، في العراق خصوصاً، وكذلك في بلدان عربية اخرى، تتخذ صفة العمل الهمجي الذي يستخدم اشخاصاً مهووسين، مضللين، في اعمال قتل لمجموعات مدنية في أماكن عملها وفي أماكن سكنها، وذلك باسم مقاومة الاحتلال، من دون ان تشكل تلك العمليات أذى حقيقياً لهذا الاحتلال. بل ربما قدمت وتقدم له امام الشعب العراقي مبرر بقائه لمدد أطول، تحت شعار محاربة الارهاب الذي يقلق الأمن الشعبي والوطني. وهو شعار يكتسب أهمية استثنائية بالنسبة الى الشعب العراقي، في هذه المرحلة التي تتخذ فيها العملية السياسية طابع عملية انقاذية، - على رغم كل التباساتها - لاخراج العراق من نفق الاستبداد ونفق الاحتلال الذي أطاح نظام ذلك الاستبداد. في ظل ما نشهده كل يوم على شاشات التلفزة من عمليات انتحارية، ومن سيارات مفخخة، ومن عبوات تزرع في حاويات القمامات وفي جنبات الطرق المزدحمة بالمارة، وفي الأسواق الشعبية التي تغص بالكثرة من الفقراء وبالقلة من الاغنياء، وفي الفنادق التي يرتادها رجال الاعمال من كل الجنسيات الذين يغامرون بحياتهم وبأموالهم من اجل انعاش اقتصاد البلاد ومن أجل جني الأرباح معاً، وفي اماكن تجمع رجال الأمن وأفراد القوات المسلحة، الذين يسعون الى العمل من أجل كسب رزقهم، ويسهمون في الوقت عينه في بناء المؤسسة التي ستحل محل جيش الاحتلال في مرحلة ما بعد التحرر والحرية والاستقلال والديموقراطية المنشودة التي ينتظرها الشعب العراقي بشوق كبير، في ظل كل هذا الذي نشهده من أساليب قتل جماعي عبثي مدمر، نحب ان نعلن، وبصراحة كاملة، ما كنا قد أجلنا اعلانه للأسباب الآنف ذكرها، اعتراضنا المبدئي والسياسي على العمليات الانتحارية من أساسها، أياً كانت الاهداف التي تبرر اللجوء اليها، بما في ذلك أعظم هذه الاهداف شأناً، الحرية والتحرر والتغيير. ونستند في اعتراضنا هذا على هذا النوع وهذا الشكل من العمل السياسي - وامتشاق السلاح في مثل هذه الحالات هو عمل سياسي بامتياز - الا ان قتل النفس عمداً، فضلاً عن التحريض عليه من قبل اصحاب الأمر، هو عمل معاد للحرية وللحياة ذاتها، ومعاد في الأساس للقيمة التي يمثلها الانسان الفرد باعتباره أثمن رأسمال في الوجود. ونزعم ان كل العقائد الدينية، وكل حركات الاصلاح في التاريخ، وكل المشاريع الكبرى حاملة افكار التغيير لتحقيق السعادة والحرية والتقدم للبشر، انما تؤكد في مبادئها الاساسية ان الانسان الفرد هو قيمة انسانية قائمة بذاتها، ومن أجله ومن اجل سعادته توضع القوانين والشرائع. ذلك ان هدف هذه العقائد والحركات والمشاريع هو تأمين الشروط التي تتيح للانسان العيش والبقاء بكامل حقوقه. اما النضال من اجل هذه الغاية الانسانية الكبرى فيتخذ اشكالاً لا حصر لها، من بينها النضال بالسلاح. والمغامرة بالحياة في هذا النضال المحسوبة نتائجها، وحتى تلك التي لا يمكن حساب نتائجها حين تأتي على غير موعد وفي ظروف لا يمكن التحكم بها، انما تفترض دائماً احتمال عودة المناضلين من جبهات النضال احياء، ولو معوقين احياناً، قادرين على الاستمرار في الحياة وفق موجباتها التي يوفرها لكل فرد مكانه وموقعه في مجتمع بلاده. هذا ما قدمته لنا تجارب الشعوب قديماً وحديثاً، في معاركها المتعددة الاشكال والاهداف. وهذا ما استقيناه من قراءاتنا - التي قد تكون منقوصة ونأمل بأن يرشدنا الى الحقيقة عنها العارفون بها - للمعارك التي خاضها الديانة المسيحية عبر تاريخها الطويل من اجل تثبيت مواقعها، والمعارك التي خاضتها الديانة الاسلامية ومثالها الاعلى حروب الرسول، لا تقدم أي صيغة تشير الى ان العمليات الانتحارية كانت جزءاً من اشكال النضال في تلك المعارك. وقد استشرنا في هذا الامر مراجع دينية اسلامية - شيعية وسنية - فلم يأتنا جواب يناقض ما دلتنا إليه قراءاتنا لتاريخ الاسلام. صحيح ان تلك المعارك والحروب كانت ضارية ووقع فيها العديد من القتلى. لكنها كانت حروباً، بكل ما تتصف به الحروب جميعها في التاريخ القديم والحديث من اشكال قتال ومواجهات وضراوة ووحشية في كليهما. وتؤكد كل المعطيات التاريخية ان الامام الشهيد الحسين بن علي لم يختر بنفسه المعركة التي استشهد فيها. بل هي فرضت عليه خارج ارادته، فواجهها بشجاعة المؤمن بعقيدته، الثابت على مبادئها وقيمها، مفضلاً الاستشهاد بكرامة على الحياة بذل. ويروي عن الإمام علي بن أبي طالب ان احد الفرسان من أتباعه اقترح عليه اقتحام حشد من خصومه، فمنعه الإمام قائلاً له بما معناه ان عمله سيكون عملاً انتحارياً. فلما ألح الفارس على الإمام قائلاً إن حياته فداء للإمام وللإسلام، أجابه الإمام قاطعاً وجازماً بأنه ضد عملية محسوم فيها الموت، وهو لذلك يرفضها. ولم نعرف في تاريخ المقاومات، التي اشتهرت في الحرب العالمية الثانية في الاتحاد السوفياتي السابق وفي بلدان أوروبا الغربية والشرقية، وكذلك في الحروب الثورية التحررية التي خاضتها شعوب الصين والفيتنام وكوبا، الا مثل البطلة الروسية زويا، التي وجدت نفسها في لحظة امام موت محتوم، فاختارت ان يكون موتها في عملية انتحارية ضد آليات الجيش النازي الزاحف. وكان من نتائج تلك العملية ان توقف زحف القوات المعادية. ولذلك اعتبرت زويا بطلة الاتحاد السوفياتي. ولم نعرف أمثلة اخرى غيرها. آن الأوان لكي نخرج شعوبنا العربية من هذا النمط من الاعمال التي اساءت الينا - على رغم ان بعض تلك العمليات قد أثار إعجاب ودهشة وتقدير العالم - وأساءت الى نضالنا الوطني التحرري، بفعل استمرارها وتحولها الى نمط نضالي راسخ. وصنفتنا تلك العمليات لكثرة استخدامها في اهداف مدنية كشعوب - أو صنفت مناضلين لا نريد لهم ان يكونوا كذلك -"ارهابيين"، أو"همجاً"، نضحي، بدم بارد، بشبابنا الذين هم مستقبل بلداننا، بما في ذلك في المعارك الوطنية الصحيحة. وتركت هذه العمليات، حتى وهي تساهم في تقديم انتصارات لا نشك في أهميتها، آثاراً سلبية مؤكدة، علينا وعلى قضايانا. ولسنا نريد لشعوبنا، ولا للذين يقاتلون بشجاعة من أجل الحرية، باسماء وشعارات ورايات متعددة بما فيها راية الدين، ان تكون وأن يكونوا صنو بن لادن، ربيب الامبريالية الأميركية القديم، وخصمها الحالي - ونسأل هل هو حقاً خصم لها ام حليف من نوع عجيب! ? بن لادن القابع في كهوف التاريخ. ومن هذه الكهوف بالذات، وباسم شعارات عنصرية حملها تعسفاً للاسلام، أرسل أناساً مستلبي الارادة، قرروا قتل أنفسهم، وفرضوا بالقسر على اناس أبرياء مشاركتهم في قتل أنفسهم، وذلك في عملية قتل أبرياء آخرين لا ناقة لهم ولا جمل! وكان المثال الفاقع الفظ على ذلك بوحشية وهمجية ما حصل في الحادي عشر من ايلول سبتمبر في الولاياتالمتحدة الاميركية. ثم تكرر المشهد، ولا يزال، في العراق خصوصاً وكذلك في السعودية. وكان قد حصل مثله في المغرب وفي اسبانيا. وهو يحصل في بلدان اخرى ابتليت بهذا النوع من الجرائم الكبرى النادرة المثال في التاريخ الحديث. آن الأوان لكي نتحرر ونحرر شعوبنا من هذا النمط من العمل الانتحاري، وان نتكاتف لتحرير العراق الشهيد من اخطاره التي تثقل هذه المرحلة من تاريخه. وهي مرحلة جديدة بكل المعاني، ينتقل فيها هذا البلد العربي الكبير بصعوبة قصوى وبأثمان باهظة من عصر قديم بائد الى عصر جديد مختلف، ومن واقع ظالم ومظلم الى واقع مشرق، او محتمل الاشراق، ومن نظام استبداد بغيض الى مشروع نظام ديموقراطي تعددي فيديرالي. إنها صرخة من أعماق الروح ومن أعماق الاحساس بقيمة الانسان ومن أعماق الاحساس بالمسؤولية عن قضايانا، نأمل بأن تجد لها صدى في عقول ومشاعر شعوبنا العربية، وعقول ومشاعر القوى الحية فيها من كل التيارات والمرجعيات السياسية والفكرية. كاتب لبناني.